بين الحبر والبحر مشاكلة ظريفة لا تقتصر على التجانس الحرفي بينهما، فثمة وشائج معنوية وثيقة تؤلف بينهما، فالقرآن الكريم في بيانه المعجز قد جعل الحبر بحرا حين ضرب لنا مثلا بليغا لسعة كلمات علم الله تعالى (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل ان تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا)، وبين الحبر والبحر مشاكلة اخرى على النقيض من هذه المشاكلة القرآنية ستكتشفها عقب فراغك من قراءة هذه المقالة!!. حين اصدرت محكمة العدل الدولية حكمها الاستشاري بعدم قانونية الجدار العازل الاسرائيلي سارع الاعلام العربي الى وصف القرار بانه قرار تاريخي منصف يعيد الحقوق لاصحابها، واجتهد في بث التصريحات المتفـائلة التي اطلقــها العديد من الزعماء العـــرب مبشــرة بـ (نصر من الله وفتح قريب) مرتقبين بعد هذا القرار الذي لا يملك ذرة من الزام للمتخاصمين، ولذا فان وصف الحكم بالقانوني فيه الكثير من المبالغة والتفخيم، فما قيمة القانون حين يكون عاجزا مشلولا؟!!, ربما كان التصريح الوحيد الذي يكشف حقيقة هذه الفقاعة المنتفخة هو ما ادلى به وزير المالية الاسرائيلي بنيامين نتنياهو، وهو تصريح ينطوي على استهزاء ساخر من امكانية صدور قرار من الامم المتحدة بتطبيق حكم محكمة العدل الدولية قائلا: ان اعضاء الجمعية العامة «يستطيعون ان يقرروا ما بدا لهم هناك, يستطيعون ان يقولوا ان الارض مسطحة, لكن ذلك لن يجعل الامر قانونيا، ولن يجعله حقيقيا ولا عادلا»!!, بينما صرّح احد مستشاري شارون ان القرار سيجد مكانا له في سلة مهملات التاريخ!! ولم تجد اميركا غضاضة من اعلان رفضها المبدئي لاحالة القضية على المحكمة المذكورة، وهو ما يعني بالتلازم رفض القرار، اذ مازالت خطة الطريق في نظرها تمثل الحل الامثل لمشكلة النزاع الاسرائيلي ـ الفلسطيني.
وفي غمرة العرس العربي البهيج المقام بمناسبة القرار التاريخي، فان اعمال التشييد والتسييج تسير على قدم وساق والبلدوزرات الاسرائيلية ماضية في بناء الجدار بلا كلل ولا توقف دون ادنى اكتراث بذلك القرار الذي لا يساوي فعليا الحبر الذي كتب به، فلقد انجزت اسرائيل ما يزيد على 150 من 250 كيلومتراً من السور الذي سيحصر الفلسطينيين في 42 في المئة من مساحة الضفة الغربية، ويكفي لتعرف حجم المأساة ان مدينة قلقيلية التي تعدّ سلة فواكه الضفة الغربية يحاصرها السور من ثلاث جهات ويحول بين فلاحيها وزروعهم، ويحجب عنها اهم مصادرها المائية!!.
ان الفرح بهذا القرار الورقي ينبغي الا يشغلنا عن مرارة الواقع والبحث عن سبل اجدى لتغييره، وما تثيره اسرائيل واميركا من ضجة وجدل حوله لا يرمي الا الى خلق ايهام رخيص بتحقيق نصر عربي في خضم متتالية الهزائم والنكسات، وحين يطبق الذئب بانيابه ومخالبه على عنق النعجة المستكينة فانه سيترك لها لحظات محدودة لتطلق صرخاتها وتصم الآذان بعويلها وثغائها، ومن يدري فربما كانت الوليمة لا يطيب بها الذئب نفسا الا على وقع انغام هذه السيمفونية الحزينة! ولا ادري لم يخطر في بالي ذلك التصريح العنتري القديم الذي اطلقه الزعيم العربي مهددا فيه باغراق اليهود في البحر، وهاهم الآن يغرقوننا في (الحبر) حبر قرارات دولية هزيلة لن يعدو وصفها الوصف التقليدي المشهور في كل قرار شكلي، انه حقا: حبر على ورق تواليت!!.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية