الكاتب البريطاني جون لويد رصد التباعد بين الثقافتين الأمريكية والأوروبية قبل هذه الأزمة بحوالي عامين وذهب إلى أن مشاعر الاحترام التي كان يكنها الأميركيون في السابق للثقافة والأخلاق والحكمة الأوروبية ولم تنته وحسب وإنما تحولت إلى امتعاض عدواني . إذ تملكت الولايات المتحدة الأميركية ، على الأقل على مستوى الصفوة ، فكرة أن الأوروبيين ضعفاء ويائسون وناكرو الجميل وجهلاء ووضعاء ومذنبون ، ولا بأس أن نضيف إلى الصورة التي يرسمها جون لويد حقيقة أن اليمين الديني الأمريكي ينظر بعدوانية شديدة للعلمانية الأوروبية ومن ثم يطلق عيها وصفا قاسيا هو " أوروبا الكافرة " ويطالب بإعادة تبشيرها بالمسيحية مرة أخرى !!
وبطبيعة الحال يشكل الانحياز الأمريكي الأكثر سفورا للكيان الصهيوني ثمرة من أهم ثمار التأثير المتزايد للمكون الديني في السياسة الأمريكية ربما على نحو لا يحتاج إلى استفاضة ويكفي أن نذكر قول وليام كريستول ، أحد مساعدي جورج بوش الأب للسياسة الخارجية في السابق : " نحن متعاطفون مع إسرائيل بشكل عام لأنهم يبدون شديدي الشبه بنا فهم يتمسكون بالدين بشكل جدي ، وهم مستعدون لمحاربة عدوهم فهم وطنيون وفخورون بدولتهم " . وبتأثير الشعور الطاغي بالاختلاف في هذه المسألة بين الأوروبيين والأمريكيين أصبح هناك مصطلحات من نوع " التدين على الطريقة الأمريكية " تصك في الإعلام الأوروبي أحيانا بغرض الوصف والتمييز وغالبا بغرض التهكم !! .
الإعلامي البريطاني جستين ويب مراسل بي بي سي في واشنطن صاغ انطباعاته عن هذا التمايز في تقرير لا يخلو من الطرافة ، ومما قاله : " أنا وزوجتي لا نعتقد في وجود الله ، وخلال إقامتنا السابقة في بروكسل وسط البلجيكيين المفترض أنهم من أتباع الكنيسة الكاثوليكية ، لم يكن عدم الاعتقاد الديني يمثل لنا مشكلة . لكن في واشنطن ، تترنم إدارة بوش بالصلوات دائما وتجمعات أداء الصلاة تعقد ليل نهار . وقبل ذلك عندما كنا في لندن لم يكن الاعتقاد أيضا مشكلة على أية حال . وبخلاف صديق لي ينتمي إلى الكنيسة الإنجليكانية ، لا أتذكر أنني خضت نقاشا يتعلق بمسائل دينية مع أي شخص خلال سنوات عملي في العاصمة البريطانية " .
" لقد كان منزلنا في لندن مجاورا للكنيسة تماما ، لكننا كنا نتحدث مع العدد القليل من المصلين عن الطقس وعن كيفية تهذيب أشجار الحديقة ، ولم نتحدث عن الله إطلاقا . فكيف يختلف الموقف على الجانب الآخر من الأطلنطي ؟ لقد جاء المستوطنون الأوائل إلى هنا ليمارسون شعائرهم بالطريقة التي يودون . ومنذ ذلك الحين أصبح الترويج للمعتقدات الدينية ، بوضوح وبصوت عال ، جزءا من لحم الحياة الأمريكية وشحمها . وأنا لا أتحدث هنا عن ما يسمى عادة بالحزام الإنجيلي أو عن هؤلاء الخارقين للعادة الذين يعيشون في أكواخ خشبية في إيدهو وأوريجون ويزعمون أن الحكومة تسمم المياه التي يشربونها . "
ويضيف جستين ويب : " إدارة بوش تنصت لصوت الصلاة والاجتماعات بهدف الصلاة تعقد في أوقات متفرقة ليلا ونهارا ولذا فليس من المستغرب أن ترى العاملين في البيت الأبيض وهم يهرعون وبأيديهم الأناجيل . وقد قال لي صديق يعمل بالقسم الصحفي في داوننج ستريت ( مقر رئيس الوزراء البريطاني ) إن مـشهدا كهذا يندر وجوده في لندن حتى في ظل الظروف غير العادية . ولا شك في أن الرئيس الأمريكي وشعبه كانوا يصلون بحرارة لكي تدهس حافلة صدام حسين . لكن إذا تعذر وجود حافلة فإنهم سيعتقدون أن لديهم الحق في فعل ما قرروه !! . ولأن الأمريكيين قرروا خوض معركة الخير وليس لديهم شك في أن رئيسهم قد اتخذ القرار ، فإن الشكوك والمخاوف العقلانية التي تتردد عالميا ويمكن للمرء أن يشعر بها قوية لدى الأوروبيين الذين تجاوزوا التدين ، يمكن أن تنحى جانبا . وأحيانا يبدو الرئيس بوش متعبا تماما كما يبدو رئيس الوزراء البريطاني ، لكنه لا يبدو وجلا رغم ذلك . وكلا الرجلين متدينان ، غير أن التدين على الطريقة الأمريكية بما يحتويه من ثنائيات الخير والشر ، الصواب والخطأ ، الجنة والنعيم ، يبدو مناسبا أكثر لأجواء الحرب " !! .
والأمر لا يقتصر على أركان الإدارة الأمريكية بل يتعداه للمواطن الأمريكي العادي وهو ما يشير دهشة ويب ، فطبقا لاستطلاعات الرأي فإن 86 % من الأمريكيين يعتقدون في الآخرة والله . لكن الأكثر غرابة بالنسبة لي - والكلام ما زال لجستين ويب - والذي لا يمكن فصله عن ذلك ، فهو ما تكشفه الاستطلاعات أيضا وفي ظل الظروف الدولية الراهنة ، من أن 76 % من الأمريكيين أي ثلاثة من كل أربعة ، يعتقدون في وجود الشيطان والجحيم . ويعتقد هؤلاء أن الشيطان يتآمر على الإنسان ، وأن الشر قوة في العالم ويجب الدخول في حرب ضدها !! ، وبطبيعة الحال تعكس دهشة ويب وسخريته جانبا كبيرا من التمايز .
ورغم أن هذا العنوان قد يصدم مشاعر بعض القراء لكنه من وضع جستين ويب نفسه إلا أنني أجد في الحكمة العربية " ناقل الكفر ليس بكافر " رخصة تجيز نقله . وهو يورد حقائق لا نبالغ إذا وصفناها بأنها عجيبة عن مجتمع تصوره هوليود ماديا ولى ظهره للدين تماما ، فهو قول إن الجزء الأكبر من محاربة الشر في المجتمع الأمريكي يتمثل في الصلاة ، إذ يتحدث الأمريكيون عن الصلاة باعتبارها أكثر الأمور بساطة وعادية في حياتهم . فالسيدة التي توزع البريد على منطقتنا في إحدى ضواحي واشنطن لديها ابن مريض ، ورغم أن الأطباء يقومون بكل ما في وسعهم فإنها تصلي دائما وتعتقد أن هذا ما سيشفي ابنها . وعندما عُثر على طفلة ظلت مفقودة لمدة تسعة أشهر ، وقد وجدت في حالة جيدة واظبت أجهزة الإعلام على وصف ما حدث بانتظام بأنه معجزة . وقد أظهرت إحدى المحطات التليفزيونية تعليقا على ما حدث على شاشتها يقول " قوة الصلاة " . وفي الحقيقة فإن الطفلة كانت قد خطفت وقد تعرفت الشرطة على خاطفتها وتمكنت من إعادتها .
