في مدريد سقط مائتا قتيل وألف وستمئة جريح وستون ألف متضرر مادي أو نفسي مباشر أو غير مباشر من الأبرياء !ولكن في مدريد ومع كل هذه الضحايا البريئة المظلومة كان الاسلام ودون أدنى شك الضحية الأولى , ومرّ اغتيال الشيخ أحمد ياسين ومن ورائه الدكتور عبد العزيز الرنتيسي وكأن شيئا لم يحدث , وكانت القضية الفلسطينية قد أصيبت في الصميم أقف أمام الصفحة ناصعة البياض , كما أمام الشاشة الالكترونية وكلاهما تنتظران أن أترك فيهما شهادتي على الأيام الأربعين العصيبة التي عاشتها مدريد منذ الحادي عشر من آذار الماضي , وتعيشها مع مدريد الجاليات العربية والمسلمة المقيمة فيها .
أنظر الى الصفحات البيض أمامي ولاأرى الا الدم , كل شيء في حياتنا أصبح ملوثا بالدم والقهر والحزن والألم , اختلط الحابل بالنابل , الجهاد بالقتل العشوائي , والاستشهاد بالارهاب , والاسلام اختلط اسمه بشهوة سفك الدماء , اختلط اسم سيد الشهداء في عصرنا الشيخ أحمد ياسين باسم الجريمة المنظمة , وجراح القدس المقدسة النازفة اختلطت في الأذهان بالاعتداء على الابرياء باسم الحروب المقدسة التي تشن هنا وهناك.
أيد وأرجل مبعثرة مبتورة , لحم آدمي مشوي في كل مكان , أجساد متفجرة قد تناثرت أشلاؤها, ودماغ الشيخ مندلقة , تحرر ذلك الجسد , وأبى الدماغ إلا أن يتحرر من أسر الجمجمة الطاهرة.
اجتمعت علينا في مدريد جراح صعبة مستعصية , أولها معاناة الألم الانساني الذي نزل بأهل مدريد , جراحهم كانت تنزف في أجسادنا , دموعهم كانت تنسكب كذلك في روعنا , هرولتهم للملمة القهر كانت ألما في نفوسنا , تلك القاطرات كانت قد تفجرت ذلك الصباح في قلب كل انسان يعيش في مدريد , في قلب العمال الذاهبين الى أعمالهم , فقراء يسافرون مع الفجر طلبا للرزق , هاجروا من أقطار الأرض ساعين على ولد وأهل يسدون جوعتهم , فوجدوا الموت الظالم في تلك القطارات الصباحية التي كانت مكتظة بالدفء الانساني , وأنفاس المهرولين مع النعاس يغمسون اللقمة بالعرق , وهم لايدرون أن أقدارهم أبت الا أن تغرقهم في دوامة من الدم فاغرة فاها تبتلع مدينة ودولة وحكومة وقارّة , كما ستبتلع _كما ظهر فيم بعد_ سياسات عالمية وخططا دولية وترتيبات لحروب شاملة وقائية وغير وقائية , ولكنها قبل ذلك وبعده ابتلعت من حيث أراد منفذوها أم لم يريدوا ديناً وجالية وحواراً وتعايشاً وآمالاً وجهوداً طويلة مضنية على مر نصف قرن من الزمان.. هكذا بدا المشهد بعيد الحادي عشر من آذار , وهذه هي الأخطار السوداء التي كانت تسيطر على الجميع وقريبا في الزمان والمكان والأذهان ماثلة كانت قصص الهول البوسنية الفظيعة وصور الهجرة الكوسوفية المليونية المريعة !.
وكأنه لم يكف أهل مدريد من العرب والمسلمين ماحل بهم , فلم نكد نستفق من هول مانزل بالمدينة المكلومة بُعيد الحادي عشر من آذار, وقبل مُضي أربع وعشرين ساعة على تلك التفجيرات , حتى زُلزل المسلمون في مدريد زلزالا شديدا وهم يسمعون تسرب ذلك التنين المرعب , تندلق النار من أحشائه لتحرق الأخضر واليابس ...."إن الفعلة من العرب المسلمين "!!.
شريط قرآن في شاحنة , ثم فيديو يُصر ويؤكد على أن الفاعلين هم من أبناء جلدتنا , ولم يجد القوم إلا سلة قمامة لصيقة بمسجد مدريد الرئيسي ليتركوا فيها بصمتهم على ذلك التفجير.
أنا وهو وهي , كل مسلم في مدريد صغارنا وكبارنا , عقلاؤنا ومجانيننا , الملتزم منا بدينه والذي لم يقصد مسجدا للصلاة فيه قط! ..كلنا متهم بالقتل والارهاب , كلنا ينتمي الى هذا الدين الذي طالما كره القوم وجود أتباعه بين ظهرانيهم جهلا به تارة وحقدا وحماقة تارات وتارات, الدين الذي يُضطهد هنا بالألسنة اللاذعة والعيون الهامزة اللامزة وأجهزة الاعلام الظالمة المجحفة .
