أهمّ ميزة ملازمة للنظام الرسمي العربي هي الإستئصال , حيث يتعاطى هذا النظام في تعامله مع كافة تفاصيل الواقع بمنطق الإستئصال و الإستئصال فقط .
ومثلما يستأصل هذا النظام الرسمي العربي الفرد يسـتأصل المجموع أيضا ولا يستسيغ وجود أيّ تيّار مغاير أو فكرة مغايرة أو برنامج سياسي مغاير أو مدرسة ثقافية مغايرة أو نخبة مغايرة . وعلى الرغم من أنّ التغاير سنّة كونيّة طبيعية حيث تعدد الفصول والأعراق و الطبائع والنفوس و الجمادات والعجماوات إلاّ أنّ النظام الرسمي العربي يسير في إتجّاه معاكس لهذه الخصيصة الكونية و الفطريّة الأمر الذي جعله عرضة للإهتزازات والإرتدادات السياسيّة وغيرها , والأمر الذي جعل عوامل الثورة والعنف في كل دولة عربية في إضطرّاد ونماء مستمّرين . وقد أدّت بنيويّة النظام الرسمي العربي القائم على الأحاديّة إلى إنتاج كل عوامل التصدّع السياسي والثقافي والإجتماعي والأمني , وهذا النظام الرسمي العربي لم يعممّ ثقافة الإستئصال على الواقع السياسي بل لجأ إلى إستئصال كل تفاصيل حياتنا , إستأصل الثقافة والفنّ والفقه والفكر والإقتصاد و العمل السياسي والحزبي والإعلام بل إستأصل حتى اللقمة التي باتت الهدف المقدّس الأوحد للمواطن العربي الذي إستأصل منه هذا النظام الرسمي العربي كل شيئ .
لكن كيف تدفقت ثقافة الإستئصال إلى شرايين النظام الرسمي العربي وتحكّمت في مسارات الخلايا والكريّات البيضاء والحمراء المكونّة للجسم السياسي الرسمي !
مبدئيّا تجب الإشارة إلى أنّ النظام السياسي في العالم العربي هو نظام هرمي تتحكّم القمّة في القاعدة بل لا يمكن للقواعد أن تتنفّس بدون إيعاز القمة التي توزّع هواءها وأوامرها وتعليماتها عبر مؤسسات لا علاقة لها بالديموقراطية بل هي مؤسسات في خدمة القمّة و منفذّة مخلصة ووافيّة لتوجهات هذه القمة .
و الذي يقف على رأس الهرم هو الرئيس العربي أو حاكم الدولة وهو إمّا عسكريّ وصل عن طريق الإنقلاب العسكري إلى الحكم أو رئيس متواطئ مع مراكز القوة في هذه الدولة وتلك وقد أوصلته إلى دوائر القرار لتنفيذ أجندة الكبار والتمكين لمصالحهم أو ملك إبن ملك ورث الملك العضوض عن أبيه بدعم من الأجهزة الأمنية ووزارات الدفاع , و مقدمة هؤلاء لم تكن ديموقراطية إنفتاحية وبالتالي لا ينتظر أن تكون النتائج من سنخ غير سنخ المقدمات , وبعبارة أخرى فإنّ المجموع الذي هو الأمة لا دور له في صناعة قمّة الهرم بل هو بمثابة متلقي الأوامر والقبول بكل شيئ بدون إشكال مطلقا .
ولأنّ الرئيس العربي لم ينشأ تنشئة ديموقراطية حوارية فمن الصعوبة بمكان إقناعه بضرورة العمل بمبدأ التداول على السلطة وترك مكانه إذا كان في الأمة من هو أكفأ منه , فهذه تعتبر نظريات بيزنطية في عرف الحاكم العربي والأجهزة الأمنية التي توفّر له أسباب البقاء والإستمرارية .
وبهذه الطريقة يكون الحاكم العربي قد إستأصل حق الأمة في تعيين حاكميها وولاة أمورها , و في هذا السياّق لو سألنا أزيد من مائتين مليون عربي , هل كان لكم دور في إختيار هذا الرئيس أو ذاك لضحك الجميع من سفاهة هذا السؤال .
ولأنّ الحاكم العربي العربي إستأصل حقّ الأمة في صناعة قراراتها وعلى رأسها حقّ إختيار وليّ الأمر فإنّه أكمل المسار الإستئصالي فأستأصل النخبة التي لا تنسجم مع خطّه السياسي وإستأصل الحزب الذي لا ينسجم مع طروحاته , وإستأصل الفكر الذي لا يرددّ ما يرددّه وإستأصل الرأي الذي لا يتماشى معه , ولم يكتف بمسح كل التيارات المغايرة له من الخارطة الثقافية والسياسيّة بل فتح المعتقلات والسجون و المقابر الجماعية لكل من لا يتفقون معه في الرؤيّا الخاصة والعامة , وأعتبر هذا الإستئصال والمسخ شرعيّا وقانونيا ودستوريا لأن القانون والدستور عندما صيغا فإنّهما صيغا إنطلاقا من نظرته الأحاديّة الشمولية التي لا يمكن أن تنفتح على الآخر حتى في المجال الفكري , وكفى أن يطلّع المرء مثلا على الفضائيات العربية حيث لا يوجد فيها إلاّ السيمفونية الأحادية الشمولية ولا يوجد فيها أي رأي معارض أو قريب من المعارضة , وبعض الدول العربية تملك أزيد من ستّ فضائيات و أولّها كثانيها وثانيها كثالثها و ثالثها كرابعها وكلب السلطة والمراقبة باسط لسانه لينهش كل فكرة فيها رائحة المغايرة والتغاير مع سيمفونية السلطة ذات النوتة الواحدة الموحدّة الأحادية .
