لم تكن فرنسا في مسألة لبنان ذيلا لأميركا كما كانت بريطانيا في مسألة العراق . فرنسا كانت المبادرة ، هذه المرة ، وأميركا هي الملتحقة بها قبل ان تُضطر فرنسا الى التخلي عن الصدارة في محاولة يائسة لإنقاذ رهينتيها في العراق.
معروفة أغراض أميركا في الشرق الأوسط ، اذْ يمكن إختصارها بثلاث كلمات : إعـادة هيكلة المنطقة . ترى ، ما أغراض فرنسا ؟
قدرات فرنسا ونفوذها ومصالحها أدنى وأقل من تلك التي لأميركا . لذا فهي تعارض إنفراد أميركا بالمنطقة وسعيها الى احتكار خيراتها بمعزل عن أوروبا. ما تريده ، اذاً ، هو مشاركة اميركا وليس مزاحمتها. أميركا لم تقرّ لأوروبا ، بعدُ ، بهذا الدور. لكن لا بأس من اللقاء معها ، خصوصا مع فرنسا ، في تأديب او معاقبة خصوم مشتركين .
في هذا الإطار ، التقى الجانبان على مضايقة سوريا ثم على معاقبتها اذا اقتضى الأمر.
الحقيقة ان فرنسا لا تعتبر سوريا خصما على صعيد المنطقة . لكنها تعتبرها منافسا مزعجا على صعيد لبنان . ذلك ان للبنان مكانة ثقافية لدى فرنسا فضلاً عن كونه سوقا مستهلكة ومجال توظيف وتثمير لرساميلها عبر البحار.
فرنسا ترغب في ان تكون الأولى في لبنان بين القوى الخارجية المتنافسة ، لا سيما الغربية منها ، نفوذا ومصالحَ ومصدرَ إلهام . توظّف ، في هذا المجال ، لغتها وثقافتها الى جانب نفوذها السياسي لتحقيق أغراضها.
لعل نفوذها تضاعف ، في خلال السنوات العشر الماضية ، بسبب نجاحها في إستقطاب رئيس الحكـومة رفيق الحريري. فقد وفّرت له ، على الصعيد البروتوكولي ، الكثير من الوجاهة والصدارة ، مقابل الفرص التي اتاحها لها على صعيد الإقتصاد والأعمال . ومع الحريري أصبح فريق من المسلمين ، وليس المسيحيون وحدهم ، مشاركا ومتمتعا بالنفوذ والرصيد والسمعة الجيدة التي تحظى بها فرنسا في لبنان.
تغاضت دمشـق عن دور الحريري في مضاعفة الرصيد الفرنسي لدى اللبنانيين . فقد حرص الرجل على ان يشركها فيه وان يطّور هذه المشاركة الى لون من ألوان الترويج للسياسة السورية في أروقة قصر الأليزيه حتى قيل فيه إنه وزير خارجية سوريا الخاص لدى فرنسا وعموم أوروبا.
الحريري لم يكتفِ بهذا اللقب ، بل سعى الى توسيع مدلوله بحيث يشمل الولايات المتحدة أيضا. ولم تكن واشنطن لترفض عرضا كهذا نظـرا للعلاقة الوطيدة التي تربط الحريري بالسعودية . ألم يكن الحريري في مطلع حياته السياسية موفدا شخصياً للملك فهد الى سوريا في إبان إحتدام الحرب الأهلية اللبنانية ؟
بعد هجمات 11 ايلول/ سبتمبر أحست دمشق بأن اولويات الحريري تبدلت . هو لم يبتعد عنهـا ، لكنه إقترب كثيرا من واشنطن وأصبح مع الأمير بندر بن سلطان ، السفير السعودي في الولايات المتحدة ، داعيةً لسياسة " تغيير النظام " في العراق ، كما يُستفاد من كتاب بوب وودورد الأخير " خطة الهجوم ". ولم تكن باريس لتعارض في مسألة تعاون الحريري مع واشنطن طالما لا تتعارض مع دور الحريري المؤيد لها في لبنان وسوريا .
هذا التطور في دور الحريري لم يرقْ لدمشق . فهي عارضت الحرب على العراق وتضررت من إحتلاله وانتشار القوات الأميركية على حدودها الشرقية . ومع ذلك فإن دمشق لم تتخلَ عن الحريري ، الاّ انها أخذت تولي رئيس الجمهورية العماد اميل لحود مزيدا من الرعاية والدعم . فلحود ، وحده بين الزعماء اللبنانيين ، قادر بإرادته وبموقعه على لجم الحريري إذا ما جمح وأن يحقق لدمشق تاليا التوازن المطلوب.
قبل إقتراب موعد إنتخاب رئيس جديد للبنان بأشهر عدّة ، أحست دمشق بأن واشنطن تبيّت ضدها أمراً ، وان " قانون محاسبة سوريا وإستعادة سيادة لبنان " الذي أقرّه الكونغرس بمجلسيه أواخر العام الماضي هو مدخل لمناهضة وجودها في لبنان تمهيدا لنقل المعركة ، إذا اقتضى الأمر ، الى الداخل السوري. في هذا السياق ، باشرت واشنطن ضغوطا هائلة على سوريا من أجل تحقيق مطالب ثلاثـة : وقف تسلل الرجال والعتاد عبر حدودها الشرقية الى العراق ، وطرد ممثلي منظمات المقاومة الفلسطينية من دمشق ، وتجريد حزب الله ( والمقاومة الإسلامية ) من السلاح .
