لا أحد يدري كيف ستنتهي الأزمة التي تعصف بالسلطة الفلسطينية وبمنظمات المقاومة في قطاع غزه وحتى في الضفة الغربية . فالأزمة شديدة التعقيد ، تتداخل فيها عوامل محلية وإقليمية ودولية ، وتتفاقم في ظروف سياسية وميدانية ليست في مصلحة الفلسطينيين والعرب أجمعين . والأزمة مزمنة ، أنضجتها سنوات مترعة بالنزاعات والمؤامرات والتسويات والنكسات ، على طرفي سياج الصراع التاريخي المستمر .
عشية إنفجار الأزمة ، كانت خطوط الصراع بإيجاز على النحو الآتي : • قلق متزايد في صفوف اهل المقاومة ، كما في صفوف أهل المفاوضة ، في مسألة لمن تكون السيطرة على قطاع غزه اذا ما تبيّن ان ارييل شارون جاد في الإنسحاب من المستوطنات : هل تكون للسلطة الفلسطينية بشخص ياسر عرفات ، ام للحكومة الفلسطينية بشخص احمد قريع ومن يمكن ان يواليه من الاجهزة الامنية ؟ أم تراها تنتهي الى أجهزة امنية متربصة في قطاع غزه ما زالت موالية للعقيد محمد دحلان ، مدير الامن الوقائي السابق ، الذي لا يخفي تحفظاته على قيادة عرفات ، ولا يكتم معارضته للمقاومة المسلحة ؟
• قلق متزايد لدى جميع الاطراف – بإستثناء جماعة محمد دحلان – من ان يكون مخطط شارون القديم – الجديد قد وُضع موضع التنفيذ ، وهو يقضي بالإلتفاف على "خريطة الطريق " لإنهاء " رؤيا " جورج دبليو بوش حول إقامة دولتين متجاورتين إسرائيلية وفلسطينية وذلك بتسليم قطاع غزه الى مصر عبر محمد دحلان وجماعته . وكان دحلان قد تولى اخيراً تنظيم عمليات التمرد على قيادة عرفات وإتهام قادة الأجهزة الأمنية بالفساد . كما يُخشى من إضعاف سلطة عرفات في الضفة ايضا بإحداث إنشقاق في حركـة " فتح " مماثل للإنشقاق الجزئي الحاصل بين تنظيماتها في قطاع غزه . كل ذلك بقصد حمل فلسطينيي الضفة ، وسط الضائقة المعيشية ومن ثم الصراع السياسي المخطط لحدوثه فيها ، على مطالبة السلطة في رام الله ، بالإنفتاح على الاردن – حيث أكثريـة الشعب فلسطينية – وبالتالي التكامل معه كدولة " فلسطينية " بديلة .
• قلق متزايد في صفوف دعاة إستراتيجية إستمرار المقاومة وتصعيدها ضد اسرائيل التي تحمل لواءها منظمات " حمـاس " و " الجهـــاد الإسلامي " و " الشعبية " من ان تؤثر حوادث قطاع غزه وأحداثه على مستقبلها ومستقبل إستراتيجيتها ضد إسرائيل ..
ما ان اندلعت الإشتباكات ، وسالت الدماء ، وتعالت صيحات المطالبة بالإصلاح وإنهاء الفساد حتى أمكن للمراقب ان يستشف ، وسط تبادل النيران وسحب الدخان ، ظواهر مؤلمة . فصانعو الاضطرابات في القطاع أعضاء في حركة " فتح " او في تنظيمات تابعة لها ، أي ان أبا عمار ضُرب من بيت ابيه ، وان شعار الإصلاح وإنهاء الفساد والفاسدين شعار صحيح ومطلب محق . لكّن التعيينات الجديدة في قيادات الأجهزة الأمنية تكشفت عن جملة حقائق ابرزها ان الخلف ليس أفضل كبديل من السلف ، وان المحّرض على ضرب الفاسدين ربما كان اكثر فساداً من الذين يطالب بإقصائهم ، وان المستفيد الأكبر وربما الأوحد من كل ما جرى ويجري هو شارون الذي ساعده المتصارعون على جلد دب السيطرة على غزه قبل بدء الانسحاب الصهيوني من المستوطنات على إثبات دعواه بأن ليس ثمة شريك فلسطيني يمكن التفاوض معه . غير ان اضطرابات قطاع غزه أثبتت أيضاً أن أشد المتضررين منها هي منظمات المقاومة من أنصار إستمرار الكفاح المسلح : ويلها إن تخلّت عن عرفات الأب في وجـــه " أبنائه " من أعضاء " فتح " المتمردين او المتحالفين مع دحلان الذي لا تعاديه إسرائيل ، وويلها إن تخلت عن عرفات الرمز المتلكىء عن محاربة الفساد المستشري في أجهزة سلطته.
الى أين من هنا ؟
لا ريب في ان الأزمة المزمنة التي انفجرت أخيرا على مداها سياسيةٌ في أصلها ، وان الفساد هو احد فصولها اللافتة وأكثرها مدعاة للتنافس والتصارع ، وهو ما كان لينشأ أصلاً ويأخذ مداه لولا الاختلاف الواضح بين المنظمات عموماً وداخل حركة " فتح " خصوصا بين دعاة المقاومة ودعاة المفاوضة في المرحلة الحاضرة .
