كثرت في الآونة الأخيرة عمليات الاعتداء على الأجانب ، خطفا وذبحا ، وعلى الأسرى ، تنكيلا وتصفيةً ، وعلى العرب والمسلمين المتعاونين مع قوات الإحتلال ، إغتيالاً وتشويها .
يبدو ان ثمة تيارا داخل الإسلاميين الأصوليين المتطرفين ينهض بهذه الدعوة ويمارسها ولا تتوانى منظماته المتعددة والملتبسة عن إعلان المسؤولية عنها او تبنيها في ما يشبه الإعتزاز والإفتخار .
هذه العمليات تُدرجها سلطات الولايات المتحدة الأميركية واسرائيل في خانة الإرهاب ، ولا تفرّق بينها وبين عمليات المقاومة التي تتوخى تحرير البلاد والعباد من نير إلاحتلال . لعل التوصيف الموضوعي لهذه العمليات أنها نمط من أنماط العنف الأعمى ، يطول البشر والشجر والحجر ، ويسوق أصحابه في تبريره شتى الأسباب والذرائع . فتارة هو رد فعل محسوب او غير محسوب على فعل عنيف دموي سابق ، وتارة اخرى هو فعل إرادي بل إستشهادي يتّم في سياق جهادي . غير انه يأتي أحيانا من دون هوية أو لا تدّعي المسؤولية عنه أية جهة ، كما يأتي في أحيان أخرى مفاجئا ويعوزه المنطق والدافع فتقدّم الجهة الفاعلة – سواء كانت سلطة او منظمة – إعتذارها لاحقاً عن خطأ جسيم وقعت فيه !
يجمع علماء القانون الوضعي كما السياسيون وقادة الرأي في معظم دول الغرب الاوروبي والاميركي على إدانة العنف الأعمى والتنديد به والدعوة الى التشدد في الإقتصاص من فاعليه . كذلك يميل معظم الفقهاء والعلماء في مختلف أنحاء العالم العربي والاسلامي الى ادانتـه وشجبه ، مستشهدين في هذا السبيل بآيات بيّنات : " ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير من خلقنا تفضيلا " ( سورة الإسراء /70). " من قتل نفسا بغير نفس او فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا " ( سورة المائدة /32) او بحديث او قولةٍ للرسول الأعظم (ص) في قواعد التعامل مع الأسرى عقب " موقعة بدر " اذ إختصهم ، على ما يروي العلامة الدكتور فتحي يكن ، بحراسة مشددة خوفا من ان ينالهم احد بأذى او إنتقام ، مطلقاً قولته الشهيرة : " استوصوا بهم خيرا".
أما أهل المقاومة الوطنية والقومية فقد مال بعضهم الى تأييد جمهرة السياسيين وعلماء القانون الوضعي كما جمهرة الفقهاء والعلماء المسلمين في إدانتهم وشجبهم للعنف الأعمى ، بينما مال البعض الآخر ، ربما لضرورات تكتية ، الى السكوت عن عمليات العنف الأعمى ، داعيا للتنبّه الى ما تمارسه الدول الكبرى من فظاعات في مجال حروبها العالمية والإقليمية ، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية في حروبها الشاملة ضد أعدائها في القرن الماضي وفي حروبها ضد حركات التحرير الوطني ومقاومة الاحتلال ، وحملتها على الإرهاب والإرهابيين مطلع هذا القرن .
