لا غرابة في أن يزداد الاهتمام الفرنسي أكثر فأكثر بالشأن الجزائري هذه الأيام..بعد تبدد الغيوم التي كانت تحجب الرؤية عن الأفق السياسية والاقتصادية لأكثر من عشرية من الزمن.فالانتخابات الرئاسية الأخيرة التي نصبت للمرة الثانية مرشح المصالحة الوطنية الشاملة عبد العزيز بوتفليقة .يبدو أنها زادت من جرعة هذا الاهتمام وهذا الانشغال المفرط فيه.وبعد أن تبين للفرنسيين بأن مشروع الأصوليين في غلق الباب أمام الاستعمار القديم قد ولى وللأبد... وبعد أن ترسمت داخل القناعات السلطوية في الجزائر أن المصالحة الوطنية تعني مستقبل الانفتاح على الغير شريطة أن هذا الغير ،يغير من وضع الجزائر خارجيا،ويحسن صورتها ولو على حساب الداخل .السلطة الجزائرية وظفت هذا الاهتمام الفرنسي كخيار أولي من أجل خلق نوع من التوازن نظير العلاقة مع أمريكا.. التي بدأت هي الأخرى تعي أن مستقبلها الاقتصادي ليس فقط في الشرق الأوسط الكبير بل أيضا داخل الحيز الجغرافي الموجود في شمال أفريقيا.. وكما اعتنت أمريكا بهذه العلاقة الحميمية مع الجزائر باحتوائها لجميع الاستثمارات في الصحراء.. فرنسا بدورها لم تفرط في مستعمرتها القديمة ،ولم يغمض لها جفن من أجل التواجد ولو على الحدود.واليوم الفرصة سانحة أكثر من ذي قبل لتمطيط فضاء العلاقات ، خصوصا إذا ما علمنا أن المصالحة مدخلا مهما لكسر كل محظور .فهي يافطة ستجعل العلاقة مع فرنسا توطينا لقيم جديدة وتوطين مرة أخرى لمن باعوا الوطن في أحلك الأيام وأغرقوه بالخيانة وانضموا من غير حشمة إلى القوى الاستعمارية من أجل لمجة بطن ،أو دنية نفسية متأصلة فيهم.فالحركى سيعودون بقوة مع هذه العلاقة .. وملف هذه المجموعة سيكون محل مضاربات سياسية أكثر منه إعلامية لأنه سيكون مغلفا بالجنسية الفرنسية التي تعطيه فرنسا حقا قانونيا يخضع للقوانين الدولية المعمول بها.وسيكون للحركى وللأقدام السوداء المكانة اللائقة بهم في مجال المال والأعمال .. وهو مجال خصب ،لا سيما وأن الجزائر خرجت لتوها من حرب غير معلنة ومن وضع مثخن بالجراح .. مما يعني أن سوق العمل الجزائرية هي في حالة البكر التي تحتاج إلى عناية خاصة واهتمام فائق .وإذا ما تم التزاوج بين الحالة الاجتماعية التي عليها الشعب الجزائري .. واستثمارات فرنسا في مجالات عدة فالرابح لا محالة سيكون فرنسا باستيلائها على اليد العاملة التي سترخص بشكل أو بآخر لأن المستثمر الفرنسي هو ذلك الحركي الذي سوف يرجع ،ومستوى الخيانة مشبع عند نفس النقطة كما أن الحقد يملأ قلبه .. ولو ضحك ملأ شدقيه أمام الكاميرات.ومن دون الحديث عن الهوية التي سيتم طعنها على المباشر مع سبق الإصرار والترصد .لأن الجزائر ستكون مشتلة استثمارية للفرنسيين دون غيرهم .ومن دون غض الطرف عن اليد الأمريكية المغروزة في الجنب الصحراوي من أرض الجزائر. إن الطفرة المستحدثة من خلال شعار المصالحة الوطنية وهي الانفتاح ثم الانفتاح حتى الانبطاح.لن يتأتى من ورائها طائل مادامت العلاقات غير متكافئة ابتداء.فالجزائر كما أسلفنا همها هو البحث من خلال شقوق الباب على مسعف لوضعها ،ونفض اليد نهائيا من عشرية جاءت بالحرائق فقط. وليس هذا فحسب،بل تريد سقفا تصل إليه علاقاتها مع الضفة الأخرى ،والتجاوب أكثر مع طروحات العولمة.وفرنسا إذا ما اغتنمت هذه السانحة لا لوم عليها ولا جرم عليها .. فمن حقها أن تراود مستعمرتها القديمة من أجل غرز بقايا السكاكين التي بحوزتها منذ القديم.فهل وعى القائمون على النظام في الجزائر ما مرده أن العلاقات لا تبنى إلا إذا كانت مبنية على التكافؤ والقوا سم المشتركة وليس على المضاعفات المنفعية لجانب واحد .