ثمة هاجس واحد ، حاد ومقلق يستحوذ على جورج دبليو بوش طيلة الأشهر الأربعة القادمة : إنتخابات الرئاسة في مطلع تشرين الثاني / نوفمبر المقبل .
بوش يبتغي النجاح ، بطبيعة الحال ، لذا يوظّف كل جهوده لتحسين صورته لدى الرأي العام .
المهمة صعبة للغاية ، لكنها غير مستحيلة . صحيح ان إستطلاعات الرأي العام تشير الى تراجع قياسي في شعبيته ، الاّ ان مياها كثيرة ستجري تحت الجسور من الآن لغاية الاستحقاق الرئاسي ، ويؤمل بوش بأن تخدم حظه المترنّح . كذلك منافسه جون كيري ، فهو يؤمل – ربما أكثر من بوش – بأن تخدم التطورات المتلاحقة ، لا سيما العراقية منها ، حظه الصاعد ، ولو ببطء ، في الأوساط المتضررة من سياسات بوش الخائبة في العراق وغيره. العراق ؟
انه الامتحان الذي يُكرم فيه المرء او يهان . بوش يعرف ذلك ويتصرف سياسيا وإعلاميا على هذا الأساس . ولأن الأمر كذلك ، فقد أضحى العراق ، بمعنى من المعاني ، رهينة المشهد الانتخابي الأميركي .
قمة الدول الثماني في " سي آيلاند " كانت إحدى ذرى حملة بوش الانتخابية . قمة اسطنبول لرؤساء دول الحلف الأطلسي ( الناتو ) كانت ذروة اخرى . في كلا القمتين تقصّد بوش ان يعطي العالم شيئا جذابا بالنسبة للعراق لينعكس بصورة ايجابية في مرآة الرأي العام الأميركي .
في قمة " سي آيلاند " ، حرص بوش على ان يواكبها قرار جديد (1546) صادر عن مجلس الأمن بإجماع الأعضاء الخمسة عشر وفيه بند – صدّق او لا تصدّق ! – يعطي الحكومة العراقيـة المؤقتة السلطة والسيادة والحق في مطالبة المجلس المذكور بإنهاء التفويض المعطـى للقوة متعددة الجنسية ذات القيادة الأمريكية . بعبارة اخرى ، أصبـح بإمكان حكومة اياد علاوي مطالبة قوات التحالف بالجلاء عن العراق !
في قمة اسطنبول ، حرص بوش على ان يواكبها حدث لافت فكان ان بكّر بول بريمر في تقديم تاريخ " نقل السلطة " 48 ساعة ، وهي مدة كافية ليتزامن إجتماع القادة الأطلسيين مع مراسم التسلّم والتسليم ، وليسرق بوش الأضواء من المقاومة العراقية ولو لبضع ساعات !
غير ان مناسبة " نقل السلطة " لم تتضمن إحتفالا مهيبا . ليس لأنها تمّت على عجل ، وليس لأن الدافع اليها تفويت الفرصة على الأعداء الذين كانوا هيأوا للمناسبة " احتفالاً " خاصاً على طريقتهم ، بل لأن الاحتفالات السابقة إنتهت ، حسب افتتاحية صحيفة " نيويورك تايمز " ، الى خيبات مريرة .
أول الاحتفالات الخائبة كان في 2 ايار/ مايو 2003 عندما هبط بوش بلباس طيار فوق حاملة طائرات في عرض البحر مقابل سان فرنسيسكو ليعلن " إنتهاء العمليات الحربية الرئيسية في العراق " . بعدها بتسعة أيام وقعت أولى عمليات المقاومة العراقية ... وكرّت المسبحة !
ثاني الاحتفالات كان بمناسبة إلقاء القبض على صدام حسين في 13 كانون الأول / ديسمبر 2003 . يومها علّق بوش على الحدث قائلاً : " إنها نهاية حقبة مظلمة ومؤلمة " . بعدها بأيام تفاقمت ضراوة عمليات العنف الأعمى فإزدادت الحقبة ظلاما وألما !
ثالث الاحتفالات كان إعلان تأليف الحكومة المؤقتة برئاسة علاوي قبل نحو شهر ، لكنه سرعان ما غرق الحدث في لجّة افتضاح المزيد من عمليات التعذيب المشينة في سجن ابو غريب على أيدي جنود أمريكيين .
رغم الخيبات ، ما زال بوش ومساعدوه متفائلين . أصبح بإمكانهم الآن ان يقولوا للاميركيين ان إدارتهم وفّت بوعودها حسب البرنامج الذي تضمنته قرارات مجلس الأمن .
