بعد جولةٍ محمومة من الصراع بين لاعبين متعددين ، محليين وإقليميين ودولييــن ، تمّ في الاسبوع الماضي ، بمعزل عن اللاعبين الدوليين ، " توافقٌ " جزئيٌ وغامض على مخرج لجانب من أزمة لبنان المزمنة والمستفحلة : التمديد للعماد إميل لحود ثلاث سنوات إضافية في رئاسة الجمهورية ، والتجديد للسيد رفيق الحريري أياما أو أسابيع أو شهورا أو سنين – لا أحد يـدري كمّ ! - في رئاسة الحكومة . التوافق المتقلقل الذي " دُبّر في ليل " ، كما وصفه معارضون من أهل الدنيا والدين ، يتطلب إمراره قانونا بتعديل الدستور في نهارٍ قد يطول ليتصل بليل آخر من ليالي الصراع على السلطة والنفوذ في جمهورية الطائف الطوائفية. وفي حمأة الصراع قد ينجح الرجل الثاني في الثلاثي غير المرح ، السيد نبيه بري ، في ان يقتطع لنفسه شطرا من كعكة التوافق ذاك فيفوز هو الآخر بنعمة التجديد في رئاسة المجلس النيابي العتيد.
غير ان حساب الحقل ، كما يقولون ، قد لا يتطابق مع حساب البيدر ، فتقع في مجلس النواب " مفاجآت " مبيّتة وتعقبها او تنشأ من دونها أفعال وردود أفعال وأهوال تحوّل المخرج عينه مأزقاً أو ربما مقتلا او شيئا من هذا القبيل.
هل بات لبنان ، مرة أخرى ، مرشحا لخوض إمتحان عسير او ، ربما ، مهدداً بمعاناة محنة متجددة ؟
لعل الجواب عن هذا السؤال يبدأ بإجراء عملية مسح سريعة لمواقف الأطراف المتصارعين .
على الصعيد المحلي ، ثمة ثلاث فئات من اللاعبين تنتظمهم ، رغم إختلافاتهم، رؤى وتوجهات ومصالح مشتركة . الفئة الأولى مروحة واسعة من القوى والشخصيات الوطنية والإسلامية المتحالفة مع سوريا في مواجهة تحديات إقليمية مصدرها الرئيس إسرائيل ، وأخرى دولية أصبح لها حضور إقليمي مصدرها الخطير الولايات المتحدة الأمريكية .
الفئة الثانية مروحة عريضة من القوى والشخصيات الليبرالية والمسيحية المتضررة من الحضور السوري في لبنان والمتقبّلة شتى أشكال الدعم السياسي الخارجي لمطالبها في الإستقلال والسيادة والكرامة مع الحرص على عدم معاداة سوريا أو الإنزلاق الى مواجهة مع حلفائها المحليين.
الفئة الثالثة لقاء او إطار فضفاض من الشخصيات والقوى الوطنية والديمقراطية التي تنخرط مع معظم أطراف الفئة الأولى في مواجهة الهجمة الأمريكية الصهيونية ضد العرب والمسلمين ، إلاّ انها تنتقد غلبة المقاربة الأمنية على النهج العام لهذه الفئة وغياب الديمقراطية وإستشراء الفساد في ممارستها السياسية . كما تتوافق مع معظم أطراف الفئة الثانية على تأكيد مطلب السيادة الوطنية في إطار علاقة قومية إستراتيجية مع سوريا ، إلاّ انها تنتقد غلبة الإعتبارات الطائفية على موجبات المواجهة القومية في النهج العام لهذه الفئة ، كما تنتقد سكوتها عن رموز الفساد في الفئة الأولى وعدم إلتزامها نهجا إصلاحيا ديمقراطيا لإعادة بناء الدولة.
غير ان أهم مميزات الفئة الثالثة – وهي الأضعف بين الفئات الثلاث – إلتزام معظم أطرافها برنامجا متكاملا للإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي وإعتباره شرطا وضمانة لمواجهة التحديات الخارجية الماثلة من جهة، ولتحقيق السيادة الوطنية الناجزة في إطار العلاقة القومية الإستراتيجية مع سوريا من جهة اخرى.
على الصعيد الإقليمي ، تبدو سوريا أبرز اللاعبين وأكثرهم فعالية . فحضورها في لبنان لا يقلّ عمره عن ثمانية وعشرين عاما، ونفوذها يمتدّ من أعلى السلطات والمؤسسات السياسية الى أدنى الهيئات والقواعد الشعبية . ولعل أحدا لا يجادل في ان حضورها يشكّل العامل الأول والافعل في إستعادة السلم الأهلي وتوطـيد الأمن والإستقرار بعد أكثر من خمس عشر سنة من الحرب الأهلية الضارية . غير أن غلبة المقاربة الأمنية على نهجها العام وتورط بعض أجهزتها في لعبة الفساد عطّلا إضطلاعها بدور إصلاحي في عملية إعادة بناء لبنان.