هذه المطالب ، في عرف دمشق ، مطالب صهيونية ، خصوصا بعدما تكشّف دور اسرائيل ومصلحتها في الغزو الأميركي للعراق. ومن الطبيعي ، والحالة هذه ، ان تصبح دمشق أكثر حذرا من أصدقاء أميركا في لبنان.
تبدّى هذا الحذر مع إقتراب موعد البتّ في من يكون رئيس لبنان المقبل : هل يُجدّد للرئيس لحود او يجري إختيار مرشح آخر من أصدقاء سوريا ؟
في عزّ المشاورات الجارية حول القضية مع الزعماء اللبنانيين ، تسلّمت دمشق وبيروت تقريراً جرى تسريبه من واشنطن ( أشرنا اليه في مقالتنا الأسبوع الماضي) يتضمن معلومات مقلقة عن مبادرة فرنسية ، بطلها الرئيس جاك شيراك شخصيا، لإقناع البيت الأبيض بتقديم إقتراح مشترك لمجلس الأمن يدعو سوريا ، من بين أمور أخرى ، الى سحب قواتها من لبنان عملا بإتفاق الوفاق الوطني الذي جرى التوصل اليه في الطائف العام 1989..
لماذا أطلقت باريس هذه المبادرة ؟ لأن شيراك وجد في تمديد ولاية الرئيس لحود مشروع إقصاء للحريري عن رئاسة الحكومة وبالتالي تقليصا محتملا لنفوذ فرنسا في لبنان وربما في العالم العربي أيضاً.
يبدو ان واشنطن تحفّظت ، بادىء الأمر ، على المبادرة الفرنسية ، لكنها ما لبثت ان إحتضنتها وباشرت نشاطا واسعا من أجل تحويلها قرارا ملزما في مجلس الأمن .
تنبّهت دمشق فورا لمحاذير هذه المبادرة واستهدافاتها ، وقرأت فيها مشروع هجوم سياسياً عليها في الساحة اللبنانية قد تتبعه ، من طرف اسرائيل ، عمليات عسكرية تستهدف حزب الله والمقاومة الإسلامية .
ردت دمشق فورا على المبادرة الفرنسية – الأميركية بقرار سريع قضى بتثبيت التمديد للحود وبإستنفار واسع لأصدقائها وحلفائها في لبنان من أجل مواجهة الهجمة الأميركية – الأوروبية البازغة .
لم تكتفِ دمشق بهذا القرار وتلك التعبئة بل شفعتهما بطلب الى الحريري بإن يرتفع فوق خلافاته مع لحود ويوافق مع أعضاء كتلته على مشروع القانون المتعلق بتمديد ولايته ، مع إيحاء له بإمكانية الإستمرار على رأس حكومته الحالية في الحاضر والمستقبل المنظور. كان طلبا صعبا بلا شك ، ومع ذلك إضطر الحريري الى الموافقة عليـه خوفاً على مصالحه الضخمة والمتشعبة في لبنان . غير انه حرص ، من ناحية أخرى ، على السماح لإنصاره بان يشيعوا بأنه فعل ذلك تحت الضغط والتهديد !
اذْ بدأ سباق محموم بين الخطوات المستعجلة لإتمام إجراءات التمديد للرئيس لحود في مجلس النواب من جهة وإستصدار قرار من مجلس الأمن يدعو الى السماح للبنان بتقرير مستقبله من دون تدخلٍ سوري من جهة اخرى ، فقد بدت المراجع السياسية في كلٍ من بيروت ودمشق حائرة في تفسير المبادرة الفرنسية – الأميركيـــة ( التي أصبحت أميركية بالدرجة الأولى بعدما تراجعت باريس عن مركز الصدارة فيها لئلا تسيء الى سعيها الحثيث لإطلاق رهينتيها المحتجزتين في العراق !). بعض المراجع في بيروت إعتبرها تمريناً في التهويل لتخويف سوريا وحملها على التراجع عن التمديد للحود ، فتكسب عليها بالنقاط في لبنان دونما إراقة دماء. البعض الآخر قال إن الأمر يبدأ تهويلاً ، لكنه سينتهي في آخر المطاف تدويلا للمسألة اللبنانية التي باتت تعني في الوقت الحاضر الوجود السوري في لبنان من حيث هو رافعة للخط الوطني المعادي للهجمة الأميركية – الصهيونية على المنطقة برمتها.
القائلون بالتهويل يدعون الى رص الصفوف ومقاومة الضغوط الخارجية بالتمديد للحود وتعبئة القوى الوطنية والإسلامية وتمتين التحالف مع سوريا.
المتخوفون من التدويل يطالبون بأكثر من ذلك : يقولون ان أفضل طريقة للدفاع هي الهجوم ، وان اهل القرار في لبنان وسوريا – وهم فريق واحد – مدعوون الى إحداث تغيير جذري في النظام وأسلوب الحكم جوهره المصالحة الوطنية ، والإصلاح الديمقراطي ، ومحاربة الفساد ، ومعالجة الضائقة المعيشية التي تأخذ بخناق الطبقة الشعبية ، وتوسيع الخدمات الاجتماعية ، ودعم المقاومة ، وإقصاء أصدقاء أميركا عن السلطة من خلال انتخابات عامة تجري بموجب قانون إنتخاب عادل يضع سقفا للإنفاق الانتخابي ، ويؤمن المساواة في إستخدام وسائل الإعلام ، ويحول دون تدخل أجهزة المخابرات لخدمة رموز الطبقة الحاكمة .
الاجتهادات كثيرة والمعركة ما زالت في بدايتها.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية