بدو أننا مرة أخرى على موعد مع (كادوك الفرنسية) وهذه (الكادوك) في لغة بودلير تعني انتهى المفعول بالتقادم ، وكانت كادوك الفلسطينية الفرنسية الأولى قد استخدمت على لسان الرئيس عرفات في تصريح شهير للصحافة الأجنبية في جنيف على هامش جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة والتي انتقلت للاجتماع هناك لتسمع هذا (الكادوك) من ممثلي الشعب الفلسطيني على لسان قيادته عقب دورة المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في الجزائر بتاريخ 15/11/1988 والذي تبنى لأول مرة القرار 242 والقرار 338 ، وكانت ترجمة هذا (الكادوك) أو هذه -كما شئت- تعني نبذا لما سمي بالإرهاب وهو المعادل الموضوعي في التفكير السياسي الاستراتيجي الصهيوني لميثاق منظمة التحرير الفلسطينية ونصوصه التي يرى فيها هذا الأخير تدميرا للكيان وإنهاءً له من الوجود . وطبعا فإن عقب هذا (الكادوك) كانت الخطوة التالية في أمر قبول التفاوض مع الطرف الفلسطيني عبر الوفد العربي والمظلة التي وفرتها الأردن في مدريد لهذا الوفد قبل أن ينفرد هذا الطرف لاحقا بالجري نحو أسلو وما تلا ذلك من أحداث معلومة بالضرورة للمشاهد والمراقب على حد سواء ، لكن الحقيقة التي ظهرت في الأسبوعين المنصرمين وجرى تسريبها للصحافة الإسرائيلية عبر عكيفا الدار في هآرتس باتهام رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية عاموس مالكا لسلفه عاموس جلعاد بتزوير جملة الاستخلاصات من التقديرات الاستخبارية وتوليفها بحيث تقود إلى بؤرة واحدة تلقي بظلال من الشك حول رغبة الرئيس عرفات في تحقيق السلام والالتزام بهذا (الكادوك) المعلن هي التي وفّرت الأجواء( للكادوك) الثانية وفي ذات الصحيفة .
إذا كانت فكرة صانع القرار الاستراتيجي الاسرائيلي عن صانع القرار الاستراتيجي الفلسطيني تقوم على هذه الرواية فعلا فإن من أيسر الاستنتاجات أن التسبب بتفجير الانتفاضة الفلسطينية الأخيرة كان مدبرا تماما عبر زيارة الجنرال شارون للحرم الشريف وليس عبر ما حاولت ونجحت ماكينة الإعلام الإسرائلية والغربية المتحالفة معها في إشاعته بأن الرئيس عرفات هو المسبب الحقيقي لهذه الانتفاضة وبأنه قد ترجم توعداته عقب فشل كامب ديفيد برعاية الرئيس الأسبق كلينتون وتملص الجنرال أيهود باراك من المسؤولية وإلقاء اللوم على ياسر عرفات والطرف الفلسطيني في فشل هذه المباحثات والمفاوضات آنئذ ، ومن ثم الترتيب لتحميل وزر انفجار الانتفاضة لهذا الطرف المخل (بكادوكه ) والذي يبطن نوايا غير صادقة في سعيه للسلام .
كادوك الرئيس عرفات هذه المرة في هآرتس جاء مختلفا تماما فبينما (الكادوك) الأول قد ألقى بالميثاق الوطني الفلسطيني إلى الأرشيف فإن الثاني يلقي بحق العودة إلى بورصة الاجتهادات وهو يؤكد أنه يأمل فقط في عودة مئتي ألف لاجيء فلسطيني يقيمون في لبنان ربما مثلا إلى قطاع غزة وحل مشكلتهم المستعصية في جوهرها المطلبي الإنساني بعيدا عن أي استحقاقات وطنية وشرعية وقانونية أخرى حسبما سيتلقفه الطرف الآخر لا سيما وهو خبير في البحث عن قاع الحدود الدنيا حينما يتعلق الأمر باستحقاقات يجب عليه دفعها في إطار العملية السياسية ، وهو ماهر في هذا بلا شك في ذلك ، وإذا كان (الكادوك) الأول قد وجد له ما يتغطى به عبر قرارات مؤتمر الجزائر السالف الإشارة له فإن (الكادوك) الثاني في نفي تهمة استخدام القنبلة الديموغرافية عبر سلخ حق العودة من كونه مطلبا شرعيا وأساسيا في المفاوضات – ومرة أخرى كما سوف يستقبله الطرف الآخر – يجد في نصوص دعوة مؤتمر القمة العربية المنعقدة في بيروت عام 2002 بدعوته لإيجاد حل عادل ومتفق عليه لمأساة اللاجئين الفلسطينين غايته في التغطية كما يعتقد أنه سينجح بذلك .
