العراق بلد متعدد . انه متعدد القوميات والاديان والمذاهب والثقافات والمناخات والثروات والتطلعات .
لكن العراق بلد متوحد او متحد في حالة سياسية فريدة اسمها وحدة الداخل ضد هجمة الخارج وبالتالي في حرب الداخل ضد الخارج .
في مجال التعدد والتنوع ، ثمة قوميات عدّة : عربية وكردية وتركمانية وحتى فارسية .
ثمة أديان عدة : الإسلام ، المسيحية ، الصابئة ، اليزيدية ، وقبلها كانت اليهودية.
ثمة مذاهب عدة : سنّة وشيعة ، أرثوذكس وكاثوليك، سلفيون ومتجددون ، اصوليون وعلمانيون .
ثمة ثقافات عدة عربية تراثية واخرى حداثوية ، كردية ماضوية واخرى عصرية . قومية عربية ديمقراطية واخرى عنصرية شوفينية ، ماركسية متعددة المدارس وليبرالية متعددة المشارب ايضا. ثمة مناخات متعددة : صحراوية حارة في الوسط والجنوب . باردة في أعالي جبال كردستان العراق . معتدلة لطيفة في الموصل وجوارها .
ثمة ثروات متعددة : نفط في كل مكان ، وكبريت في بعض الأمكنة ، وزراعة غنية ومتنوعة على ضفتي دجلة والفرات من الشمال الى الجنوب.
ثمة تطلعات متعددة نابعة من تنوع الحقائق والظواهر المار ذكرها على جميع المستويات وبإزاء مختلف التحديات.
من مجمل هذا التعدد والتنوع نشأت وتنشأ شخصية عراقية فريدة في طبيعتها وسلوكها ، تجمع بين العنف واللطف في آن . فالعراقيون أهل عنف وعنفوان وأهل لطف وحنان .
غير ان حال التعدد والتنوع تكاد تذوب ، في ظل الاحتلال الأميركي ، في حال نفسية فريدة ومغايرة عنوانها وحدة الداخل في مواجهة الخارج . فالداخل العراقي ، في الوقت الحاضر ، واحد موحّد في وجه الخارج المتعدد الأصول والقوى والمقاصد والمسالك .
العراقيون جميعا ، في هذه الآونة ، منخرطون في حال نفسية وسياسية واحدة عنوانها مقاومة الخارج بما هو اميركا ومن يذهب مذهبها او يشد ازرها او يتعاون معها بأي شكل من الأشكال . انها ، بحق ، حرب الداخل على الخارج بإيجاز وامتياز.
لعل هذا ما يفسر ، من دون ان يبرر ، ضراوة الحرب الدائرة والمتصاعدة في بلاد الرافدين . فكل الأحياء والأشياء مصنفة في هذه الثنائية العجيبة : الداخل العراقي ضد الخارج الاجنبي . حتى عندمـا يكون بعض من الداخل عراقيا في أصله وفصله ، فانه يغدو جزءا من الخارج المعادي بمجرد وقوفه الإختياري او الإضطراري الى جانبه .
في حمأة ثنائية الحال الصراعية بين الداخل والخارج إنهارت العصبية القبلية والعشائرية او كادت ، وتلاشت الخصوصية السنّية والشيعية او هي في طريقها الى التلاشي . وحدها الحال الكرديـة في وجه الحال العربية ما زالت نابضة وفاعلة . انها الشذوذ الذي يؤكد القاعدة . مثلها ظاهرة ضرب الكنائس المسيحية في بغداد والموصل . انه إستثناء مشبوه وفظ لقاعدة راسخة بدليل ان المتضررين ، ناهيك بآية الله السيد علي السيستاني وهيئة علماء المسلمين وتيار السيد مقتدى الصدر ، سارعوا الى التنديد بالأميركيين وإعتبارهم مسؤولين عن الفعلة الشائنة .
من نتاج حرب الداخل على الخارج بروز ظاهرة جديدة في كفاح شعوب البلدان المحتلة ضد جيوش الاحتلال . ذلك ان الداخل العراقي في وحدته الكفاحية ضد جيوش الاحتلال تمكّن من تحرير مدينة الفلوجة من الأميركيين المحتلين والنجاح في إدارتها ذاتيا بمعزل عن إدارة الاحتلال ( جون بريمر ) وبعدها باستقلال عن إدارة الحكومة العراقية المؤقتة التي أعقبتها . ثم ما لبث هذا النمط من التحرير الذاتي بواسطة سكان المـدن أنفسهم ، بل هذه العدوى ، ان انتقلت الى مدن أخرى في الوسط والجنوب . فسامراء وبعقوبة والرمادي والقائم ومعظم مدينة بغداد باستثناء المنطقة الخضراء حيث أهل السلطة والسفارة الأميركية ، والحلة والنجف والناصرية والعمارة والكوت ومعظم البصرة قد تحررت من الاحتلال ذاتيا بواسطة سكانها على نحوٍ لافت. ولن يطول الوقت – وفق معلومات طازجة وردت اخيرا – قبل ان يتمكن أهالي الموصل وأهالي تكريت من تحريرهما وإدارتهما ذاتيا وبالتالي إنجاز نوع من التواصل الجغرافي والديموغرافي بين مناطق الشمال ومناطق الوسط.