اللاعب الإقليمي الثاني من حيث الفعالية على الساحة اللبنانية هو اسرائيل . فهي ما زالت تحتل شطراً من لبنان في جنوبه الشرقي ، ويمارس طيرانها الحربي إنتهاكات يومية للأجواء اللبنانية ، ويقصف احياناً مواقع وأهدافاً مدنية ، كما ينشط عملاء " الموساد" المحليون في تدبير العمليات الإرهابية ضد قادة المقاومة الإسلامية وحزب الله ، وتنفيذ التفجيرات ضد المدنيين الأبرياء في المناطق الكثيفة السكان. ويخشى بعض المراقبين من ان تكون هذه العمليات والتفجيرات مجرد تمهيد لضربة شديدة ضد حزب الله ، قيادةً وكوادر ومواقع محتملة لتخزين الصواريخ القريبة والمتوسطة المدى . كل ذلك من أجل إختبار قدرات اسرائيل العسكرية وضمان تفوقها الإستراتيجي وإكراه سوريا على الإنسحاب من لبنان.
على الصعيد الدولي ، تلعب الولايات المتحدة دورا ناشطا ومتزايد التأثير في دول الشرق الأوسط عموما وفي العراق وأفغانستان خصوصا. ويبدو ان تورطها المكلف في العراق دفعها الى تزخيم سياستها الممالئة لإسرائيل والمتواطئة معها وبالتالي الى تفعيل ضغوطها على سوريا أملاً في دعـم حلفائها في العراق من جهة وإضعاف أعدائها في لبنان من جهة اخرى . في هذا الإطار ، أقرّ الكونغرس الأمريكي " قانون محاسبة سوريا وإستعادة سيادة لبنان " ، كما حرصت إدارة بوش على ممارسة ضغوط متعاظمة على سوريا من أجل تحقيق مطالب ثلاثة : وقف تسلل الرجال والعتاد عبر حدودها الشرقية الى العراق ، وطرد ممثلي منظمات المقاومة الفلسطينية من دمشق ، وتجريد حزب الله اللبناني والمقاومة الإسلامية تاليا من السلاح.
اللاعب الدولي الثاني من حيث الفعالية على الساحة اللبنانية هو فرنسا. فهي تتمتع بحضور سياسي وثقافي لافت منذ أيام انتدابها على لبنان في عشرينات القرن الماضي، وقد عززه لاحقا رئيسها الراحل شارل ديغول بوقوفه وحزبه مواقف مؤيدة للقضايا العربية . غير ان فرنسا في ظل حكم جاك شيراك لا تخفي تعاطفها مع أطراف الفئة الليبرالية والمسيحية المتحفظة عن التدخل السوري في لبنان ، كما تحرص على إظهار تأييدها للسيد رفيق الحريري ، لا سيما لسياسته الإقتصادية وأفضلياته الإقليمية .
دمشق لم تكن غافلة عن إرتباطات الحريري الإقليمية وصلاته الفرنسية والأمريكية . غير انها أجازت له دوراً على الساحة اللبنانية يسمح له بقيادة برنامج للنهوض الاقتصادي بعد سنوات الحرب العجاف والإختلالات المالية والاجتماعية التي نجمت عنها. لكن الحريري ، الذي أثبت بممارسته السياسية انه أكثر من مجرد رجل أعمال واسع الثراء والنفوذ ، إستطاع ان يستميل بعضا من القياديين السوريين وان يحظى بدعمهم . وقد حرص هؤلاء على تبرير دعمهم له بذرائع شتى أبرزها انه حليف صادق لسوريا وانه ، كرئيس حكومة مسلم ، لا يمكن ان يرتضي لنفسه خصومة دمشق تجاه أي قرار او سياسة تعتمدها في سياق مواجهة تحديات وضغوط خارجية .
هذه الثقة السورية المتواصلة بالحريري تعرّضت لصدمة شديدة مؤخراً عندما تناهى الى عِلْم المسؤولين السوريين ان للحريري دورا مؤثراً لدى صديقه شيراك في مسعى هذا الأخير لإقناع إدارة بوش بتقديم اقتراح مشترك الى مجلس الأمن الدولي يدعو الى إنهاء " الاحتلال" السوري للبنان بالإستناد الى إتفاق الوفاق الوطني في الطائف للعام 1989.
ردة الفعل السورية على تحرك شيراك ، الذي وجد من يتجاوب معه في البيت الأبيض ، كانت سريعة وخاطفة. فقد تخلت دمشق بغتةً ودونما مقدمات عن تروّيها المضني في معالجة الشؤون اللبنانية وإندفعت الى مصارحة أصدقائها وخصومها بعزمها على دعم التجديد لحليفها وصديقها العماد اميل لحود في رئاسة الجمهورية . وإذ بادر لحود الى التخلي بدوره عن موقـف " من لا يطلب شيئا لنفسه " عارضا ترشحه لولاية ثانية " إذا رغبت الأغلبية النيابية في إسناد هذه المهمة اليه على أساس خطاب القَسَم " ، فإن ردود الفعل السلبية المحلية والدولية على ذلك ، خصوصاً ما صدر عن البيت الأبيض وشيراك ويوشكا فيشر وزير خارجية المانيا وبيل رامل وزير الدولة البريطاني للشؤون الخارجية ، حمل دمشق على تعديل موقفها بالإستعاضة عن التجديد للحود ( أي بإنتخابه لولاية مدتها ست او خمس سنوات إضافية ) بتمديد ولايته بموجب قانون دستوري لمدة ثلاث سنوات فقط !
بسبب هذه التطورات ونتيجةً لها بدأ سباقٌ محموم بين الخطوات المستعجلة لإتمام إجراءات التمديد للرئيس لحود في مجلس النواب ، وإصدار قرار في مجلس الأمن يدعو الى السماح للبنان بتقرير مستقبله من دون تدخلٍ سوري .
حتى لو تأمّن إقرار قانون تمديد ولاية لحود قبل صدور قرار مجلس الأمن أو بعده فإن الرئيس اللبناني وحلفاءه ومن ورائهم سوريا باتوا في وضع مقلق نسبيا من حيث :
• ان صرف النظر عن التجديد للحود بعملية إنتخابية مع وجود منافسين له والاكتفاء بالتمديد بموجب قانون ، أَساء الى الديمقـراطية ووفّر للمعارضـة المحلية ، كمـا لواشنطن وباريس ولندن وبرلين ، مادةً خصبة للنيل من لحود وللضغط على دمشق.
• ان معارضة الكتل النيابية التي يقودها رفيق الحريري ووليد جنبلاط وجماعة " قرنة شهوان" وسائر النواب المسيحيين المعارضين لتمديد ولاية لحود قلّصت إمكانية تدبير الغالبية المطلوبة لإقرار المشروع (86 نائبا من أصل 128) وحَمَلَت دمشق تاليا على إسترضاء الحريري للفوز بأصوات نوابه ال 18 بتجديد بقائه في رئاسة الحكومة الى أجل غير مسمى .
• ان التجديد للحريري في رئاسة الحكومة يُغضب الرئيس لحود بسبب النفور الشخصي بينهما ، كما يجعل مسألة إستكمال لحود تنفيذ بنود خطاب القسَم الإصلاحي ، لتبرير تمديد ولايته ، أمرا بالغ الصعوبة إن لم يكن مستحيلاً .
• ان التجديد للحريري سيرافقه على الأرجح التجديد لنبيه بري في رئاسة مجلس النواب. بذلك تكون الطبقة الحاكمة قد أفلحت في التجديد لنفسها الى أجل غير مسمى تحت شعار رص الصفوف لمواجهة التحديات الخارجية !
• ان ضمور فرص التغيير والإصلاح ومحاربة الفساد في ظل عودة بري والحريري الى السيطرة على السلطتين التشريعية والتنفيذية سيحمل الفئة الثالثة ( الشخصيات والقوى الوطنية والديمقراطية الإصلاحية ) الى التحفظ عن الثالوث الحاكم والإقتراب من الفئة الثانية ( الشخصيات والقوى الليبرالية والمسيحية ) في كل ما له صلة بالإصلاح الديمقراطي ونصرة حقوق الإنسان والحريات العامة ومحاربة الفساد.
هكذا يجد الثالوث الحاكم نفسه (ومن ورائه دمشق ) في موقف سياسي دقيق وغير شعبي. بل ان دمشق ستجد نفسها أسيرة طبقة حاكمة يكّن معظم أركانها لسياستها اللبنانية والإقليمية العداء ولا يتورعون عند أول منعطف إقليمي حاد عن الانقلاب عليها او الإبتعاد عنها.
وعليه ، يشكّل التمديد للرئيس لحود من حيث هو رمز القوى الوطنية والإسلامية المتحالفة مع سوريا ضد الهجمة الأمريكية – الصهيونية مخرجا ضيقا ومؤقتاً من أزمة خانقة ومرشحة لمزيد من التعقيد والخطورة . كما يمثل التجديد للحريري ، وربما لبري أيضا، تعبيراً عن قصور في الوعي والمخيلة ، وتخوفاً من الإنفتاح على قوى التغيير والإصلاح والديمقراطية ومحاورتها والتعاون معها ، وعناداً في سلوك سياسة تقليدية غير منتجة تقوم على المزيد من الشيء نفسه ..