الحقيقة ان مفهوم الحرب الشاملة الذي مارسته الولايات المتحدة في جميع حروبها ، لا سيما ضد المانيا واليابان وكوريا الشمالية وفيتنام والعراق ، ومارسته اسرائيل ضد الشعب الفلسطيني هو احد ابرز وأقسى تجليات العنف الأعمى في التاريخ المعاصر. إن إلقاء قنبلة ذرية على كل من مدينتي هيروشيما ونجازاكي اليابانيتين ، او إرتكاب مجزرة " ماي لاي " في فيتنام ، او مجزرة ملجأ العامرية في الحرب ضد العراق العام 1991 ، او مجازر الفلوجة العراقية في الآونة الأخيرة ، هي كوارث وفظاعات وجرائم موصوفة تفوق بما لا يقاس عمليات العنف الأعمى ، غير المشروعة ، التي إرتكبتها مؤخرا منظمات تدّعي انتماءها الى الإسلام الأصولي في السعودية والعراق وأفغانستان . وَمثَلُ إسرائيل كمثل اميركا ، اذْ طرزّت الدولة الصهيونية حروبها منذ قيامها بمجازر وحشية لا تُحصى بلغت إحدى ذراها في تدمير مخيم جنين لللاجئين العام 2002 وإقتلاعه بعد قتل المئات من سكانه .
من هنا تستبين ضرورة الحرص ، في كل حديث عن او إشارة الى العنف الأعمى ، على إدانة الولايات المتحدة بقوة وبلا هوادة كرائدة فاجرة له ولإرهاب الدولة بإمتياز.
في ضؤ تجارب الولايات المتحدة ، ماضيا وحاضرا ، وتجارب المنظمات الإسلامية المتطرفة ، آنيا ، هل يشكّل العنف الأعمى رادعا تكتيا او استراتيجيا ؟
لمنظّري العنف الأعمى فلسفة في مضمار ممارسته وتبريره جوهرها انه سلاح الطرف الأضعف في الصراع ، خصوصا عندما يتصف الصراع بدرجة لافتة من اللاتكافؤ . وانه لتفادي السحق ، يلجأ الطرف الأضعف الى العنف الأعمى لتأكيد بقائه حيا ونابضا ولمحاولة كسر او ، على الأقل ، لجم إرادة العدو بتحميله حجما كبيرا من الأضرار ، البشرية والمادية ، يضعه في موقف حرج بإزاء المجتمع الأهلي داخل كيانه السياسي.
يقولون ايضا ان للإنسان في المجتمعات المتقدمة قيمة كبيرة ووازنة ، لذا فهو نقطة ضعف لديها يمكن إستنزافه عبرها على نحوٍ يؤثر في قرار قياداتها السياسية .
كما يقولون إن من شأن إستنزاف المجتمعات الأهلية بالعنف الأعمى إحباط المعنويات وبالتالي توليد مناخ نفسي جمعي ضد القيادات السياسية قد تضطر معه الى
التنحيّ او الى تخفيف وطأة إستعمال القوة ضد الطرف او الأطراف المقابلة ..
قد تنطوي هذه التبريرات على قدر من الصحة ، لكنها لا تصمد طويلا امام جملة وقائع وحجج مغايرة .
