صوت الدم يرتفع عالياً عالياً , عويل الدم لايتوقف ؟ الدم بالدم ! لم يذهب دم الشيخ الشهيد رخيصاً , ولم يكن دماً مجانياً , ولم يُسفك على مذبح عجز الأمة ووهنها وصمتها واستكانتها فحسب , لقد كان دم الشيخ الشهيد في ذلك التوقيت بالذات فديّة دفعها فحُقنت بها دماء المسلمين في اسبانية هل كان يمكن تمرير جريمة اغتيال الشيخ ياسين لولا تفجيرات مدريد؟!
كان خبر تفجير القطارات في مدريد , ومن ثم اصرار من يقف وراءها على كشف هوياتهم , يتمدد سرطانا ساعة فساعة في أحشاء العرب والمسلمين المقيمين في العاصمة الاسبانية , ولم يلبثوا حتى فجعوا بخبر اغتيال الشيخ أحمد ياسين فكأنه الموت الزؤام نزل بهم ولكنهم لم يموتوا وترى الناس سكارى وماهم بسكارى ولكنه عذاب أليم نزل بالجميع !! صوت الدم يرتفع عالياً عالياً , عويل الدم لايتوقف ؟ الدم بالدم ! لم يذهب دم الشيخ الشهيد رخيصاً , ولم يكن دماً مجانياً , ولم يُسفك على مذبح عجز الأمة ووهنها وصمتها واستكانتها فحسب , لقد كان دم الشيخ الشهيد في ذلك التوقيت بالذات فديّة دفعها فحُقنت بها دماء المسلمين في اسبانية بسبب ذلك التقارب في الفجيعتين !اغتيال الشيخ المقعد بهذه الطريقة الوحشية وأمام سمع العالم وبصره , وفي مواجهة صمت التاريخ والضمائر والشعوب والحكومات والمنظمات الدولية والانسانية والحقوقية جعل المعركة بادية الملامح للجميع , وجعل الكثيرين يتفهمون طبيعة الصراع بين العرب وأعدائهم وذلك على الرغم من الإصرار على صمت الكلمات الذي أدى الى ارتفاع وتيرة كل هذا الحجم من عويل الدماء في بقاع شتى من هذه الأرض التي مُلئت اليوم ظلماً وقهراً.
هل كان يمكن لاسرائيل أن تقوم بمحاولة اغتيال الشيخ للمرة الثانية أو الثالثة وبكل هذه الوقاحة والتبجح القذر وتمرير سياسات الأمر الواقع لولا تفجيرات مدريد؟؟ هل كان للعالم أن يمر على اغتيال الشيخ بكل هذا البرود اللزج والسكوت المتواطئ والوجوم الأحمق لولا تفجيرات القطارات في مدريد؟ !!.
اغتيال الشيخ الشهيد , والتثنية بعد ذلك مباشرة بقتل الرنتيسي ..لم يأت هكذا صدفة! لقد استغلت االدولة اليهودية المجرمة الزمان المناسب وبالضبط لتنفيذ جريمتيها هاتين وبحيث لايجرؤ أحد في العالم على رفع الصوت بانتقاد أو تعنيف في ظل مذبحة مدريد التي اتّهم بالقيام بها عرب ومسلمون قاموا بتفجير أنفسهم لاحقاً عندما أحاطت بهم قوى الأمن للقبض عليهم.
أحد أهم صناع الرأي من الاشتراكيين الاسبان والذي يقدم يومياً برنامجاً اذاعياً صباحياً هو الأكثر متابعة من قبل الجمهور في طول البلاد وعرضها , جاء بنبأ اغتيال الشيخ المقعد بالطريقة التالية وبالحرف :" لقد قام الجيش الاسرائيلي بقتل شيخ الذين يقتلون الآخرين , مُعلم الارهابين كيف يفجرون أنفسهم بين المدنيين الآمنين"!.
لقد أصبح الخلط بين الارهاب والجهاد عملية منظمة في الصحافة العالمية , وتم المزج المتعمد بين الكفاح المشروع والدفاع عن النفس الذي يمارسه الشعب الفلسطيني وهو يتشبث بأرضه المغتصبة وبين ممارسات دولة الكيان الارهابي الذي يقوم باسم دفاعه عن وجوده بذبح هذا الشعب واستئصاله وإبادته على مرأى ومسمع من ضمير الانسانية الخرساء العمياء التي تصم أذنيها عن كل الجرائم الوحشية التي تقوم بها "اسرائيل" باعتبارها الدولة المدللة التي زرعها الغرب في أحشاء الأمة العربية والاسلامية لتكون جدار ردع واق لكل من تسول له نفسه أن ينتفض دفاعا عن وجود هذه الأمة .
