تعهد جورج دبليو بوش بتسليم صدام حسين الى الحكومة العراقيـة المؤقتـة " في الوقت المناسب " . إشترط لذلك توافر الأمـن لئلا يفرّ أثمن الأسرى العراقيين وأخطرهم .. لو كان اكثر صراحة لقال : لئلا يتمكن أنصاره من تحريره .
حديث بوش كشف جملة حقائق دفعة واحدة :
الرئيس الاميركي أقّر ضمنا ، بعد معاندة لافتة ، بلاشرعية أسر صدام وبلاشرعية محاكمته من قبل سلطة الإحتلال .
وأقرّ أيضاً بوجوب تسليمه الى حكومة عراقية سيدة او تقول واشنطن أنها ستكون سيدة بعد 30 حزيران / يونيو 2004.
كما أقرّ بأن الامن في العراق مفقود ، وتخوّف ضمناً من أن يؤدي تسليم صدام الى تحريره لاحقا على أيدي أنصاره وبالتالي عودته الى السلطة !
يتحصل مما تقدّم بيانه ان إستمرار الفلتان الأمني والفوضى يؤدي الى عدم إستكمال الحكومة المؤقتة أسباب السيادة . فلا سيادة بلا أمن . ولكن ، هل الأمن ممكن في ظل إستمرار الإحتلال ؟ وإذا إستمر الإحتلال بدعوى العمل لفرض الأمن ، ماذا يبقى من السيادة ؟ وفي حال استمرار حال الفلتان الامني وبالتالي إنعدام السيادة ، ماذا سيكون حال الاحتلال ، بل ماذا سيكون حال اميركا في العراق والمنطقة ؟
بوش وإدارته ، اذاً ، في مأزق لأن تسليم السلطة والسيادة في 30 حزيران بات أقرب الى الورطة منه الى المخرج .
ما العمل ؟
بوش ما زال يراهن على فرض الأمن في العراق عاجلاً او آجلاً . لعله في سعيه الى ذلك يراهن ايضا على ان تسليم صدام الى اياد عـــلاوي وحكومتــه " في الوقت المناسب " – اي في الوقت الذي يناسب بوش والعلاوي معا – من شأنه إحباط أنصار صدام وإجهاض المقاومة تاليا . ولعل بوش يراهن ايضا وايضا على ان تسليم صدام لإعدائه يسهّل عملية التخلص منه بشكل او بآخر ، فلا يبقى لدى انصـاره أمل ولا يرتسم أمام المقاومة أفق او مستقبل ... او هكذا يظن بوش وجماعته .
هذا الخط من التفكير – الاصح من ضحالة التفكير – يقود أصحابه الى إفتعال معركة سياسية وقانونية بين ادارة بوش وحكومة العلاوي محورها إستكمال السيادة ومعيارها تسليم صدام . بوش سيبدو حريصا على ضمان إعتقال صدام وسلامة محاكمته . العلاوي سيبدو حريصا على إستكمال أسباب السيادة ومشروعية محاكمة صدام امام محكمة عراقية . كل ذلك من اجل ان تنتهي المعركة السياسية والقانونية بفوز العلاوي وبإنتقال صدام من عهدة بوش الى عهدة العلاوي .
في غمرة المعركة المفتعلة لتسليم صدام ومحاكمته ، يأمل الاميركيون وجماعتهم بأن تؤجج المعركة حال الإنقسام في العراق بين انصار صدام ومؤيدي المقاومة من جهة وبين أعداء صدام ومناهضي المقاومة من جهة اخرى ..
سيُفتح ملف صدام على مصراعيه ، وسيعود اعداؤه الى التذكير بكل ما ساقوه ضده من اقوال وافعال وصغـائر وكبائر ليعمّ الجدال والنزاع وتسود الفرقة والشرذمة .
اكثر من ذلك ، قد يظن بعض المتربصين بوحدة العراق ان قتل صدام بعد تسليمه الى الحكومة المؤقتة من شأنه تحقيق غرضين بضربة مسرحية واحدة : تجريد المقاومة من الرمز والأمل، سواء كانا مشروعين او غير مشروعين ، وتمكين العلاوي وغيره ، او هكذا يظنون ، من إستقطاب فريق من القومييـــن المحبطين – بعثيين وغير بعثيين – لغرض تظهير نظام " قومي صدامي " بلا صدام !
قد يبدو قتل صدام امرا مستحيلا وهو في أسر الاميركيين وتحت رقابة الصليب الاحمر الدولي ومتابعة وسائل الاعلام وإهتمام اوساط الرأي العام العالمي .
المسألة ، في الواقع ، غير معقدة البتة . ذلك انه بعد نقله الى عهدة الحكومة المؤقتة ، سيقال للعراقيين وللعالم ، " في الوقت المناسب " ، ان صدام حاول الفرار من سجنه العراقي بمساعدة فريق من أنصاره فحدث إشتباك اودى بحياته ...
