بقايا من هاتيك الصور
كل طفل وشاب ورجل وامرأة في مدريد وقفوا وقفة واحدة مشرفة في وجه ذلك التنين الذي كان قد زحف إليهم ذات فجر فهز وجودهم وقناعاتهم وحياتهم, التي وعلى الرغم من أن شيئا ما في مدريد لن يعود الى ماكان عليه قبل تفجيرات الحادي عشر من آذار لكنها عادت بعد ثلاثة أشهر الى ماكانت عليه من قبل من متاعب جمة وغربة صعبة وكفاح وجهاد مستمرين من أجل حياة في الغربة والمهجر فيها بعض من كرامة وبعض من حرية وبعض من شرف , في أيام اغتصب فيها عرضنا وماعاد فيها لكلمة شرف في حياتنا العربية المعاصرة أية قيمة . الكتابة اليوم عن تفجيرات مدريد تبدو غريبة ومؤلمة بعد مضي ثلاثة أشهر بالضبط على تلك الحادثة التي أنذرت _كما تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر _بكارثة حقيقية في حياة الجاليات العربية والمسلمة في أوربة كما في قضية الوجود الاسلامي برمته في الغرب , لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض كيلا تهدم دور التعايش الانساني التي يؤمها الملايين للعبادة في سلام قبل أن تتدخل أيدي البعض لسفك الدماء في كل مكان في هذه الأرض ..في فلسطين كما في العراق كما في أفغانستان كما في مدريد .
أكتب اليوم عن تفجيرات مدريد وفي احدى مستشفيات مدريد يرقد أحد المواطنين الجزائريين في غيبوبة بعد أن قامت مجموعة من حليقي الرؤوس بضربه بنية قتله لدى خروجه من بيته لصلاة الصبح في المركز الاسلامي التابع لرابطة العالم الاسلامي في مدريد , وهو المكان الذي كان منفذوا التفجيرات قد اختاروه ليضعوا في سلة قمامة عند بابه الفيديو الذي أرادوا أن يثبتوا من خلاله هويتهم وانتماءهم.
هل هي من المفارقات العجيبة أم من الأقدار المقدورة أن الشارع الذي يقطنه هذا المواطن الجزائري والذي تم فيه ذلك الاعتداء الوحشي عليه يدعى "شارع حقوق الانسان"!؟.
في أول صلاة جمعة أقيمت في هذا المركز الضخم بعد تفجيرات مدريد كان الوضع لايكاد يطاق , الصمت ..هو وحده سيد الموقف , بوابة المسجد والشوارع المجاورة التي كانت تكتظ بالآتين الى الصلاة , وبالرائحين الغادين لتجارة ينصبون أسواقها على الارصفة المحاذية للمسجد كل يوم جمعة , بدت مقفرة تماما لاصوت ولاحركة , ولاتسمع إلا همساً , حتى تلك السيارات التي كانت تمر بباب المسجد ساعة الظهيرة باكتظاظ هائل تملأ أصوات أبواقها عنان السماء وهي تحاول شق طريقها نحو الطريق السريع المدعو "م30" والذي يلف حول ذلك المركز الرخامي الرابض في مكان مرتفع يراه القاصي والداني منه , حتى تلك السيارات خفتت أصواتها وباتت حركتها بطيئة كئيبة , ولم تعد تمارس نزاعها الجُمعي الاعتيادي من التجاذب والتناوش مع عشرات الشباب الذين يسدون المنافذ ويجتازون الاشارة الحمراء ويغيظون سكان المناطق المجاورة بضوضائهم وصراخهم وتحديهم بالنظرات والكلمات وربما بالأيدي , لابيع ولاشراء هاهنا وقد كانت تنصب كل جمعة سوق كاملة يباع فيها ويشترى كل شيء بدءاً بالبيض واللبن الرائب والنعنع والكزبرة وانتهاءا بالأطباق الهوائية التي تعرض في سيارات أصحابها قناة الجزيرة يعلو صوت مذيعيها على صوت الأذان وخطبة الجمعة!.
لم يكن هناك الا رجال الشرطة ..ثمانية عشرة سيارة شرطة كانت تحيط وترابط على باب المسجد في ذلك اليوم الكئيب , ولافتة كبيرة جدا قد علقت على بوابته الخارجية "لا..للارهاب , ندين التفجيرات ونتضامن مع أسر الضحايا " , وبخط أصغر كتب أحدهم بواسطة عبوة رشاشة سوداء من ذلك النوع الذي يستخدم للكتابة على الجدران "كذابون..كلكم قتلة".
