هل هي الفوضى ما يسود العالم في هذه الآونة ام هي صراعات تلفّ مجمل الشعوب والبلدان والمناطق ؟
الظاهرتان تشكّلان ، على ما يبدو ، ظاهرة واحدة متكاملة . فالصراعات التي تتفجر وتتعمم بصيغ متعددة تؤدي الى نشؤ فوضى متسارعة الانتشار في كل الامصار .
العرب ( والمسلمون ) هم في هذه الآونة في قلب الصراع وبالتالي في قلب الفوضى . ليسوا كذلك بسبب موقعهم الوسطي الإستراتيجي بين شرق الاصالة وغرب الحداثة وشمال الغنى وجنوب الفقر وحسب بل ايضا لأنهم ، مختارين احياناً ومضطرين أحيانا اخرى ، مشاركون في قضايا خمس مفتاحية وساخنة تطبع حاضر العالم المعاصر وتسهم في إعادة تشكيله . انها قضايا إدارة العالم ، صدام الحضارات ، المقاومة والإرهاب ، النفط ، والهجرة .
في هذه القضايا المفتاحية ، ليس العـرب والمسلمون لاعبين دائما . انهم ، غالبا ، ضحايا او ادوات او مجرد ساحات لصراعات ولفوضى تنجم عن تلك القضايا الساخنة . في قضية ادارة العالم ، اللاعب الرئيس هو الولايات المتحدة . فقد أسهم إنهيار الاتحاد السوفياتي وافول الحرب الباردة في نشؤ حال من فراغ القوة سرعان ما ملأته
أمريكا بتفوقها العسكري وقدراتها الاقتصادية وتقدمها التكنولوجي . غير أن نزوعها الى الاستئثار بإدارة العالم وضعها في موقف سياسي صدامي مع أقطاب دوليين وازنين كأوروبا بدولها الخمس والعشرين وملايينها الاربعماية والخمسين وسوقها القارية الواسعة وقدراتها الاقتصادية المتعاظمة ، والصين بسكانها الذين يربو عديدهم على المليار ومايتي مليون نسمة واقتصادها الكبير المرشح لأن يصبح الأكبر في العالم قبل العام 2015 ، ناهيك باليابان ذات القدرات الاقتصادية والتكنولوجية الباهرة التي بوأتها المرتبة الثانية في هذا المضمار بعد الولايات المتحدة ، والهند والمليار من سكانها ومئات الآلاف من إختصاصييها المهرة والعمال والمستخدمين النشطاء والتكنولوجيا الصاعدة ، والبرازيل ذات الموارد المتنوعة والسوق القارية والمدى الاقتصادي الواسع والواعد.
في سعيها الى إدارة العالم بصورة منفردة ، إصطدمت الولايات المتحدة بالعرب والمسلمين في فلسطين والعراق وأفغانستان والصومال من خلال إعتمادها مفهوم الحرب الوقائية او الاستباقية مع ما جرّته على تلك البلدان من قتل للإنسان وتدمير للعمران وإحتلال للأرض ونهب للموارد.
ما دور العرب أمام تحدي إنفراد أميركا بإدارة العالم ؟ هل بمواجهتها سياسيا بالتعاون مع الأقطاب الدوليين المتضررين من سياستها الخرقاء ، ام بمواجهتها ميدانيا بالمقاومة المسلحة او بإشكال اخرى من العنف الهادف ؟
في صدام الحضارات ، بات واضحا ان صاموئيل هانتينغتون والذين يذهبون مذهبه يعتقدون ان في الإسلام تثوي بذرة العداء للغرب ، و " ان الصراع تمدد عالميا بواسطة جماعات إسلامية صغيرة ومنظمة تضرب المصالح الغربية (...) وان إحتلال افغانستان والعراق فتح الباب على الصدام المفتوح فإتسعت بؤرة إنتشار الصراع بين الإسلام والغرب ، وان المسلمين هم أول من سيتحمل نتائجه " ( نقلا عن حوار عقدته معه مجلة " توفيما " Tovima ، أثينا ، بتاريخ 2004/6/5 ) ..