نحن لانعيش على هامش الحادي عشر من سبتمبر , إنه الحادي عشر من آذار , وهذه ليست نيوورك وواشنطن , هنا مدريد , ومدريد لم ترسل أباتشياتها لاغتيال رموز المقاومة وقياداتها في فلسطيننا , ولم تدخل بقواتها بلادنا وتعسكر في صحارينا وبيادينا ,هنا مدريد , ومدريد كانت قد خرجت عن بكرة أبيها منددة بحرب العراق !فلماذا وبالدم يحاولون كتابة التاريخ الأسود لأمة عاجزة اليوم عن الحوار وتبليغ رسالتها الى الآخرين ؟ لماذا يغتالون هذه الجالية التي تعيش على هامش الأحداث , لاتنظيم ولاقوى سياسية ولاقيادات فكرية أو ثقافية أو دينية تستطيع أن تحركها , ولولا الانتفاضة الفلسطينية مارأينا قط حركة ايجابية لهذه الجالية على هامش وجودها في مدريد!؟ لماذا بدم المساكين يريدون تغيير حكومة "أثنار" الذي خان شعبه وخان الاتحاد الاوربي الذي آوى اسبانية ونصرها ؟ ولماذا بدم المساكين في مدريد يريدون قهر الولايات المتحدة المستكبرة في الأرض ؟!.
"جمانة نمور " تسألني في قناة الجزيرة ؟ هل غيرت هذه التفجيرات من النتائج المتوقعة للانتخابات الاسبانية؟! , أتحدى الواقع وأتحدى الدم وأتحدى كل علوم السياسة والإحصاء , أصرّ على عدم الاعتراف بهذه الفاجعة ! .برنامج واحد في أية قناة تلفزيونية اسبانية عشية الانتخابات كان كفيلا بتغيير نتائج الانتخابات , تذكير الناس بالصحفي الاسباني الذي اغتالته يدّ الغدر الأمريكية كان قادرا على تغيير رأي الناس في حكومة "أثنار" المحبة لتأجيج نيران البغضاء بين الشعوب , مقال واحد في صحيفة كان بامكانه عمل الكثير , رسائل الكترونية أو حتى هاتفية كانت كفيلة بكسب أصوات الناس لصالح تغيير الحكومة , فلماذا لانريد أن نبذل أي جهد لتعلم أي لغة غير لغة الدم ؟؟, نعم... ان لغة الدم يمكن أن تُفهم من قبل الجميع , وصوت الدم هو الصوت الوحيد الذي يسمعه الجميع رغم أنوفهم طوعاً وكرهاً!, ولكن الجميع لايمكنهم قط أن ينسوا ذلك الصوت القبيح ذو اللون الأحمر الذي يفحّ في وجود المجتمعات فيحفر في وجدانها أخاديد لايمكن أن تمحى ولاأن تنسىقط!.
لم تكد الجالية المسلمة تلتقط أنفاسها للمرة الثانية لتدرك طبيعة ماحدث , حتى هزتها حقيقة أخرى أشد هولاً من الاعتداء على القطارات الآمنة , إذ لم يكن منفذوا تلك الاعتداآت من أبناء العرب المسلمين فحسب بل كانوا من شباب الجالية من الذين كانوا يقيمون بين ظهرانيها يأكلون ويشربون ويصلون في مساجدها , يدرسون في جامعات اسبانية بمنح دراسية اسبانية يدفعها الشعب الاسباني من جيبه ! كيف يمكن للمرء أن يفهم هذه المعادلة ؟ كيف يمكن للاسبان أن يفهموا هذه الصيغ الانسانية المتوحشة؟ كيف يمكن أن ينظر المجتمع الاسباني بعد اليوم للمسلمين المقيمين فيه؟ هل هم خونة ؟هل هم مارقون ؟ هل هم لصوص مروا ذات يوم بمُدنهم فعاشوا فيها وبين أهلها وتمتعوا بطعم أمن وحرية من نوع خاص بين ظهرانيها , ثم هُم وبجرة قلم خانوا الأمانة ودون أن يترددوا لحظة, ودون أن ينظروا في عيون ضحاياهم تركوا تلك الحقائب المتفجرة ونزلوا من تلك القطارات ثم ذهبوا الى مخابئهم لايلوون على شيء , اللهم الا الاعداد لتفجيرات تالية اذا لم تنزل الحكومة الاسبانية الجديدة عند أوامرهم في سحب القوات الاسبانية من العراق؟!! وهل يظن هؤلاء الحمقى أن سحب القوات الاسبانية من العراق كان انصياعاً لهم , واستجابة لرعونتهم السياسية وفهم الملتوي لنصوص الاسلام وطبيعة العصر وواقع المسلمين فيه؟!.
وهل يمكن لعاقل أن يفكر بأن هذه المجموعة من الشباب هي وحدها التي تقف وراء كل هذا الحجم من التخطيط الدولي المذهل لكبح سياسات الولايات المتحدة في الاستبداد بالأرض والثروات ؟ من يقف وراء هذه التفجيرات وهذه الاعتداآت؟ وكيف يمكن استدراج شبابنا بمثل هذه السهولة الى مواقف يندى لها جبين الانسانية ليكونوا أدوات سهلة رخيصة بيد أعداء الانسانية وأعداء الأمة