لو أن ما حدث مع تلك الطفلة كان في بريطانيا العقلانية القديمة ، لتركز النقاش حول كيفية منع تكرار ذلك ولفتحت تحقيقات حول أخطاء الشرطة . هنا بالفعل يخرون ساجدين ، لكنهم لا يقضون كثيرا من الوقت على هذا الحال . نتحدث هنا عن الحقيقة والمجاز فنذكر الرئيس جورج بوش الابن الذي كان في الأربعينيات من عمره فتوقف عن شرب الويسكي وقال وداعا للجاك دانيالز ( ماركة ويسكي أمريكية شهيرة ) وأهلا بالمسيح ، ومن يومها لم ينظر للوراء . ورغم وجود متعقلين كثيرين مهمتهم تقديم النصائح المتعقلة لإدارة بوش بشأن القضايا السياسية ، فإن هناك قناة لها صوت يأتي دائما من أعلى . وكما هو واضح يتعامل جستين ويب بتأثير ثقافته الأوروبية مع الدين باعتباره ظاهرة " لا عقلانية " .
وقبل التعرض بالوصف أو التحليل بما يمكن أن نسميه " الدين على الطريقة الأوروبية " نتوقف أمام قصة لا تخلو من طرافة قد تكن مفتاحا للفهم . ففي يونيو 2003 تقرر إيقاف قس دانماركي عن العمل لسبب جعل قصة إيقافه موضوعا إعلاميا مثيرا . القصة ببساطة أنه اعترف في حديث صحفي بأنه لا يؤمن بالله ، حيث قال : " لا يوجد إله ، ولا حياة أبدية ، ولا بعث " !! .
الأكثر طرافة أن القس غير المؤمن بوجود الله وجد بين علاء اللاهوت من يؤيده ، فمثلا مدير كلية دراسات اللاهوت الدنمركية وصف مزاعم القس بأنها " منعشة " !!
في مقابل الصورة التي رسمها البريطاني جستين ويب للتدين على الطريقة الأمريكية يرسم دومينيك فيدال في " لوموند " الفرنسية صورة مختلفة للأمر في فرنسا ( عدد سبتمبر 2001 ) ، وبدءا من العنوان " نصف الفرنسيين لا ينتمون إلى أي كنيسة " تبدو ملامح الاختلاف ، ففي العام 1966 أعلن 89 في المئة من الفرنسيين انتماءهم إلى أحد الأديان فيما أكد 10 في المئة انهم لا يعتنقون أي دين . بعد 32 عاماً صارت النسب المئوية على التوالي 55 و 45 في المئة . ويشكل الذين لا دين لهم أكثرية واضحة لدى من هم دون الخمسين من العمر لتبلغ نسبتهم 63 في المئة داخل الفئة العمرية 81 ـ 42 سنة . ويمكن اختصار المشهد الفرنسي بالنظر إلى التطور الطارئ منذ 1998 ، فللمرة الأولى نجد عدداً متساوياً ـ إن لم يكن أكثرية ـ من الفرنسيين خارج الديانات وداخلها . بينما يعلن 5 في المئة فقط من الأميركيين انهم خارج الأديان .
وأملا في رسم صورة أكثر تفصيلا يورد فيدال إحصاءات أخرى مهمة ، فمن لا دين لهم في فرنسا لهم معتقدات غيبية ، فحسب دراسة العام 1999 بينهم الفئات التالية :
23 في المئة يؤمنون بالله
26 في المئة يؤمنون بالحياة بعد الموت
12 في المئة يؤمنون بالجنة
7 في المئة يؤمنون بجهنم
وتبدو لهم الاحتفالات الدينية على جانب من الأهمية عند الولادة ( 33 في المئة ) والزواج ( 39 في المئة ) والوفاة ( 46 في المئة ) . أما المعتقدات الموازية ( الفأل الحسن وقارئات الحظ والقادرون على شفاء الأمراض أو علم الأبراج ) فرغم أن 49 في المئة يرفضونها ، بحسب دراسة 1998، فان 33 في المئة مترددون و 18 في المئة يؤمنون بها .