إذن ، ما دامت الأزمة سياسية فمن الطبيعي أن تكون معالجتها سياسية في المقام الأول . وما دامت معقدة فإن الحل سيكون معّقدا بالضرورة .
من المعلوم ان عرفات يقبل ، بحكم رئاسته للسلطة الفلسطينية ، مبدأ التفاوض مع حكومة اسرائيل في كل ما يتعلق بحقوق الشعب الفلسطيني . الاّ ان معارضته مشروع الرئيس الاميركي السابق بيل كلينتون أواخر العام 2000 لتسوية النزاع مع حكومة إيهود براك حول السيادة على القدس والمساحة الصافية من الضفة الغربية الواجب بقاؤها تحت سيادة الدولة الفلسطينية الموعودة أثارت عليه حقد الصهيونيـة العالمية وحلفائها ، لا سيما المحافظين الجدد ، حاضني الرئيس جورج بوش ، فكان ان قاطعه هؤلاء جميعا وفرضوا عليه الحصار ، كما رفضوا إعتباره شريكا مفاوضا عن الشعب الفلسطيني في المحادثات المتعلقة بتطبيق " خريطة الطريق ".
في إطار مقاطعة عرفات ومن أجل إضعافه ، دعت إدارة بوش الى إيجاد مركز رئيس للوزراء داخل هيكلية السلطة الفلسطينية ، والى إعطائه صلاحيات سياسية وازنة والى توحيد الأجهزة الأمنية تحت سلطته ، كل ذلك من اجل ان ينوب رئيس الوزراء مَنابَ الرئيس عرفات في التفاوض مع حكومة شارون وأعضاء اللجنة الرباعية المسؤولة عن رعاية تنفيذ " خريطة الطريق " .
من الطبيعي ان يرفض عرفات ، كما جميع المنظمات والقوى والشخصيات الوطنية الحريصة على حقوق الشعب الفلسطيني ، هذا التجاوز المغرض لرئيس منتخب وان يتضامنوا معه ويصروا على إحترامه كرمز لنضال الشعب الفلسطيني وكرئيس لسلطته الوطنية . من هنا فإن أي حل تتدارسه المنظمات الفلسطينية بعد انفجار الوضع في قطاع غزه يجب ، في ضوء الإعتبارات المار ذكرها ، ان يقوم على قاعدة صلبة مفادها انه في حال قبول اسرائيل وحلفائها العودة الى خيار المفاوضة - وهو خيارٌ يبدو الآن شبه مستحيل - فإن ياسر عرفات ، الرئيس المنتخب للشعب الفلسطيني ، يبقى السلطة الصالحة والمخولة تمثيله والمفاوضة باسمه والإلتزام لمصلحته في إطار التوافق الوطني الفلسطيني وإلتزام الحق الثابت بالمقاومة حتى التحرير.
هذا لجهة المفاوضة . اما لجهة المقاومة – وهو الخيار الوحيد المتاح بل المطلوب في ظل حكومة شارون وادارة بوش – فإن القرار يجب ان يبقى في عهدة منظمات المقاومة الملتزمة طريق الكفاح المسلح في الصراع مع الصهيونية والمشروع الإمبراطوري الأمريكي . ولكي يبقى قرار الكفاح المسلح مضمونا ومحميا في عهدة منظمات المقاومة ، يقتضي إقامة جبهة وطنية موحدة لقيادة العمل الفلسطيني ، بكل وجوهه ومتطلباته ، في المرحلة الدقيقة الراهنة ولغاية تحقيق الأهداف المرتجاة ..
ان الشعب الفلسطيني يملك من الوعي والصبر والصمود ما يمكّنه من تحمّل حدوث تصدع في سلطته الوطنية ، وهو قادر على معالجته وإيجاد الحل اللازم له في ضوء تجاربه السابقة والدروس المستفادة منها . لكنه لا يتحمّل البتة ، وسط ضخامة الأخطار والتحديات الماثلة ، أيّ شرخ في وحدته الوطنية او أي تآمر او طعن لمقاومته الباسلة التي هي هويته وملاذه ومستودع كرامته ودرع وقايته وسبيله الى الحرية والاستقلال والنصر.
في مواكبة خيار المفاوضة – شبه المستحيل – وعلى هدي نضال المقاومة ومتطلباته ، يقتضي ان تبادر قيادة السلطة الفلسطينية بلا إبطاء ، الى مباشرة عملية الإصلاح الديمقراطي وإنهاء الفساد المستشري في الأجهزة الأمنية وسائر مؤسسات السلطة . فالإصلاح ليس مطلبا امريكيا بل هو مطلب وطني نابع من مقتضيات الصراع ضد العدو الصهيوني ، ذلك ان للإنتصار شرطاً بديهياً هو عدم الإنشغال عن المعركة ومقتضياتها بالرغائب والشهوات الشخصية والمال والمغانم والاسلاب.
الى متى ترضى قيادة فلسطين بأن تبقى أخلاق بعض مسؤوليها أدنى من شرف القضية ؟