يمكن احتساب هذا (الكادوك) الثاني من قبيل المناورات المطلوبة لدفع المياه في عروق خارطة الطريق عبر بوابة خطة الجنرال شارون المعدّلة، وذلك با هو أشبه لمناشدة هذا الطرف وفق هذه الحقائق التي تكشفت وفي ضوء هذا (الكادوك) الجديد إعادة الاعتبار لفكرة وجود شريك فلسطيني وجاهز للتسوية فعلا على أساس جملة هذين (الكادوكين) المتحققين ، سيما وهو يشير إلى وثيقة جنيف -ولو أنه اعتبرها غير رسمية يوما ما- ، ويمكن أيضا اعتبار هذا الموقف الجديد كما تكشّف في لقاء الرئيس عرفات مع هآرتس على أنه إعلان مؤكّد بنفاذ خطة تجريد القيادة الفلسطينية من آخر أوراقها رغم النفي ورغم محاولة إظهار امتناع ذلك ولو لحين بدء تطبيق الخطة على أرض الواقع .
ليس خافيا أن هناك نهجين طالما ظلا يلوحان في الأفق في المسألة الفلسطينية في معسكر التسوية وعملية سلام ، بحيث الأول منهما يرى ضرورة كشف كل الأوراق وتقديم منتهى التطمينات للطرف الاسرائيلي فيما يخشاه ويعتبره موجبا للقلق حول نوايا ومستقبل تصرف صانع القرار الفلسطيني ، وبالتالي الدخول للمفاوضات على أساس أن هذا كل ما تخشونه وهو كادوك فأعطونا جزءا مما يبقينا نحن غير كادوك عند الشعب الفلسطيني ، ومثّل ذلك دوما تيار الانجراف التام نحو منتهى الشفافية في هذه المسألة وهو الذي اعتبره الطرفان الأمريكي والإسرائيلي مفضلهما على الساحة الفلسطينية ممثلا في حكومة عباس المستقيلة ومتبنيي فكرتها في المعسكر الأول .
أما المعسكر الثاني فكان يرى ضرورة السير خطوةً خطوة في هذا الممر وإعطاء هذه التطمينات فقط تبادلا مع التطور في عملية سلام لا سيما وأن الطرف الشريك في العملية الرئيس قد اغتيل وهو اسحق رابين وتخلف حزبه عن متابعة هذه العملية التي بدأت معه ، كما وتردد شيمون بيريس وايهود باراك في تنفيذ هذه الخطوات ودخول اليمين وحكومة ليكود بديلا كطرف في هذه العملية وبالتالي فإن وقع خطوات هذه كان يجب أن تكون أكثر حذرا نتيجة لهذه التبديلات الطارئة ، أما اليوم فقد أصبح في نهاية المطاف هناك معسكر واحد وإن تأخر أو تخفّى إعلان ذلك عبر (الكادوك) الجديد والذي لا يمكن فهمه إلا على هذا الأساس اليوم وفي خضم ما يتوقع بأنه بداية الطريق لتنفيذ خطة شارون المعدلة .