وقد أدّت ثقافة الإستئصال التي تدخل في تركيبة النظام الرسمي العربي إلى تفجير الجدار الوطني و إنتاج الفتنة الكبرى في أكثر من جغرافيا عربية , و كان بإمكان السلط العربية الرسمية لو إنفتحت على الأمّة بنسبة عشر بالمائة فقط أن تحلّ الكثير من المعضلات وعلى رأسها إنبعاث الحروب الأهلية الداخلية والتي أفضت إلى تدخل الإرادات الدولية في واقعنا كل واقعنا بحجّة حماية حقوق الإنسان و الأقليات الإثنية المضطهدة , وتبعث لنا المشروع تلو المشروع للإصلاح وتغيير الأحوال من السيئ إلى الأحسن .
ففي الجزائر عندما قررّت الدبابة إستئصال المسجد , وعندما قررّ أبناء فرنسا أو أبناء فافا كما يسميهم الجزائريون إستئصال أبناء باديس إندلعت حرب أهلية راح ضحيتها نصف مليون جزائري بين قتيل ومفقود , وفي تونس عندما قررّ قصر قرطاج إستئصال الزيتونة ورجالها , وعندما قررّ التغريب إستئصال الأصالة دخلت تونس في أسوأ مراحلها حيث ملّت منظمات حقوق الإنسان من المطالبة بإحترام حقوق انسان في تونس , و في المغرب عندما قرر المخزن إستئصال حقّ الأمة في صناعة قرارها وعندما إستأصلت عباءة الملك سروايل المواطنين الممزقّة في مكناس وطنجة إندلع صراع الطبقات و السياسات , و في موريتانيا عندما إستأصل العسكر الخيمة ومدلولاتها دخلت موريتانيا في المجهول.
والإستئصال لم يكن في المجال السيّاسي والثفافي والفكري بل هناك إستئصال إقتصادي وهو الذي أنتج ثورة الخبز هنا و ثورة الزيت هناك وثورة الحنطة هناك وثورة السكر هنالك , فالحاكم والأمير إستأصلا النفط والغاز والأراضي الزراعية والصناعة و الإنتاج الزراعي والصناعي و الوكالات وتمثيل الشركات الغربية ونظام الكفالة و الرساميل والبنوك , وأصبح المال العام محاصصة بين الرئيس وبنيه, وهذا ما يفسّر الصراع الطبقي الفظيع والمذهل بين الطبقة الحاكمة الإستئصالية الأقلية والطبقة المستأصلة الأغلبية وهو الذي جعل ملايين البشر في عالمنا العربي والإسلامي يعملون بمقولة الصحابي الجليل أبي ذرّ الغفاري رضوان الله عليه :
عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج شاهرا سيفه !
إنّ ثقافة الإستئصال والتي مازالت تميّز النظام الرسمي العربي والتي أصبحت من مقومّات هذا النظام ما زالت مستمرة و فاعلة في واقعنا السياسي والثقافي والإعلامي على الرغم من التداعيات الكبرى التي يشهدها عالم اليوم و على الرغم من المتغيرات المضطردة و السريعة في مجال الحركية السياسية و التقنية و التكنولوجية و النهضوية !
إنّ ثقافة الإستئصال هي التي أنتجت حالة الطوارئ و الأحكام العرفيّة وتعطيل العمل بالقانون و إطلاق أيدي الأجهزة الأمنية و وزارات الداخلية و الدفاع التي يجب أن نسميّها وزارات الإهانة والإذلال والقمع والإحتقار ونزع السيادة عن المواطن ووأد كرامة المواطنين , وهي التي جعلت الحاكم العربي يمددّ حالة الطوارئ سنويّا وكلما دعت الحاجة إلى وأد التيارات السياسيّة والإعلام وحركة الإبداع والثقافة , وكلما دعت الأمور إلى ترتيب بيته السياسي و التمديد لولايته أو التمهيد لتعيين إبنه على رؤوس الأشهاد , وحتى لو أصيب حاكمنا العربي بإنزلاق غضروفي أو إنزلاق دماغي أو جلطة هنا أو هناك فإنّه يظلّ متشبثا بثقافة الإستئصال وهو مرض فتّاك ما لم يبرأ منه نظامنا الرسمي العربي سيظلّ واقعنا العربي على ما هو عليه إلى أجل غير مسمى !
]