إن إعتبار العرب والمسلمين محكومين إيديولوجيا بفكرة معاداة الغرب ومحاربته يفضي الى تسويغ فكرة شن حروب وقائية وإستباقية عليهم ، بل يفضي الى جعل الحرب عليهم حرباً مستمرة لا نهاية لها !
ما هو النهج الذي يقتضي ان يعتمده العرب لمواجهة هذه الهجمة الشرسة ؟ هل يكون بالعودة الى الأصـول والتشرنق والتعبئة ومباشرة المقاومة المدنية والميدانية ؟ هل يكون بالتغرّب ، أي بتقليد الغرب والاندراج في سياقه الحضاري ؟ أم يكون بمباشرة نقدٍ للتراث وللغرب في آن وإعادة بناء ثقافتنا من الداخل ، كما يدعو محمد عابد الجابري ، من موقع الاستقلال والنزاهة وإيثار الخير العام ؟
إن إصرار الولايات المتحدة على إدارة العالم بصورة منفردة ، وإعتبارها العرب والمسلمين محكومين بالفطرة والعقيدة والتجربة بفكرةِ محاربة الغرب أديا الى قيام حالة حرب بين الطرفين الأميركي والعربي ، وان حالة الحرب هذه مرشحة للتصعيد والتوسع . الا يشكّل إصرار أميركا وإسرائيل وحتى بعض دول أوروبا على إتهام ايران بأنها عاودت برنامجها النووي وأنها في صدد إنتاج قنبلة ذرية في غضون سنتين او ثلاث ، تبريرا لشن حرب إستباقية عليها ؟ أليس هذا ما فعلته تلك الدول لتبرير الحرب على العراق ؟
العرب والمسلمون ردّوا على هذه الهجمة السياسية والعسكرية بمباشرة مقاومة مسلحة في فلسطين وأفغانستان والعراق . لكن أميركا وإسرائيل وصفتا المقاومة بأنها إرهاب وبالتالي فهي غير مشروعة . بما تجيب القوى المناهضة لأميركا وإسرائيل عن إدعاء تزاوج المقاومة والارهاب ؟ هل تكتفي بتوضيح الفارق بين المفهومين ام تثابر على مقاومة الهجمة الأميركية الصهيونية بجميع الوسائل المتاحة بما في ذلك العنف الأعمى ؟ ألم يؤدِ إغتيال اسرائيل قادة المقاومـة الفلسطينية الى قتل عشرات المدنيين الأبرياء من جيرانهم ؟ أليس هذا نوعاً من أنواع العنف الأعمى وإرهاب الدولة في آن ؟ أليس تدمير أحياء بكاملها في رفح لـوناً من ألوان العنف الأعمى ؟ أليس قيـام الطائرات الأميركية بقصف منازل آهلة بالمدنيين الأبرياء في الفلوجة وسامراء هو العنف الأعمى بعينه ؟ هل تعالج المقاومة الفلسطينية والمقاومة العراقية العنف الأعمى الصهيوني والأميركي بعنف أعمى من الطراز نفسه ام ثمة طريقة أخرى للرد افعل وأكثر مشروعية ؟
قضية النفط تبدو قابلة للإشتعال أكثر من غيرها . انها مشتعلة فعلا من خلال العمليات التي تستهدف أنابيب نقل النفط في شمال العراق وجنوبه . لقد اتضح بما لا يقبل الشك ان النفط دافع رئيس لشن أميركا الحرب على العراق وإحتلاله . كما ثبت ان عائدات النفط كانت ، وما زالت ، مجال نهْب مفتوح في خلال فترة الحصار المضروب على العراق قبل الحرب وبعدها . ابرز المشاركين في النْهب موظفون تابعون للأمم المتحدة ، ناهيك عن أجهزة أميركا وشركاتها العملاقة . لعل نهْب عائدات النفط العراقي هي فضيحة العصر بكل المقاييس . ما هو مستقبل هذه المادة الاستراتيجية في العلاقات الدولية المعاصرة ؟ هل تبقى ملكاً للدول المنتجة ، وهل في وسع هذه الدول حماية ملكيتها النفطية والإفادة من مردودها في عملية التنمية ؟ ام هل يجري تحويل النفط مرفقا دوليا بإدارة الدول المنتجة في ظل نظامٍ ترعاه الأممُ المتحدة لضبط شؤونَ الإنتاج والتسعير والنقل والتوزيع ؟ ثم ما هو موقف المقاومة والقوى الناشطة ضد أميركا اذا تعذر على الحكومات القائمة حسن إستثمار عائدات النفط لمصلحة بلادها ؟ هل تعطّل هذا المرفق العام لإضعاف الحكومات القائمة ، كما يحدث في العراق حاليا ؟ أخيرا وليس آخرا ، ما هو الموقف الذي يتعّين على منتجي النفط العربي ، كما على المقاومة ، ان تتخذه حيال امتناع أميركا عن توقيع معـاهدة كيوتو لحماية البيئة رغم أنها تستهلك ، (وبالتالي تلوث البيئة بالمقدار نفسه ) ما نسبته 22 في المئة من كمية النفط المنتجة عالميا ؟
قضية ساخنة اخرى هي الهجرة ، لا سيما هجرة العرب والمسلمين الى دول أوروبا وأميركا ، ناهيك بهجرة الآسيويين ، مسلمين وغير مسلمين ، الى أقطار الجزيرة العربية . غالبية المهاجرين مطلوبة كيّد عاملة ضرورية لاقتصادات الدول المضيفة . غير أن الاقلية لا عمل لها وهي عبء إقتصادي واجتماعي . ما هو مستقبل هؤلاء المهاجرين ؟ ما هي الإنعكاسات الاجتماعية والثقافية التي سيتركونها على المجتمعات المضيفة ؟ هل يجب دمج هؤلاء المهاجرين وإستيعابهم ام يقتضي التخفيف من عديدهم وترحيلهم ؟ ما الدور الذي يجب أن تضطلع به الجاليات العربية والإسلامية في دول أوروبا وأميركا ؟ هل هو دور سياسي او ثقافي ؟ وما محاذير ممارستها العنف ضد الحكومات الضالعة في حروب غير مشروعة ضد العرب والمسلمين ؟
إنها قضية مفتاحية ساخنة بالغة الدلالة والخطورة تترك انعكاسات مؤثرة في جميع أنحاء العالم المعاصر . ما إسهام السياسيين والمثقفين والمقاومين العرب في الإجابة عن الأسئلة المطروحة في جميع الميادين ؟
ثمة ثلاث ملاحظات في هذا المجال :
الأولى ، ان الشعوب العربية والإسلامية ، وليس حكامها ، هي المبادرة الى التصدي ، عبر أفرادها وتنظيماتها وقواها الحية ، للصراعات والحروب التي تنجم عن القضايا الخمس الساخنة . اجل ، وبصرف النظر عن نهج التصدي ومردوده ، فإن الشعوب وحدها تستجيب للتحديات بمواجهات مرتجلة او محسوبة .
الثانية ، ان النظام الدولي قد ترهل كثيرا تحت وطأة انفراد أميركا بقيادة العالم ونزوعها الى تجاوز أحكام القانون الدولي واتفاقات جنيف وميثاق الأمم المتحدة ، وإمعانها في ازدراء سائر الدول لا سيما المتوسطة والضعيفة منها .
الثالثة ، ان تشكيل نظام دولي جديد يتم من خلال معالجة او مواجهة القضايا الخمس المفتاحية والساخـــنة ، وان ثمة دورا للشعوب المتمــردة ، يفوق دور الدول " المارقة " أهميةً ، في تشكيل عالم القرن الحادي والعشرين . ولعل معيار الجدّة والجدّية في تشكيل النظام العالمي الجديد بناء جهاز دولي للرقابة والمحاسبة والتقاضي تتوّجه محكمة عدل دولية واسعة الصلاحيات ، على ان يكون للجمعية العامة للأمم المتحدة ، كما لنائبٍ عام موازٍ بمركزه للامين العام للمنظمة الدولية ، حقُ الادعاء وتحريك الدعوى العامة الدولية أمام المحكمة لتقوم بفصلها بقرار ملزم لجميع الأطراف ذات الصلة ..