كان لابد لاسرائيل من أن تلعب بهذه الورقة , كيف لا؟ واسبانية من الدول الاوربية التي تعد على أصابع اليد الواحدة والتي لم تفلح فيها كل جهود الاعلام الصهيوني في تغيير قناعات أغلبية الطبقة المثقفة من صناع الرأي في الاستمرار في فهم أبعاد الحق والحقيقة في القضية الفلسطينية وطبيعة الصراع بين العرب والصهاينة.
هكذا مُررت جريمة شنعاء كقيام جيش عاتٍ منظم ومجهز ومدعوم بأحدث أجهزة الدمار الشامل باغتيال شيخ في السبعين من عمره , مقعد على كرسي عجلات , وكأنها معركة بين خصمين متكافئين في العدة والسلاح ..وهي ..معركة متكافئة في واقع الأمر إذا قسنا جبروت وطغيان القوة, بثبات ورسوخ وشموخ وصمود الحق.
تفجيرات قطارات مدريد دعمت بدورها عجز أوربة عن رد الفعل أمام هذه الجريمة الشنعاء _وماتبعها من جرائم أشد هولا في كل شبر من الأرض المحتلة وخاصة في رفح_ بكل مقاييس الانسانية والحضارة والديمقراطية وحقوق الانسان والحيوان والنباتات والجماد معا.
وكان العرب والمسلمون في أوربة في موقف لايحسدون عليه وهم المتهمون جميعا بأنهم طابور إسلامي ارهابي يتشكل من خلايا نائمة لايعرف أحد كيف ومتى وفي أي ظرف سوف تستيقظ فتضرب ضرباتها الموجعة , لقد وجد مسلموا اوربة أنفسهم في وضع لم يسمح لهم بالتحرك _على العكس مما حدث منذ اندلاع الانتفاضة الثانية _إزاء حدث جلل مثل هذا الحدث المزلزل الذي كان يليق به أن يحرك الشارع العربي والعالمي وجميع المنظمات الدولية والأممية , لولا أن بعض المنتمين الى العرب والمسلمين كانوا قد قاموا للتو بإحداث مقتلة عظيمة في المكان الخطأ , في قلب اوربة , في قلب اسبانية , على حدود العالم الغربي الجنوبية , جسر الحوار اليومي الأليم بين الشمال والجنوب , الشمال المتخوم بالسلطة والقدرة على النهب والقهر والقتل عن بعد وبكاتم صوت متميز , والجنوب الممتلئ قرفاً وقهراً وألماً والذي حُرم من امتلاك كل سلاح يُمَكنه من الدفاع عن وجوده وهويته وانسانيته وكرامته..فلم يجد إلا الجوء الى سلاح دمار شامل جديد قديم يدعى سلاح الخوف والرعب , السلاح ذاته الذي كان الصرب قد استخدموه في البوسنة وكوسوفا لإخراج أهلهما منهما , كما استخدمه الفرنسيون في الجزائر لقمع الثورة التي لم تقمع , وهو.. هو السلاح عينه الذي كانت عصابات الهاغاناة الاسرائيلية قد استخدمته في فلسطين أول مرة لتحمل أهلها على الفرار بأنفسهم وأعراضهم خارج البلاد , مع فارق جوهري في القضية يجب أن يسجل هاهنا للتاريخ وهو أن مستخدموا هذا السلاح من العرب والمسلمين لم يَصِلوا بعد الى تلك الدرجة من الوحشية التي استخدمها كل من الصهاينة والصرب في فلسطين والبوسنة وكوسوفا , ولم نسمع عن مسلح اسلامي استعمل انتهاك الأعراض بصورة جماعية وأمام سمع الناس وبصرهم وسيلة من وسائل القهر ونشر الرعب والهلع في قلوب المستضعفين , كما حدث في في البوسنة وفلسطين وكما يحدث اليوم في سجن أبو غريب في العراق!.
"تنظيم القاعدة"_ إن ثبت أن هناك تنظيما يدعى كذلك_ , لجأ الى استراتيجية "توازن الرعب" كسلاح بديل في هذه المعارك غير المتكافئة بين العرب والمسلمين والغرب , متمثلا بالولايات المتحدة الأمريكية واسرائيل والتي تُرك فيها العرب وحدهم دون أي سلاح يستطيعون فيه الدفاع عن أنفسهم في مواجهة قوات تتهافت على ثرواتهم , وتنتهك مقدساتهم , وتذبح شعبهم المقدس في الأرض الفلسطينية المقدسة ..لقد أراد مستخدموا سلاح الخوف هذا ومن خلاله نقل ساحة المعركة من قلب الأرض المغتصبة السليبة الذبيحة الى هذه البلاد التي تدار من أروقة حكوماتها ومخابراتها معارك الحروب الباردة فقط في أراضيها , المتأججة ناراً وموتاً وآلاماً بشرية لاتكاد تطاق في أرجاء الأرض وخاصة في قلب بلاد العرب والمسلمين..فلسطين , واليوم العراق.