لقد أجاب ليكود وشارون نفسه على المعسكر الأول بتخليه عنه وصدرت تصريحات السيد محمود عباس عقب إعلان خطة شارون والتي تحسّرت على عدم منح حكومته هذه الفرصة فيما لو كان قد أعلن شارون عن هذه الخطة مبكرا وقدمها فرصة لحكومة محمود عباس ولكنه لم يفعل وباختصار تخلت الأطراف المتبنية لهذا المعسكر عنه ، والواضح أن السيد محمود عباس لا زال يرى أن مثل هذه الخطة لو أعلنت في عهده كانت ستكون كافية لحكومته آنئذ ولكنها قدمت للمعسكر الآخر الذي يأتي اليوم لتبني هيكل موقفه العام وطريقة حكومته وهو الآن يتم الانتقال إلى ذلك بخفة ورشاقة عبر هذا (الكادوك) الجديد ، والسؤال الأهم في نهاية الأمر هو هل فعلا هذه الخطة اليوم ستشكل فرصة للمعسكر الجديد القديم وهل سيستجيب ليكود وشارون لهذه الإشارة خاصة وهو يرى لهاث حزب العمل على الانضمام لحكومته ؟
ما هو معلوم عن شارون هو تهربه بشكل عام من التعامل الملزم وعدم رغبته في التقاط أية إشارة ترسل بها أطراف بعينها يمثلها الرئيس عرفات حتى لو كانت كادوكًا جديدا فهو لا زال مقتنعا بأن اختلاف الفصول في جلد هذا المعسكر لا يغيّر من حقيقة ما يلزم نفسه باعتقاده عنه وبالتالي فإن إهمال هذا (الكادوك) أمر متوقع وأكثرها احتمالًا ، لقد مرّت عدة مقالات في الآونة الأخيرة تجزم بأن خيار الدولة الفلسطينية المستقلة أصبح خيارا ضعيفا وكان أبرزها مقال السيد بلال الحسن في الشرق الأوسط كما مرت مقالات أخرى تتناول هواجسًا لدى أطرافٍ فلسطينية وأردنية حول طبيعة الحلول المطروحة وما ستفضي إليها الالتزامات الأمنية التي تشترطها خطة شارون المعدلة عند تنفيذها في قطاع غزة ومستقبل الضفة الغربية تاليا وطالبت الجانبين بحوار وتنسيق موسّع لتحاشي هذه المخاوف وأبرزها كان مقال وزير الإعلام الأسبق في حكومة السيد محمود عباس الوزير نبيل عمرو في الحياة .
أصبح لدينا (كادوك) على الميثاق وخيار المقاومة رسميا وكذلك قرار التقسيم رقم 181 واستبدلنا ذلك بمشروع يريد الوصول لتسوية في حدود الرابع من حزيران والذي آل إلى ما هو عليه اليوم الحال في مشروع خطة شارون المعدّلة نهايته جزءً من قطاع غزة وبضع كانتونات في الضفة يحكمها الجدار ، والكادوك الثاني يطيح بحق العودة كما فهمته الأجيال الفلسطينية ويعترف بيهودية الدولة فيما يتيح ليس حاجزا أمام العودة فقط بل مبرراً لهذه الدولة في التخلص مما يشوب يهوديتها تالياً بترحيل فلسطينيي الخط الأخضر – ومرة أخرى حسب فهم الطرف الآخر – وتبقى كادوك ثالث على المقدسات ومدينة القدس كعاصمة للدولة الفلسطينية العتيدة وتنتهي مقومات القضية الفلسطينية وتصبح ذاتها كادوكاً آخر .
إذا كان لا بد من كادوك ثالث فليكن على جملة هذه التراجعات التي مبعثها أولا وأخيراً كان ولا زال في منطق الابتزاز الاسرائيلي الفاضح لكل مقومات الحل الحقيقي إذا كان هناك من رغبة فعلية في هذا الحل السلمي بعيداً عن كل ألاعيب شراء الوقت والمراهنة على عنصر الزمن لأن مالك الكادوك الحقيقي في النهاية هو جماهير هذا الشعب المرابط والذي يستطيع دوما تحويل الكادوك إلى حقيقة ماثلة لا يمكن القفز عنها ، وتحقيق هذه المقومات تبدأ وتنتهي بالاعتراف بحقوق هذا الشعب في أرضه ووطنه وحقوق إنسانه فيها وفي مقدساته وحياته الكريمة النّد للند وإلا فإنها ستبقى مجرّد أمنيات لاأكثر ولا أقل ، وإذا كان لا بد من مبادرة نوعية فلسطينية وحقيقية تستند إلى أسس منطقية فلتكن عبر الفضاء العربي القومي ولتكن مثلا عبر كونفدرالية أردنية –فلسطينية- سورية تواجه سياسات الابتزاز في التهرّب من السلام تحت ذرائع واهية وتزويرات يومية وشتى أنواع الأكاذيب والألاعيب وفي هذا يتم فقط الاحتفاظ بكوابح تمنع الانزلاق النهائي وتحمي القضية الوطنية وتضمن الدولة الوطنية والانسحاب الاسرائيلي وحق عودة اللاجئين من مصدر قوة ومنطق ولا تدع ما يقال بعدها في شأن شكوك في النوايا والأهداف وهنا فقط يجب أن يكون الكادوك التالي طالما أن خيار المقاومة ظل كادوكًا ومبروك أيها الكادوك الفلسطيني كم ستتدلل .!!