في الثالث من تموز / يوليو 2004 أطلق قائد شعبي من الناصرة في باحة مقر جمعية الرازي قبالة جدار الفصل الجاري بناؤه على طريق القدس – رام الله الانتفاضةَ الفلسطينية الثالثة .
إنه عزمي ... بشارةُ الانتفاضة الثالثة وإبن الشعب الفلسطيني البار في الشطر المحتل من الوطن السليب العام 1948 وعضو الكنيست ، والمفكر القومي العربي ، والمناضل الشعبي الذي لا يكلّ ولا يملّ . ما ان أعلن عزمي بشارة الانتفاضة الثالثة حتى انضمت اليه كوكبة من الشخصيات الفلسطينية المناضلة في مقدمها قاضي قضاة فلسطين الشيخ تيسير التميمي ، وكبير ممثلي الكنيسة الأرثوذكسية الأب الدكتور عطا الله حنا ، وعضو المجلس التشريعي حاتم عبد القادر ، وموسى ابو غربيه ، واحمد غنيم ، وعبد اللطيف غيث ، واحمد مسلماني ، وسهيل خضر ، ورأفت عليان ، وجودي الجمل ، وهاني العيساوي ، ومحمود عبد الباقي . ثم ما لبث المناضل اليساري الإسرائيلي ميخائيل فارشافسكي ( ميكادو ) ان انضم الى عزمي بشارة ورفاقه المعتصمين والمضربين عن الطعام ، بالإضافة الى شخصيات أخرى فلسطينية ويهودية ، ناهيك عن وفود شعبية من أهالي القدس ومنطقتها ومن الجليل والمثلث وسائر مناطق فلسطين .
اذا كانت انتفاضة العام 1987 هي انتفاضة أطفال الحجارة الذين تصدوا لدبابات العدو الصهيوني بسواعدهم وأيديهم الطرية ، واذا كانت انتفاضة العام 2000 هي إنتفاضة الشبان المقاتلين والاستشهاديين الذين تصدوا للعدو بأرواحهم ودمائهم الطاهرة وما زالوا ، فان مبادرة عزمي بشارة للعام 2004 هي إنتفاضة الشعب الفلسطيني كله من النهر الى البحر ، ومن أبعد نبرة عربية في شمال الجليل الى أصلب وقفة إستشهادية في جنوب رفح .
مرة اخرى ، يقود الشعب الفلسطيني نفسه على طريق الكفاح ، متخطيا قيادات هرمة ، مطلقا قيادات شابة في تراث نضالي موصول ، يتكامل فيه الخلف مع السلف من دون ان يغلق الباب على المستقبل المنبثق من رحم الحاضر.
بكلمات صادقة ، دقيقة ، وموجِّهة شرح عزمي بشارة دوافع الاعتصام والإضراب عن الطعام في خمس حيثيات مكثّفة للانتفاضة الثالثة :
الأولى ، صرخة إنذار وتنبيه وتحذير الى العرب والعالم بأن الجدار الفاصل ليس مجرد تفصيلية أخرى من تفاصيل الاحتلال . " انه أكثر من مصادرة ارض وفصل بين الناس وإجتياح لمدينة او مخيم . إنه تمزيق للمجتمع الفلسطيني وتمزيق للقدس . صفة التمزيق ليست إستعارة بلاغية ، إنما تشخيص واقعي لما يجري على ارض الواقع ".
الثانية ، إقتناع راسخ لدى عزمي بشاره ورفاقه بأن ارييل شارون ومن يذهب مذهبه في دولة العدوان الصهيونية يريد ضم كل ما هو غربي الجدار الفاصل . هذا الخطر الماثل يتطلب ، في رأي بشارة ، شرح الحقيقة الجارحة بتعبير حاد . فالأمر لا يحتاج فقط الى تظاهرات وتعبئة الناس ضد بناء الجدار بل يتطلب ما هو أقوى وأعلى وافعل . فشارون يبيع العالم والعرب كلاما في قطاع غزه ، ويبني في الضفة الغربية حقائق صلبة لإحتلال مديد . والمؤسف ان الوضع العربي أصبح على درجة من البؤس ينتظر معها المسؤولون العرب الفرج على يديّ شارون في غزه وينسون او يتناسون ، في الوقت ذاته ، ما تقترفه يداه من أعمال خطيرة في الضفة .. والمفارقة الكبرى ، يقول بشارة ، ان شارون يَلقى عقبات جدية لخطته في غزه حتى داخل حزبه الليكودي بينما يحقق نوعا من الإجماع لخطة الجدار في الضفة والقدس !
الثالثة ، إن إغلاق الطريق التاريخي بين القدس ورام الله بجدار يفصل البيت عن البيت ، والفلسطيني عن عائلته ، والقدس عن قراها وضواحيها وعن بقية المناطق المحتلة العام 1967، ويغيّر معالم البلاد الجغرافية والاجتماعية بطرق إستعمارية هو تقطيع لأوصال الشعب الفلسطيني وجريمة بحق المجتمع الفلسطيني والعائلة الفلسطينية . إنه فرض وحشي لنظام فصل عنصري من طرف واحد على الضفة الغربية في ظل اهتمام عربي ودولي بإعادة إنتشار إسرائيلية في قطاع غزه .