لنبدأ بمقولة العنف الأعمى بما هو سلاح الطرف الأضعف في الصراع . اذا كان العنف خيارا لا بد منه ، فمن يضمن ان يكون الطرف الأضعف اكثر حذقا ومقدرة على إستعماله من الطرف الأقوى ؟ ثم أليس الطرف الأقوى في وضع أفضل من الطرف الأضعف في توظيف مقدار اكبر من العنف في الصراع ؟ وعندما يرد الطرف الأقوى بمقدار اكبر من العنف ، أية قيمة ردعية تكتية او إستراتيجية تبقى لإستعمال العنف الأعمى ؟
صحيح ان للطرف الأقوى نقطة ضعف او اكثر - عقب أخيل كما يقولون – بحيث يتمكن الطرف الأضعف من النيل منه بصورة او بأخرى . لكن من قال ان العنف الأعمى الموّجه ضد المدنيين الأبرياء او الأسرى الخاضعيـن لأحكام معاهدات دولية ( فضلا عما تفرضه أحكام القرآن والسنّـة والحديث وإجتهادات الفقهاء في هذا المجال ) هو النهج الأفعل للتركيز على العنصر البشري - كعب أخيـل - ليأتي المردود سريعا وقويا ؟ أليس الأقرب الى المنطق ان تكون ردة فعل الناس ، في الغرب تحديدا ، سلبية جدا لمرأى المدنيين الأبرياء يذهبون ضحية صراع ليسوا طرفاً فيه ، او لمرأى اسير مقطوع الرأس يدفع حياته ثمناً رخيصاً لسياسة خرقاء وضعها ونفذّها حكامٌ أشرار من وراء مواقع محصنة وبعيدة عن ميدان الصراع ؟
ثمة جاليات مسلمة تعدادها ثمانية ملايين نسمة في الولايات المتحدة ، وهي متعاطفة مع قضايا أوطانها الأصلية ، لا سيما مع قضيتي العراق وفلسطين ، فهل يجوز تعطيل فعاليتها في الساحة الأميركية ، سواء مع أهل القرار او مع مؤسسات المجتمع المدني ، بممارسة عمليات دموية ضد مدنيين أبرياء وأسرى مأمورين ومحبطين ؟
العنف ، بكل أشكاله ، وسيلة غير نظيفة لبلوغ غاية نبيلة او دنيئة . فليُحصر استعماله ، ما أمكن ، ضد ممارسي العنف غير النظيف في جبهة الأعداء كالعسكريين ومن هم في حكمهم كالمستوطنين مثلاً ، وعناصر الاستخبارات من مخططي ومنفذي الفتن الدمويـــة ( " والفتنة أشد من القتل " ) والمواقع والقواعد والارتال العسكرية والمؤسسات الاقتصادية ذات الصلة بالمجهود الحربي.
إن التركيز على هذه الأهداف يعطي المقاومة ، من حيث هي تنظيم سياسي وقتالي في آن ، مشروعية وفعالية ويُسهم في توليد مناخ سياسي ضاغط في صفوف الأعداء والمعتدين لحمل اهل القرار عندهم على إعادة النظر بسياساتهم الخرقاء . لقد خاضت المقاومة الفيتنامية – ثوار الفياتكونغ – غمار حرب شعبية طويلة الأمد ضد جيش الاحتلال الأميركي المدجج بأحدث الأسلحة المتطورة وافتكها من دون ان تنزلق الى عمليات عنف أعمى يذهب ضحيتها ، في غالب الأحيان ، مدنيون أبرياء . ربما لهذا السبب أمكنها توليد رأي عام أميركي متعاطف معها ومطالب بإعادة الجنود الشبان الى الوطن وبإنهاء الإحتلال .
ان العنف المشروع هو ذلك الذي يستهدف أشخاصا وقواتٍ ومؤسسات ضالعة في إستعمال عنف غير مشروع ضد شعب بلد محتل ... عنف قادرة قيادته المخططة وأنصاره في الميدان كما في المجتمع على توليد مناخ سياسي ضاغط لحمل أصحاب العنف غير المشروع وقادة قوات الاحتلال والحكام من ورائهم على إعادة النظر بسياساتهم الخرقاء.
المقاومة كفاح هادف ، غايته إحداث إختلال في ميزان الإرادات لدى العدو لمصلحة قوى الاستقلال والتحرر الوطني ولإكراه العدو تالياً على التراجع السياسي .
السياسة هي محطة الوصول النهائية للعنف المبرمج والمضبوط ، ومنها ينطلق قطار المفاوضات من أجل فرض حقائق الوضع الجديد على الطرف المهزوم او المتعثر او المحبط .
العنف وسيلة ، لا يجوز ان يصبح غايةً في ذاته ، او ان يضيع أهله وممارسوه في مهاويه السحيقة . بالمقابل ، المقاومة كفاح بالعقل والسواعد والنار معا. فليكن الرأي فيها دائما قبل شجاعة الشجعان ... هو أول وهي المحل الثاني .