صمت ..وصمت.. وفقط كان هناك الصمت , حتى ليظن المرء أن المسجد كان خاليا , لكنك تفاجأ لدى دخوله بألف من المصلين تقريبا كانوا هناك جلوسا مطرقي الرؤوس لاينبس أحدهم ببنت شفة , إلا أن هذه المفاجأة تتلاشى مباشرة وأنت ترى ولأول مرة في المسجد وقبالة المصلين على جانبي المنبر وبالعدد ثلاثة وثمانين كاميرا تصوير!! , كان العالم هنا في مدريد يريد أن يخترق حجب هذا المركز ليعرف من قام بهذه التفجيرات ولماذا ؟, قنوات كال c.C.N , والفوكس الأمريكيتين , والراي الايطالية , قنوات فضائية فرنسية , وروسية , وصينية , كاميرات من جميع الصحف المحلية والعالمية المعروفة والغير معروفة , كاميرات لوكالات أنباء رنانة الأسماء وأخرى لوكالات لم أسمع بها في حياتي , حتى مسجد النساء كان مكتظا بالصحفيات اِلتَّحفن بالحجاب بطريقة مضحكة ملفتة لولا أن الموقف لم يكن موقف ضحك ولاتندر!.
لاأحد يريد أن يتحدث الى الصحافة , لاأحد يهمه أمر هذه الكاميرات , لم تكن لدى أحد من آلاف المصلين أية رغبة في كلمة أو نظرة أو حركة , كان الأمر هائلا وكان الصمت ولاشيء غير الصمت , وكاميرات العالم تهافتت إلينا تريد أن تسبر أغوار هذه الجالية المسكينة لتعرف من أين خرج الذين نفذوا هذه الهجمات ؟ وهل تقف هذه الجالية معهم ؟وهل هناك من يؤيدهم ؟, وهل من أحد يتبرع بكلمة.. بمعلومة.. برأي؟ .....ولكن لم يكن هناك الا الصمت , كان الناس يشعرون أنهم الضحية الأولى لتفجيرات مدريد , وكانوا على يقين أن من قام بها قد أخطأ وبكل مقاييس الخطأ بل وأجرم وبكل مقاييس الاجرام !! , وأنه تسبب ببلاء لم يكن عاقل في مدريد يظن أنه يمكن رده في تلك الأيام .
مدير المركز الاسلامي الدكتور "ابراهيم بن زيد" وبعد خطبة الجمعة استلم مكبر الصوت والناس جلوس وكأن على رؤسهم الطير , وبدأ يطمئن الجالية , تحدث عن اجتماعات مسؤولي المراكز الاسلامية مع محافظ مدينة مدريد " ألبرتو رويث غاجاردون" الذي هدّأ من مخاوف المسؤولين عن الجالية ووعد بحماية المصلين عن طريق دس شرطة سرية في المساجد وقطع على نفسه عهدا بأنه لن يحدث في مدريد مالايحمد عقباه , بل وقال _ المحافظ_ : نحن أنتم وأنتم نحن .
للمرة الأولى منذ خمسة وعشرين عاما في مدريد أشهد مسؤولا عن مؤسسة عربية أو اسلامية هنا يتحدث الى الناس عن همومهم وينقل إليهم تفاصيل اجتماعه وأمثاله من المسؤولين عن المراكز الاسلامية الرئيسية مع جهات حكومية .
في نفس اليوم شهد مسجد الجمعية الاسلامية الرئيسي خطبة جمعة هائلة لم يشهد مسجد أبا بكر لها مثيلا في تاريخه الذي تجاوز السنوات العشر , حيث اضطرت الشرطة لقطع الحارة المؤدية الى المسجد بسبب اكتظاظ المصلين وكأنه يوم عيد عظيم , وكان الصمت كذلك سيد الموقف , الشيخ الامام الأزهري "نجاح فرج " والذي كان قد وصل لتوه من القاهرة , قام بأداء خطبة جمعة مذهلة لتهدئة الجالية الكليمة القلقة وراح يردد في صلاته "لاتخافا إنني معكما أسمع وأرى"..والناس حوله يبكون ...لم يكن بكاء خوف ولكنه كان بكاء جراح وألم .
