ثمة توافق بين مراقبي المشهد العراقي ومتتبعي تطوراته المتسارعة على ان الولايات المتحدة تعاني فيه هزيمةً سياسية وتبذل جهودا واسعة لتدارك هزيمة عسكرية .
الهزيمة السياسية تحققت بإفتضاح كذبة حيازة العراق أسلحة دمار شامل ، وبثبوت عدم وجود علاقة بين نظام صدام ومنظمة " القاعدة " ، وبإتضاح الغاية الأساسية من شن الحرب وهي محاولة وضع اليد على إحتياط العراق الضخم – ربما الأول عالمياً – من النفط . الهزيمة العسكرية تبدو بعيدة ، لكنها بمعايير سياسية تبدو وشيكة . ذلك ان معظم المدن والبلدات الكبرى باتت خارج سيطرة القوات الاميركية . فقد كشف الصحافي البريطاني الذائع الصيت روبرت فيسك في بيروت ، عقب جولة ميدانية في معظم مناطق العراق دامت أسابيع عدة ، ان مدن الفلوجة وبعقوبة وسامراء والمحمودية والقائم والرمادي والحلّة والنجف والناصرية والعمارة والكوت قد خرجت تماما من قبضة قوات الشرطة وأصبحت تحت سيطرة قوى وطنية محلية معادية للولايات المتحدة.
الأمر نفسه ينطبق على الشطر الأعظم من البصرة ، بل على الشطر الأعظم من بغداد العاصمة أيضاً إذ تنحصر سيطرة القوات الاميركية بالمنطقة الخضراء حيث مقر الحكومة المؤقتة ومقر السفارة الأميركية المحروسة بقوة كثيفة من أسلحة البر والجو ومشاة البحرية .
الى ذلك ، اندلعت معركة إخراج الموصل من سيطرة القوات الاميركية ، ولن يطول الوقت قبل ان يصبح وضعها مشابها لبغداد والبصرة . واذا ما تمّ الأمر ، فإن ثمة تواصلا جغرافيا وديموغرافيا سيمتد من أقصى شمال العراق الى أقصى جنوبه . كل ذلك يزيد من ورطة الولايات المتحدة إذْ يجعل إجراء الانتخابات العراقية في كانون الثاني / يناير المقبل أمرا شبه مستحيل .
ادارة بوش تنبهت الى خطورة التطورات المتسارعة عشية انتخابات الرئاسة الاميركية فباشرت خطوات عدة لوقف التدهور من اجل إمرار الاستحقاق الرئاسي بأقل الخسائر. لعل ما يساعدها في هذا المجال ، توافق الحزبين المتنافسين ، الديمقراطي والجمهوري ، على أهداف السياسة الخارجية رغم تباينهما على صعيد المناهج والآليات لتحقيقها .
جورج دبليو بوش وفريقـه يسعى الى إيجاد مخرج من الورطة . مسعاه تجلّى على صعيدين : تخطيطي وتنفيذي . فقد إتضح من تقويم بعث به مؤخراً سفير عربي مطّلع في واشنطن الى رئيس دولته ان فريق بوش أجرى على صعيد التخطيط تعديلات محسوسة في إستراتيجية التعامل مع الإسلام والمسلمين والقوى الإسلامية في المنطقة عموما ، إنطوت على الأسس الآتية :
• تفادي الصدام مع الإسلام كديانة وحتى كثقافة وتركيز الجهد على محاربة الإرهاب والإرهابيين من كل ديانة وثقافة .
• إعتبار أهل السنّة والجماعة – وهم غالبية العرب والمسلمين – الوسط الذي يتواجد فيه اكثر ما يكون الإرهابيون من الأصوليين والسلفيين ، الامر الذي يستوجب بالمقابل التعامل مع الأقليات الإسلامية كقوى معتدلة واحيانا معادية للتطرف الأصولي.
• تخفيف الضغط عن الأقليات الإسلامية الحاكمة التي تقف غالبيتها موقف الرفض من الإرهاب والتعاون معها تاليا للحدّ من فعالية الأصوليين المتطرفين ، امنيا وسياسياً .
• تفادي الصدام عسكريا ، في هذه الآونة ، مع ايران بنقل ملفها النووي الى مجلس الأمن . وإذا كان لا بد من الصدام ، فليكن بواسطة إسرائيل !
• التعاون مع الدول الإسلامية ، لا سيما المجاورة منها للعراق ، لوقف تهريب المقاتلين والعتاد ، ومن ثم إعطاء بعض هذه الدول دورا في توطيد الأمن كمقدمة للمشاركة في صوغ تسوية سياسية للصراع الدائر بالاشتراك مع دول حلف شمال الأطلسي ..