دولة الارهاب العالمي والتي فرّخت وأسست لكل أشكال الارهاب التي نراها اليوم في العالم العربي بشكل غير مباشر , وفي بقية بلدان العالم بشكل مباشر ومعروف للقاصي والداني عن طريق تورطها في تشكيل وتدريب الميليشيات المسلحة وعصابات المافيا وخلايا الاتجار بالسلاح في طول العالم وعرضه , اسرائيل هذه , استطاعت على هامش مذبحة مدريد أن توقع بالعرب _وخاصة في اوربة _ ضربة نوعية , طوابيرها الذكية لم تجد وقتاً أكثر ملاءمة من الايام التالية لمذبحة مدريد لاتمام جريمتها التي حاولت ارتكابها أكثر من مرة من قبل ! دولة الارهاب ومن ورائها حكومات العالم العربي الساهرة على راحتها وحماية حدودها بتكريس قهر المواطن العربي ومذلته وحرمانه من كل حقوقه الانسانية وبعض الحيوانية , هي السبب الرئيس في انفجار الوضع اليوم على مانراه في كل مكان من تخبط الجماعات المسلحة في العالم العربي لاتعرف كيف تتحرك ذات اليمين وذات الشمال باحثة عن العدل , عن الحرية , عن الخلاص , جند مخلصون في المعركة الخطأ , خطأ في الزمان , وخطأ في المكان , وخطأ في الاستراتيجيات , وخلط بين الرسائل الاعلامية , والرسائل الجهادية , والرسائل الشعبية..ومع الخلط جهل بالأمكنة والأزمنة والتاريخ والرسالة والاسلام نفسه, وافتقاد للتوجيه والارشاد والثقة بأي أحد , في زمن خيانات الساسة وتخاذل العلماء وانكشاف الحقائق وسقوط كل الأقنعة.
من المسؤول عن ذلك كله ؟ هل هي اسرائيل وحدها؟! دون أدنى شك , ولكن "اسرائيل" ليست هنا اسما ً لدولة دخيلة زُرعت في قلب بلادنا على جماجم الفلسطينيين وجيرانهم ,وسفك دمائهم واستلاب أعراضهم وأراضيهم ,وامتصاص الحياة من عروقهم , إنها رمز لمرحلة الذل العربي والقهر العربي والانحطاط الثقافي الذي نعيشه منذ مائة عام في ظل حكومات وأنظمة خدمت "اسرائيل" من حيث تدري ولاتدري بتضييعها وقمعها شعوبها وبعبادتها كراسي الحكم واشتئثارها ان لم نقل نهبها أموال الأمة وثرواتها , وقبل ذلك وبعده بانغلاقها على تمثل تاريخ لم تفهم منه الا الخطبة لأمير المؤمنين على المنابر وهو الذي لايفهم من فقه الايمان أو حقوق المؤمنين كلمة واحدة!.
" اسرائيل" ..لم يكن فقط اسم الكيان المُغتَصِب العدواني مصاص الدماء المدعوم من قبل الغرب تارة بالأباتشي والإف16 , وتارة بالصمت والتمرير والتبرير , "اسرائيل" اسم مرحلة طوفان الدماء وارتفاع عويل الدماء واستمرار نزيف الدماء الفلسطينية المقدسة قطرة قطرة حتى صار الدم أنهارا وبلغ السيل الزبى وجاء اليوم الطوفان يغرق الأخضر واليابس في فلسطين وخارج فلسطين , "اسرائيل" عنوان حقبة السقوط العربي بعد قرن من الضياع في متاهات القومية التي خاضت هي الأخرى في الدماء وشاركت "اسرائيل" سفك دماء العرب والكرد والأمازيغ والأتراك وكل من سولت له نفسه مخالفة في الرأي أو مراجعة للفكر أو مناقشة لأمر.
عنوان لقرن من الغرق في قماءة عاداتنا وتقاليدنا نتخبط في قاذوراتها عاجزين عن مجرد إعادة النظر فيها , عنوان لسقوطنا الحضاري عندما فشلنا في حمل شيء من مقومات حضارتنا , عنوان لضياع انساننا واحباطه وفشل عملية التربية وصناعة الأجيال .