أربعون شابا وشابة من أبناء الجالية حملوا أكاليل ورد ولافتات كتب عليها "الارهاب لادين له ولاوطن ولاقومية" وذهبوا الى محطة "أتوتشا" التي وقعت فيها تلك المذبحة , وضعوا أكاليل الورد بين مئات أكاليل الورد وآلاف الشموع التي جعلت من تلك المحطة مكاناً جنائزياً رهيباً , وباسم الشباب المسلم في مدريد قاموا بعمل شجاع برهنوا فيه بصمتهم على أن تلك التفجيرات كانت بالفعل عملا مغرقا في الجبن , لم تكن الشجاعة أن تضع حقيبة متفجرة تقتل فيها الأبرياء باسم نصرة الاسلام , كانت شجاعة مذهلة أن تذهب في تلك الأجواء لتقاوم موجة الكراهية والحقد وتشويه الاسلام والمقاومة والكفاح والجهاد المشروع وأنت تحمل روحك على راحتك لتدافع عن الاسلام في موقف فريد من نوعه حمل الاسبان أنفسهم بعد لحظات الصدمة الأولى و أصوات الرفض والدعوة الى ذبح هؤلاء الشباب في ذلك الموقف والذين تجرؤوا على دخول تلك المحطة في هذه المظاهرة , حملهم أخيرا على التصفيق طويلا لمثل هذه الشجاعة ومثل هذا الموقف الصعب.
إحدى شابات الجيل الثاني في مدريد قادت حملة بين أبناء الجالية تحت عنوان "البطاقة الخضراء للتضامن والمواساة " باسم أطفال وشباب العرب والمسلمين في مدريد , حيث يترك كل منهم شهادته على تلك المجزرة الذي كان هو من أهم ضحاياها , أكثر من سبعمئة بطاقة سوف تقدم الى محافظ المدينة بمناسبة مرور ستة أشهر على المجزرة.
الشيء الوحيد الذي كان محط إجماع كل أولادنا في مدريد هو أنه "لا للارهاب في فلسطين , لاللارهاب في العراق , لاللارهاب في مدريد" , كان واضحا في أذهان أطفال العرب والمسلمين في مدريد أن هذه الجريمة كانت على علاقة وثيقة بجريمة غزو العراق وجرائم الصهاينة القتلة في فلسطين , ولكننا لم نجد بينهم من يبرر ماحصل في مدريد بما حصل ويحصل في بلادنا الجريحة السقيمة المأزومة.
صحفية في صحيفة "لاراثون" المحسوبة على أقصى أجنحة اليمين الثقافي والسياسي المتطرف , ارتدت زياً اسلامياً وتجولت مع كاميرتها الخفية في أرجاء المدينة , لتكتب في سبق صحفي فريد من نوعه في تاريخ الصحافة في اسبانية ": أن تكون مسلما اليوم في مدريد وتضع الحجاب على رأسك , انه لأمر صعب ومؤلم وفظيع .
لأول مرة تشعر الصحافة الاسبانية بخطورة الوضع , وأنها لايجب أن تصب المزيد من الزيت على النار كما اعتادت أن تفعل ودون توقف منذ ثلاثين عاما.
الحكومة الاشتراكية الجديدة تحاول العودة باسبانية الى ماكانت عليه من مواقف متزنة في اطار السياسات الدولية وخاصة فيم يخص المنطقة العربية , العرب والمسلمون عادوا بحذر شديد لمزاولة حياتهم وأعمالهم اليومية وتعايشهم الصعب المرير مع مجتمع أصبح يخاف منهم , استبدل الاحتقار للغرباء بالخوف منهم , ولاأحد يمكنه هنا أن يفهم هذه المعادلة الخطيرة من التعايش القسري بين الطرفين .
دم الشيخ أحمد ياسين دفع به الله عن مسلمي اسبانية خطر مذبحة كانت تتنادى بها حركات النازيين الجدد عبر شبكة الانترنيت , قصص أبو غريب غير الغريبة في حياتنا العربية الغريبة في صلب غربتنا عن تاريخنا وقناعاتنا وتصورنا عن أنفسنا كأمة وحضارة وبشر .. جهود أبناء الجالية العربية المسلمة المستميتة في سبيل الدفاع عن صورة الاسلام الحقيقية من جهة وعن الجهاد المشروع والكفاح ضد الاستعمار والاستيطان من جهة , كل طفل وشاب ورجل وامرأة في مدريد وقفوا وقفة واحدة مشرفة في وجه ذلك التنين الذي كان قد زحف إليهم ذات فجر فهز وجودهم وقناعاتهم وحياتهم, التي وعلى الرغم من أن شيئا ما في مدريد لن يعود الى ماكان عليه قبل تفجيرات الحادي عشر من آذار لكنها عادت بعد ثلاثة أشهر الى ماكانت عليه من قبل من متاعب جمة وغربة صعبة وكفاح وجهاد مستمرين من أجل حياة في الغربة والمهجر فيها بعض من كرامة وبعض من حرية وبعض من شرف , في أيام اغتصب فيها عرضنا وماعاد فيها لكلمة شرف في حياتنا العربية المعاصرة أية قيمة .