الرابعة ، لفْتُ الرأي العام العربي والعالمي الى خطورة بناء الجدار العنصري الفاصل والى معاناة الشعب الفلسطيني . فالإعتصام والإضراب عن الطعام ليسا موجهين للفت أنظار الإسرائيليين ، ذلك ان غالبيتهم الساحقة تؤيد بناء الجدار وبشدة لافتة . رغم ذلك أبدى بشارة ورفاقه الترحيب بكل من ينضم من الإسرائيليين الى الحملة ضد الجدار والى المشاركة في الاعتصام والإضراب .
الخامسة ، فضح خطة شارون الرامية الى إلهاء العالم (والعرب ) بالحديث عن خطة للفصل من طرف واحد في قطاع غزه في الوقت الذي يقوم في الضفة الغربية بأخطر عملية إستباحةٍ وتجذرٍ استعمارية . لذا اعتصم بشارة في خيمة في الضفة الغربية على طريق القدس - رام الله ليس بصفته عضوا في الكنيست بل بصفته ابنا للشعب الفلسطيني ، واضعا نفسه وسائر رفاقه المضربين عن الطعام لمدة عشرين او ثلاثين يوما في خدمة المعركة ضد جدار الفصل العنصري ، مؤملا ان يحقق مع رفاقه إثارة الإنتباه الى حقيقة مخاطر الجدار وانعكاساتها الكارثية على كل مناطق فلسطين التاريخية .
لعل ما لم يقله بشارة ورفاقه ، لإعتبارات تتصل بأمن الإنتفاضة الثالثة وسلامة مسيرتها السلمية الظافرة ، هو بأهمية ما قاله غداة إعلانها . فإكتمال بناء الجدار سيؤدي الى تصعيب التقّرب عسكريا من المستوطنات الواقعة الى غربه كما الى سائر المناطق في العمق الصهيوني ، الأمر الذي سيقلص بالضرورة العمليات الفدائية والاستشهادية ضدها . هذا الواقع المستجد يستوجب تعديل نهج الكفاح الفلسطيني في منظور إستراتيجي على نحوٍ يؤدي الى تعويض المقاومة الميدانية ، او بعضها على الأقل ، بمقاومة مدنية يكون الشعب فيها هو المحّرك والوقود في آن .
هذا من جهة . ومن جهة اخرى فان تعاظم أخطار المخطط الشاروني الصهيوني المعروف بخطة الفصل وإفتتان العالم به وسكوت النظام الرسمي العربي عنه تستوجب تعبئة أوسع القدرات الشعبية وزجها في المعركة . من هنا فإن مبادرة عزمي بشارة ، ابن الناصرة واحد ابرز قادة النضال القومي بين عرب مناطق فلسطين المحتلة العام 1948 ، هي إشارة استراتيجية بعيدة الدلالة لتسريع عملية اشراك الشطر الفلسطيني الخاضع لقوانين الدولة الصهونية منذ العام 1948 في النضال الشعبي على إمتداد فلسطين التاريخية ضد الاستعمار الصهيوني العنصري التوسعي .
تداركا لهـذه الحقيقة الاستراتيجية وغيرها ستحاول المؤسسة الصهيونية الحاكمة ، بشخص شارون او غيره ، محاربة الانتفاضة الثالثة بكل الوسائل المتاحة المشروعة وغير المشروعة .. وقد لاحت بوادر الحملة المضادة بذلك التعتيم الإعلامي شبه الكامل الذي جوبهت به حركة عزمي بشارة ورفاقه ... تعتيم لم يقتصر على فلسطين فحسب بل امتد الى العالم العربي والى العالم الأوسع .
غير ان حملة التعتيم والتشكيك والتضييق والتفريق والقمع لن تثني الشعب الفلسطيني عن كفاحه ، ولن ترهب طليعة الانتفاضة الثالثة ولن تكسر إرادتها ولن تحول دون تواصلها مع الشعب الفلسطيني ومؤسسات مجتمعه المدني والقوى الحية في صفوفه . ولن يطول الوقت ، فيما احسب ، قبل ان يحّول هذا الشعب الحي الجدار الفاصل المتعرّج المسار كثعبان مميت حدثا يوميا نابضا في وجدان ملايين الناس في كل أرجاء المعمورة . هل كثير عليه ان يقيم ، على امتداد الجدار من الشمال الى الجنوب ، لقاءات شعبية وصلوات دينية واعتصامات إحتجاجية ، مجتذبا اليها الآلاف من أبناء فلسطين على جانبي " الخط الأخضر " ومن مناصري حقوق الإنسان من شتى الأقطار والأمصار ؟
أجل ، " ليس هناك سقف لهذا الاعتصام والإضراب " ، كما أعلن حاتم عبد القادر ، عضو المجلس التشريعي الفلسطيني ، من خيمة الاعتصام .
بل ، لن يكون للانتفاضة الثالثة سقف ، كما سيقول أبناء فلسطين الميامين والعرب الأحياء في كل مكان.