وهل يدرون أن المصلحة الفرنسية يهون من أجلها كل شيء وهل أخذ رأي الشعب في هذه العلاقة؟.وماذا تجني الجزائر من هذه العلاقة المشوبة بالمغالطات التاريخية؟.لقد أتبث الواقع أن الاستعمار مهما كان تبقى نواياه غير سليمة ونفسها نوايا استعمارية لا تتغير.ولسنا ضد ترسيم علاقات دولية مع فرنسا .ولكن نحبذها أن تكون على مستوى تكافئي .تكون الجزائر مستفيدة كما يستفيد الطرف الفرنسي.أما وأن تعطى الجزائر لقمة سائغة للذئب الفرنسي،كي ينهش ما تبقى من لحمها وعظمها .فهذا الذي لا يقبل به عاقل.خصوصا وان الشعب الجزائري والحمد لله لا يزال على ذاكرته المرة ..أن فرنسا دولة استعمارية خرجت وللأبد في 05جويلية 1962 .هناك مغالطات يريد البعض للأسف بجهل أو بتجاهل أن ينفثوها في مخيلة السواد الأعظم لهذه الأمة .. أولها: أن العلاقة الفرنسية الجزائرية ستكون علاقة اقتصادية ليس إلا ولا دخل للعامل الأيديولوجي في ذلك ،بل من الأحرى أن تتعزز هذه العلاقة بحكم القرابة التاريخية ،التي تربطنا بها.وثانيها: الفرنسيون الحاليون هم غير الفرنسيين الذين حاربوا الجزائر في معظمهم ولا دخل لهم في الأحقاد التاريخية القديمة.. وإذا كان اهتمامهم منصب حول الجزائر فمن أجل مد جسور التعاون الاقتصادي وخلق فضاء اقتصادي يخدم البلدين.ثالثها: أن العولمة تقضي بأن ينفتح الجميع على الجميع ولا مجال للتقوقع مادام فرص الاستثمار ممكنة .رابعها:أننا في طور الإنشاء ولا نملك وسائل الإقلاع الاقتصادي الضروري،ومن ثمة يتوجب ربط علاقات مع الفرنسيين وكأن الدنيا بطولها وعرضها لم تنجب سوى فرنسا.أما خامسها: أن التاريخ يطوى وهو مجرد ذكرى .والمهم هو المستقبل .ومن قال صراحة أننا لا ننظر للمستقبل ولا نتوق إلى ما هو أفضل .لكن المستقبل لا يبنى على حياة الحاضر ،كما لايقوم على التنكر للماضي،وخيانة الشهداء.فإذا كنا كأمة تعيش الحاضر،فهو مناصفة مع الذين أوصلوا هذا الحاضر وماتوا لأجله.فالماضي ليس ملكا لأحد،أو شيئا مشاعا تتصرف فيه السلطة كيفما شاءت.بل الماضي جزء من الذاكرة الجماعية التي بدورها جزء من الحاضر .والذي لا يملك الماضي أبدا لا يملك الحاضر والمستقبل .والعلاقة بين الجزائر وفرنسا ولو أنها علاقة اقتصادية صرفة مبنية على مبدأ أعطني أعطيك.كما تبدو من الظاهر.فهي علاقة نسبية .ففرنسا ليست بالغباء الذي يجعلها تتعامل مع الجزائر بعقلية القناص للبضاعة فقط.بل إنها تعي جيدا هذا الشريك الجديد القديم في العلاقات الدولية وتعي جيدا أن الجزائر جنتها في يوم من الأيام.ولقد كان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة صارما في هذه النقطة عندما أرسل لفرنسا رسائل مشفرة من بينها أن الجزائر لم تعد أبدا جنة فرنسا.وكانت إجابة من وزير خارجية حضر يوم أن جاء "جيسكار ديستان" للجزائر لأول مرة وقال مقولته المشهورة"فرنسا التاريخية تحيي الجزائر المستقلة"وهذه المقولة لها مدلولاتها الكبيرة في علم النفس وتعني أشياء كثيرة في علم السياسة .. خصوصا وأنها جاءت من لدن مستعمر خرج لتوه من صدمة الاستعمار.إن الجزائر مطالبة في علاقاتها مع فرنسا بفتح حدودها كشريك اقتصادي .. وبالموازاة مطالبة بفتح سجل تاريخها .لأن المدقق فيما عليه فرنسا اليوم من نعمة مادية،وترف اقتصادي يصل إلى نتيجة مفادها أن كل ذلك كان من عرق أجدادنا وآبائنا ومن أرضنا المعطاءة.
ولنحسبها بالشهور وما كان يصدر خارج الجزائر أيام الاستعمار سنجد لا محالة الفاتورة باهظة.. وسنجد فرنسا برمتها هي التي جزائرية.لأن خيرات الجزائر من بشر وماديات هي التي منحت فرنسا مكانتها الحالية.فهل يعرف معالي الوزير نيكولا ساركوزي ذلك....