وكما أن للاختلاف جذورا تعود في التجربة الأمريكية إلى مرحلة نشأتها فإن للصيغة الفرنسية جذورا تعود إلى القرن الثامن عشر . ورغم أنها ليست البلد الغربي الوحيد الذي يصر على الفصل بين الكنيسة والدولة إلا أنها تدافع عن هذا الفصل بضراوة تفوق غيرها . فالعلمانية في فرنسا أقرب إلى مفهوم بديل لدى الفرنسيين عن ما يمكن أن نسميه " دين الدولة " وهي المبادئ الرئيسة للفكر التقدمي للبلاد منذ القرن الثامن عشر . وحتى الآن فإن أي شيء يشتم منه رائحة اعتراف رسمي بدين ما - مثل السماح بالحجاب في المدارس - يعد أمرا لا يقبله الكثير من الفرنسيين البتة . وحتى من يعارضون فرض حظر على الحجاب يعارضون ذلك تحت اسم صورة أكثر حداثة ومرونة من العلمانية . ويمكن النظر إلى الإرث العلماني في فرنسا على أنه أثر جانبي للكاثوليكية الفرنسية ، حيث طالما نظر التقدميون الفرنسيون إلى المنبر الديني على أنه عدو ، وليس منبرا بين منابر التعبير ، خلافا للوضع في بعض البلدان البروتستانتية . ومفكرو التنوير الفرنسيين مثل فولتير وديديرو ومونتيسكيو نظروا إلى الدين على أنه عامل تفريق وإظلام وتعصب .
وقد جاءت الثورة الفرنسية لتجلب صداما مباشرا بين الكنيسة والدولة ، فقد صادرت الثورة أوقاف الكنيسة وجعلت رجال الدين يقسمون بالولاء للجمهورية الفرنسية وخلال الثورة وخلال فترة الإمبراطورية الفرنسية التي تلتها قاوم الفاتيكان النمط الجمهوري الذي كانت باريس تسعى لفرضه في أنحاء أوروبا . وكان أن زحف الجيش الفرنسي على روما مرتين ، مرة في 1798 ومرة في 1809 ، حيث اعتقل من رفض الانصياع من البابوات . وتوصل نابليون بونابرت إلى درجة من التوافق مع الكنيسة التي أصبحت خاضعة لسلطة الدولة - وإن تُركت وشأنها طالما اقتصرت على الأمور الروحية . واستمر هذا الاتفاق الذي عرف باسم " الكونكوردا " ، لقرن من الزمان ، وفي عام 1905 ومع تجدد حركة التحفز ضد رجال الدين ، أعلنت الجمهورية الثالثة مرسوما يقضى بالفصل التام بين الكنيسة والدولة .
ويعني قانون الفصل الحياد الصارم للدولة فيما يتعلق بالشؤون الدينية ، فالدولة الفرنسية لا تسمح بالدعوة لأي دين في الأبنية العامة ، وبالتأكيد في مدارسها حيث يجري تدريس مواطني الغد . وتضرب فكرة الإصرار على خلو المدارس من أي صبغة دينية بجذورها في لب مفهوم المواطنة الفرنسية . وطالما اعترفت الجمهورية بالأفراد ، وليس بجماعات ؛ حيث يدين المواطن الفرنسي بولائه للأمة ، وليس لديه هوية عرقية أو دينية رسمية أمام الدولة .
وأيا كانت النتيجة التي تنتهي إليها معركة الحجاب في فرنسا فإن دروسها الثقافية والمعرفية شديدة الأهمية لكونها لحظة من اللحظات التي تسفر فيها مكنونات الوجدان الفرنسي في الظهور بشكل جلي ، أما المقارنة بالولايات المتحدة فتلقي الضوء على مساحة للاختلاف ينبغي إدراكها لأخذها في الاعتبار عند التعامل مع الطرفين ، فالتمايزات الدينية والمذهبية يزداد تأثيرها في العلاقات الدولية بوتيرة ملحوظة وهذه إحدى دروسها المهمة .