فوق ذلك ، إعتبر بوش ان التغيير في العراق رسالة الى سوريا وايران ، داعيا دول الشرق الأوسط الإسلامية الى مباشرة الإصلاح الديمقراطي . كل ذلك بعدما ارتفعت معنوياته بإقرار قادة الحلف الأطلسي مبدأ المشاركة في تدريب أفراد الجيش والشرطة العراقيين .
غير ان جاك شيراك ، لم يشاطر بوش تفاؤله . بالعكس ، عاب عليه تدخله في مسألة حثّ الاتحاد الأوروبي على قبول تركيا في عضويته . كما عارض أي وجود اطلسي في العراق قائلاً : " إنه أمر خطير وسيأتي بنتائج عكسية وسيسيء الشعب العراقي فهمه " . ولم ينسَ شيراك الغمز من قناة بوش بقوله : " نحن أصدقاء أميركا وحلفاؤها . لكننا لسنا خدما " !
الدول العربية ، رحبّت – بعضها بحذر – بنقل السلطة الى حكومة علاوي وبدت راغبة في إعطائها فرصة . اسرائيل لم تخفِ رغبتها أيضاً في إقامة علاقات دبلوماسية مع العراق ، لكن وزير خارجيتها سيلفان شالوم أدرك صعوبة الأمر فقال انه " سيترك الى الشعب العراقي ما اذا كان يريد علاقات " مع الدولة العبرية .
هل يعقل ان يقبل الشعب العراقي بإقامة مثل هذه العلاقة ؟ كل المؤشرات تدل على العكس ، خصوصا بعدما انكشفت فضيحة تفكيك أسلحة الجيش العراقي الثقيلـة ( دبابات وناقلات جند وصواريخ ) وتصديرها كخردة الى اسرائيل عبر دول عدّة بتسهيل من قوات الإحتلال ...
الحقيقة ان الشعب العراقي هو مرجعية التقرير ، سلباً او إيجابا ، في الموقف من اميركا واسرائيل إنطلاقاً من مدى تجاوبه مع حكومة علاوي او مع المقاومة ومنظمات العنف الأعمى . فالأمن هو معيار نجاح علاوي في مهمته المزدوجة : فرض النظام والاستقرار ، وإجراء الانتخابات في موعدها . والفلتان الأمني هو معيار نجاح القوى المعادية للإحتلال في حمل الشعب على عدم التعاون مع حكومة علاوي ودعم منظمات المقاومة وغض النظر عن العمليات الدموية التي تقوم بها منظمات العنف الأعمى .
أجل الأمن هو مفتاح نجاح الجميع ، سلباً او ايجاباً . فمن شأن إستتباب الأمن تحقيقُ الاستقرار ودعم الاقتصاد الذي يؤدي انطلاقه الى إمتصاص البطالة ومضاعفة الخدمات الاجتماعية والشروع في مشروعات إعادة الإعمار .
ظاهر الحال لا يدل على ان حل المسألة الأمنية بات قريبا.. بالعكس ، ها هو بوش نفسه يعلن في اسطنبول أمام طلاب جامعيين أتراك ، غداة مناسبـة " نقل السلطة " ، " ان العراق سيبقى يواجه تحديات صعبة في الأيام والأشهر المقبلة ". بعد ساعات من خطبته تلك ، كان مسؤولون في وزارة الدفاع يعلنون ان الجيش الأمريكي يخطط لحملة استدعاء إجباري لنحو 5600 جندي من قوات الاحتياط " للحفاظ على مستوى مناسب من القوات في العراق وأفغانستان ". هذه الخطوة تشكّل أحدث دليل على حجم العبء الملقى على عاتق الجيش الأميركي نتيجة تفاقم عمليات العنف في تينك البلدين .
ذلك كله ينعكس سلبا على حملة بوش الانتخابية . فغداة " نقل السلطة " في العراق وعودة جون بريمر الى بلاده ، اظهر استطلاع جديد للرأي نشرتـــــه " نيويورك تايمز " وشبكة " سي بي أس " للتلفزيون تراجعا قياسيا لشعبية الرئيس الأميركي كما لنسبة مؤيدي الحرب على العراق . شعبية بوش بلغت أدنى مستوياتها منذ توليه الحكم في كانون الثاني / يناير 2001 إذ تقهقرت الى 42 في المئة ، بينما رأى 60 في المئة من الأمريكيين الذين شملهم الاستطلاع ان الحرب على العراق لا تستحق ما كلفت من خسائر بشرية ومالية .
ترى ، هل يدفع هذا الاستطلاع الرئيس الأميركي الى هندسة " تنازل " آخر في العراق او في سواه لرشوة الناخب الأمريكي وشراء ثقته مجددا قبل موعد الانتخابات مطلع تشرين الثاني المقبل ؟
العراق رهينة المشهد الانتخابي الاميركي ، صحيح . لكن شعب العراق قادرٌ على تقرير مصير بوش ايضا.. من يدري ؟