عنوان لإنحباسنا عند "معبر المستقبل" الذي فُرض علينا أن يكون اسمه عبرياً , عاجزين لديه إلا عن تفجير بعض حراسه وهو هناك مقيم لايتحرك بخيله ورجله يمنعنا من التقدم خطوة لأن المشلولين لايستطيعون التقدم خطوة دون كرسي عجلات يحمل عجزهم نحو آفاق جديدة.
تفجير كرسي عجلات الشيخ أحمد ياسين , كان الدليل القاطع على أن هذا الكرسي بات يهدد العالم الذي تهافت إلينا عبر "معبر اسرائيل" ووقع علينا في العراق منتهكا عرضنا وكرامتنا ووجودنا ..بأساليب احتلال اسرائيلية , بكلاب تعذيب اسرائيلية , بمصفحات ودبابات وأباتشيات كتلك التي تستخدمها اسرائيل لقتل الأبرياء وهدم البيوت واستئصال الوجود.
اغتيال الشيخ الشهيد كان تعبيرا عن الخوف المريع في قلوب الصهاينة ومن والاهم في البيت الأبيض الأمريكي من صوت الشيخ ولسان الشيخ وصمود الشيخ وفعل كرسي عجلاته في قلوب الملايين من الذين يعانون عجزا في الروح والعقل وكان الشيخ يمارس من كرسيّه ذاك مهمة حملهم جميعا على الانتقال من ساحة العجز الى ساحات الشرف والجهاد , لاالارهاب وترويع الآمنين..لأن الغزاة لايستحقون نعمة الأمن , والقتلة لامكان لهم تحت خيمة السلام , ومصاصوا دماء الشعوب لن ينتهوا الا في بركة الدماء التي أحدثتها أيديهم وهي تذبح ضحيتها وتمثل بجثتها أمام الآخرين.
صوت الدم أصبح يُسمع في كل مكان من عالمنا اليوم , مقترناً بإصرار باسم الاسلام والمسلمين مع أن غيرهم كانوا قادة ومعلمين مهرة في هذا المجال , لكن اصرار وسائل الاعلام العولمية على ربط الاسلام بالارهاب أصبح خطة مدروسة , وجهل بعض أبنائنا أعطى هؤلاء القوم كل مبرر ممكن لتمرير هذه الخدعة على قطعان البشر التي لاعمل لها اليوم وفي مطلع القرن الميلادي الواحد والعشرين الا استهلاك الطعام العولمي ومتابعة وتصديق وسائل الاعلام العالمية التي تصنع الأفكار وتسوقها في هذا السوق الكبير الجاهز لاستهلاك كل قمامة وكذب ودجل.
و لأن ذكاء القائمين على الاعلام العالمي اليوم وتفوقهم التربوي والعلمي والتقني جعلهم يسفكون الدماء على غير مرأى ومسمع من البشر , الا أن حماقاتنا جرتنا الى الاعتقاد بأننا وعن طريق الدم وفقط يمكن أن نُسمع صوتنا المبحوح الأجش وكلماتنا العاجزة الضامرة الى عالم يريد أن يصمّ أذنيه عن كل ماعدا صوت الرقص المجنون على جراح الآخرين , مادامت هذه الجراح بعيدة مطلية بكل أنواع المساحيق السياسية والدبلوماسية الممكنة التي يمكن أن تخفي بشاعة الجريمة ووحشية الجلاد.
في مدريد سقط مائتا قتيل وألف وستمئة جريح وستون ألف متضرر مادي أو نفسي مباشر أو غير مباشر من الأبرياء !ولكن في مدريد ومع كل هذه الضحايا البريئة المظلومة كان الاسلام ودون أدنى شك الضحية الأولى , ومرّ اغتيال الشيخ أحمد ياسين ومن ورائه الدكتور عبد العزيز الرنتيسي وكأن شيئا لم يحدث , وكانت القضية الفلسطينية قد أصيبت في الصميم لولا أن تدراكت يد العناية الالهية الموقف , وظهرت للملأ قصص "أبو غريب" وحكايات ألف ليلة وليلة الأمريكية البغدادية التي كتبت في صحراء غبائنا المطبق وشخيرنا المذل على صفحات دجلة الذي سمحنا جميعاً ومن جديد لأفواج التتروالمغول من الغزاة أن تصبغه بلون الدم والألم والقهر مرة أخرى ...ونحن مازلنا نتفرج من مقصوراتنا في مزبلة التاريخ.
_يتبع_