إنعكس هذا الوضع الأمني التحرري على الواقع السياسي فأستولد بدوره ظواهر ثلاثاً:
• بروز معارضة لافتة ومتوسعة بإزاء حكومة إياد علاوي – لقبه الحالي رئيس بلدية بغداد ! - ورفض أعداد متزايدة من القوى السياسة التعاون معها والعزوف عن المشاركة في المؤتمر الوطني التي سعت الى عقده في إطار توليد الأجهزة والهيئات اللازمة لإجراء الانتخابات قبل نهاية شهر كانون الثاني / يناير 2005 ، الأمر الذي أدى الى تأجيل انعقاد المؤتمر المذكور.
• تصعيد الهجمات على مقار الحرس الوطني ومخافر الشرطة ومراكز التجنيد الأمر الذي ادى الى تفشيل مخطط الإعتماد على قوات محلية عراقية للحلول محل القوات الأميركية والقوات المتحالفة معها وبالتالي الى تفشيل بسط الأمن الاحتلالي في معظم المدن وعلى طرق المواصلات الرئيسية .
• إضطرار إدارة جورج بوش الى التخلي عن سياستها المعارضة لإشراك قوات غير أميركية وغير حليفة في حماية امن الاحتلال ، خصوصا مع إقتراب موعد انتخابات الرئاسة الاميركية ، فكان ان أوعزت الى حلفائها العرب والمسلمين بتأييد الاقتراح الداعي الى مشاركة قوات من دول إسلامية غير مجاورة للعراق في حماية مقار الأمم المتحدة وأجهزتها في بلاد الرافدين . غير ان ردود الفعل السلبية التي قوبل به هذا الاقتراح – الفخ عموما ومن بعض الدول الإسلامية المدعوة الى المشاركة خصوصا ، ناهيك بردود الفعل الشعبية الرافضة ، قتلته في المهد او كادت .
يستبين للمراقب المتتبع للمشهد العراقي ، دونما عناء ، تهافت السياسة الأميركية في العراق وإنعكاسها سلبا على صورتها وهيبتها إقليميا ودوليا ، فضلا عن الحرج الشديد الذي يتسبب به فشلها لإدارة بوش عشية إنعقاد مؤتمر الحزب الجمهوري أواخر الشهر الجاري . تجلّى هذا الإخفاق المدّوي لسياسة إدارة بوش في المقال الذي نشره مؤخرا سكوت ريتر ، المفتش السابق لدى جهاز المراقبة والتفتيش عن أسلحة الدمار الشامل في الأمم المتحدة ، وتنبأ فيه بخسارة قوات الاحتلال الأميركية حربها الضارية مع قوى المقاومة العراقية .
في السياق نفسه توقع بل أكد مؤخراً الكاتب الصحافي البريطاني الذائع الصيت روبرت فيسك لزواره وجمهور المعجبين به في بيروت ، بعد جولة ميدانية واسعة في مختلف مناطق العراق ، ان الولايات المتحدة مضطرة ، عاجلاً او آجلاً ، وسواء أعيد انتخاب بوش لولاية ثانية او فاز عليه جون كيري في الانتخابات القادمة ، الى الانسحاب من العراق .
اذْ تهيّئ اميركا نفسها لتقبّل هزيمة سياسية في العراق – وربما في افغانستان ايضا – نتيجة عجزها الميداني عن فرض وجودها وحمايته في بلدان عالم إسلامي إستفزته ، دونما مسوّغ ، إتهامات غير ثابته حول مسؤولية الإسلام والمسلمين عن هجمات 11 ايلول / سبتمبر ، وما أعقبها من تدابير قمعية ما زال يعاني منها المواطنون الأميركيون المسلمون حتى هذه الساعة ، وما رافقها من شن حروب " وقائية " في افغانستان والعراق ومن دعم للهجمة الشارونية الصهونية الشاملة في فلسطين...تجد القوى الوطنية المناهضة للهيمنة الإمبراطورية الأميركية نفسها على مفترق طرق . فهي مطالبة بتسريع جهودها لبناء تحالف وطني عريض للحلول محل الوجود الأميركي المهزوم والمنحسر تدريجا وإلا تسيّب الأمن وسادت الفوضى وتبخرت فرصة نادرة لإلحاق هزيمة نكراء بالمشروع الإمبراطوري الأميركي .
أجل ، البديل من الاحتلال يجب الاّ يكون الفوضى او الاضطرابات الأهلية . من هنا تنبع أهمية تسريع الحوار السياسي لعقد مؤتمر وطني تأسيسي عام في العراق ، تنبثق منه جبهة وطنية قائدة لنضال الداخل ، كل قوى الداخل ، ضد الخارج ، كل قوى الخارج ، المعادية لحرية الشعوب وحقها المشروع في كرامة العيش والديمقراطية والعدالة والتنمية المستدامة .