الأيام ظروف للأحداث ووعاء للوقائع، ولا يحسب طولها او قصرها بعدد الساعات ودقات الدقائق كما يظن عامة الناس لأنها حين تقاس بذلك تغدو جميعا سواسية كأسنان الحمار (!) لا فضل لواحد منها على آخر، فرب يوم أيوم يفضل سنين خامدة واعواما راكدة كبركة الماء الآسنة التي تنتظر حجرا ثائراً ينفض عنه غبار السكون الثقيل واديم الرتابة القاتلة، ولست بواحد حقا اذا سرحت طرفك فيما تعايش من الايام اطول من هذا اليوم الذي يتمطى بطيئا كئيبا مذ ثلاث سنين عجاف اكلت الشحم واللحم والعظم، ونجهل حتى الساعة افي مسائه نحن أم في ضحاه! (الحادي عشر من سبتمبر) حين يقرع سمعك صليل حروفه فإن الراء الانفجارية ستظل مترددة في الاذن الى ما لا نهاية! بدأ اليوم بما عرف بغزوة مانهاتن، واستمر سحابة نهاره وربما ضحاه ـ بغزوات بوش للعالم الاسلامي او الحرب الصليبية كما نطقها وان اختلف الناس في تأويل مراده والكشف عن كنه مدلولها، وحسبك بالواقع مفسرا صادقا لا يكذب ولا يجامل، ذهب ضحية تفجيرات (فجر) ذاك اليوم ثلاثة آلاف قتيل، وقبل ان ينتصف نهاره سقط ما يربو على ثلاثين الف قتيل في بلاد الافغان وارض الرافدين، واقيمت الصلوات من شتى الملل ترحما على الثلاثة، ولم ترق على الثلاثين دمعة واحدة! فالدولار الاميركي لا يتفوق على العملات الاخرى في دنيا المال والاقتصاد فقط، بل يجوزها الى عالم البشر وبورصة الحياة والموت فالواحد بعشرة، والسعر في ارتفاع دائم مع كل دقيقة تمضي من دقائق هذا اليوم السرمدي!
كثيرة هي التساؤلات المطروحة على بساط التأمل والفحص مع تجدد الذكرى الكريهة، لكن سؤالا يلح على الذهن حين ينظم سياق الاحداث في نسق ممتد من لحظة تهاوي البرجين الى لحظة التذكر هذه: أكان الامربرمته مجرد ردة فعل اميركي لضربة هزت عنفوان اميركا الشامخ وجرعتها لسويعات معاني الانكسار ومذاق الانهزام؟ فكان ما كان من غزو افغانستان و(تحرير) العراق؟ وبمعنى آخر: أكانت غزوة مانهاتن ـ كما يسميها اللادنيون ـ هي السبب المهيج لانطلاق ما عرف باسم الحملة العالمية لمكافحة الارهاب؟ ام انها كانت مجرد عامل تسريع لمواجهة مرتقبة سبق التخطيط لها مليا وفق استراتيجية ما بعد الحرب الباردة، وكانت تلك الغزوة حاسمة فقط في تعجيل توقيت الشحنة الناسفة المعدة منذ فترة طويلة؟ هل آثرت اميركا ان تتقبل برضاها ـ وربما على حين غرة! ـ الضربة الاولى لتجد لها مسوغا في مقابلة الضربة بضربات ورد الصاع بصيعان! ايخطر في ذهن عاقل ان تسير سياسة الدول العظمى في العالم وفق مبدأ الفعل ورد الفعل؟ وليت شعري ان كان الأمر كذلك، فما الحاجة الى جيوش عرمرمية من الخبراء والعلماء والمخططين الاستراتيجيين الذين تقف وراءهم مراكز بحثية وجامعات عريقة ومن خلفها مؤسسات صناعة القرار في واشنطن التي تغدق عليها بسيل عرم من الدعم والتعزيز؟
وقبل المبادرة الى الاجابة عن السؤال عليك الا تقصر نظرك على الجانب العسكري من المواجهة مهملا الجوانب الاخرى من مثل: صياغة المناهج التربوية وغسل الادمغة وتجفيف المنابع واثارة القلاقل في مناطق لا ناقة لها ولا جمل في غزوة مانهاتن، اننا نعيش بروسترويكا (اعادة بناء) للعالم الاسلامي وتأهيله بما يتماهى مع النظام العالمي الجديد أيعقل ان يكون كل هذا وليد لحظة انتقام لعزة منتهكة وغضبة (بوشية) لحريم النسر الاميركي الذي لا يضام؟ لا تشغل بالك كثيرا، فساعات اليوم (السبتمبري) البطيئة كفيلة بالإجابة عن ذلك كله!