على صعيد التنفيذ قام كولن باول ، وزير الخارجية الاميركي بخطوات عدة لترجمة التخطيط الآنف الذكر الى حقائق على الارض . فقد إجتمع سرا – حسب معلومات السفير العربي – الى وزير الخارجية السوري فاروق الشرع وطالبه بأمرين : تشديد الرقابة على الحدود لمنع تهريب مقاتلين وإمدادات الى القوى المناهضة لأميركا في العراق ، والدعوة الى إرسال قوات إسلامية لحماية أجهزة الامم المتحدة في العراق كخطوة أولى لإدارة الشؤون الأمنية على نحوٍ يساعد آجلا القوات الأميركية على الإنسحاب التدريجي في إطار تسوية أمنية – سياسية مثلثة : أميركية – أطلسية – إسلامية .
الشرع ، حسب معلومات السفير المذكور ، وافق على الطلب الأول ورفض الثاني . قال لباول ان سوريا حريصة على امن الشعب العراقي فلا مانع لديها في توفير أسبابه والإسهام في منع تدهوره مع العلم ان لا تسلل لمقاتلين الى العراق عبر الحدود السورية الشرقية . اما نشر قوات إسلامية في العراق فأمر لا يمكن القبول به طالما الاحتلال الأميركي قائما.
رفْض سوريا حَمَل باول على مقاربة الأمير سعود الفيصل ، وزير الخارجية السعودي ، لتتبنى بلاده الدعوة الى نشر قوات إسلامية في العراق .. الفيصل وافق وأطلق تصريحا في هذا الصدد ، لكن سرعان ما جوبه برفضٍ من الدول المعنية ، فطوى صفحته .
تردد ايضا ، حسب السفير العربي ، ان باول لمّح لنظيره السوري بان أميركا لن تُقرن قانون محاسبة سوريا بإجراءات اخرى أكثر تشددا حيال الوجود السوري في لبنان الأمر الذي يعني الكف عن الضغط على سوريا لسحب قواتها المنشورة هناك حسب إتفاق الوفاق الوطني في الطائف ، والكف عن مطالبتها بتجريد " حزب الله " من أسلحته كما تطلب اسرائيل ، من دون إسقاط هذه الطلبات إعلامياً لدواعٍ تكتيكية .
غير ان دمشق تبقى ، رغم ذلك ، شديدة الإرتياب بأميركا وإسرائيل . هي تدرك ان ورطة ادارة بوش في العراق تدفعها الى محاولة تحسين علاقاتها معها ومع ايران وتخفيف ضغوطها على دول إسلامية اخرى. لكنها ترتاب بان يكون وراء هذا التودد المشبوه مشروع يرمي الى غرضين : الأول ، جرّ بعض دول حلف شمال الأطلسي الى الساحة العراقية بغية تدويم الاحتلال بصيغة أطلسية – إسلامية . والثاني ، ترتيب الأوضاع الإقليمية على نحوٍ يمكّن أميركا – واستطراداً إسرائيل – من توجيه ضربة قاصمة لقدرات ايران النووية ، فيصبح الشرق الأوسط الكبير برمته في قبضة هيمنة أميركية صهيونية لعقود عدة قادمة .
إحجام سوريا عن التورط مع اميركا إقليميا يدل ، من زاوية اخرى ، على ثقتها بان ما زال لديها هامشا من حرية الحركة يمكّنها من الصمود في وجه الضغوط الأميركية والإسرائيلية . فإلى جانب قوتها الذاتية ، ثمة قوة المقاومة اللبنانية القادرة بصواريخها المتوسطة والبعيدة المدى من إلحاق الاذى بإسرائيل اذا ما ركبت هذه الأخيرة رأسها وقررت خوض الحرب لإغراض توسعية . كما ان قدرات ايران الصاروخية بعيدة المدى من شأنها حمل اسرائيل على التفكير مرتين قبل اللجؤ الى الخيار العسكري لتدمير قدراتها النووية . فوق ذلك ، فإن نجاح القوى المعادية لأميركا في العراق وسيطرتها على مدن وبلدات عدة ومباشرتها خطة إنهاك للقوات الأميركية يعطي سوريا مزيدا من الاطمئنان الى وجود فرصٍ وقدراتٍ لتوسيع المقاومة الوطنية رقعة إشتباكها مع الولايات المتحدة على امتداد الشرق الأوسط الإسلامي الكبير ، وان حظّ واشنطن سواء في ظل ادارة جمهورية او ديمقراطية للخروج من ورطتها غير المسبوقة ضئيل أو محدود جداً .