سيصدق كثيرون هذه الرواية ، خصوصا من لهم مصلحة في تصديقها او في تعميمها داخل العراق وخارجه . صحيح ان كثيرين ايضا لن يصدقوها ، لكن ردة فعلهم لن تسيء الى الوضـع الداخلي اكثر مما هو سيء في الوقت الحاضر . بالعكس ، لعل قتل صدام سيشكل حلقة من سلسلة حوادث واحداث جرى إعدادها ويجري الآن تنفيذها على قدم وساق . أليس قتل السائقين الشيعة الستة في الفالوجة وإتهام رجال دين سنّة بالتحريض على قتلهم والتوعد بأخذ الثأر مؤشراً الى ذلك ؟
في المجتمعات التعددية ، ليس أسهل من إشعال نار الفتنة . من لديه شك ، فليراجع وقائع الحرب اللبنانية . إنها إنجاز اميركي – صهيوني بإمتياز ، ويجب ان تكون عبرةً وعظة لقوى المقاومة العربية بإمتياز أيضا.
يخطيء من يعتقد ان ادارة بوش هي سيدة لعبة الامم في العراق الذبيح . اسرائيل لاعبة رئيسة ايضا في الملعب العراقي ، بالاضافة الى قدرتها على اللعب من ضمن الفريق الاميركي ايضا. وهي تلعب وفي ذهنها غرض رئيس هو المشاركة في لعبة تقسيم العراق ..
ذلك ان تقسيم العراق غرض بالغ الأهمية في إستراتيجيا اسرائيل الاقليمية التي تنفذها بدأب وعلى مراحل . وهي ترمي ، في نهاية المطاف ، الى تقسيم بلاد الشام ووادي النيل بالاضافة الى بلاد الرافدين الى جمهوريات موز هزيلة قائمة على اساس مذهبي او أثني او قبلي .. بذلك تحيط اسرائيل نفسها بطوق من الدويلات الضعيفة والعاجزة عن تشكيل تهديد سياسي واقتصادي وعسكري ، فتحمي كيانها بحدود آمنة من الشمال والشرق والجنوب فضلاً عن البحر المتوسط في الغرب .
يقتضي في ضوء هذا الخطر الاستراتيجي الماثل ، ان تتنبه القوى الوطنية الحية في العراق ، خاصة تلك المنضوية في إطار " مؤتمر العراق التأسيسي " ، فتتخذ من المواقف وتعتمد من السياسات ما يكفل تفويت فرصة النيل من العراق .
إن السبيل الى تحقيق هذا الهدف – المحافظة على وحدة العراق الجغرافية والسياسية – يتمثّل في تكتيل الجهود وترجمتها الى مواقف سياسية وتدابير ميدانية تصب كلها في مقاومة الاحتلال وتسريع جلائه عن بلاد الرافدين . فلا أمن ولا سيادة ولا حرية ولا كرامة ولا إنتخابات نزيهة عادلة بوجود قوات محتلة . لذا فإن الهدف الوطني المركزي يجب ان يكون إجلاء المحتلين بكل الوسائل المتاحة ، بعيداً من العمليات الدموية التي تنال من العراقيين اكثر مما تنال من الاعداء المتربصين .
بالتلازم مع هذا النهج الوطني العملي ، يقتضي التوافق بين القوى القومية والاسلامية واليسارية الحية على ان الإتحاد من أجل إجلاء المحتل لا يعني البتة إستعادة النظام السابق بل يعني بناء نظام وطني ديمقراطي جديد عبر إنتخابات حرة ، نزيهة ، وعادلة تجري برعاية الامم المتحدة بعد زوال الإحتلال . الإنتخابات وحدها هي مصدر الشرعية الشعبية ، وهي أساس العراق الجديد ، وفي ضوء نتائجها – ايا تكن – يصار الى صوغ دستور ديمقراطي لعراق ديمقراطي ليكون نموذجا وقدوة لجميع البلاد العربية والاسلامية ..
إن الإتفاق على هذه الأهداف الوطنية الإستراتيجية – وحدة العراق ، وإجلاء المحتل ، والانتخابات الحرة – وتكتيل الجهود في سبيل تحقيقها كفيل بتفشيل مخططات العدو الاميركي – الصهيوني ، وبتسريع جلائه عن العراق ، وبتعطيل المشروع الإمبراطوري الاميركي الذي يستهدف منطقة الوسط الاسلامية برمتها ، من شواطىء المغرب وموريتانيا غربا الى ارخبيل اندونيسيا وسواحل ماليزيا شرقا.
أجل ، العراق هو الميدان ، وفيه يجري لإرادة الأمة إمتحان وأي إمتحان ، فحذار حذار التلهي عن معركة المصير الواحد بصغائر ملوك الطوائف وقد حكم عليهم التاريخ في الاندلس الضائع ، وفي فلسطين المغتصبة ، وفي لبنان الذي ما زال سلمه الأهلي العاثر في مهب رياح الطوائف والمخاوف ، تتربص به اسرائيل الدوائر