من الحقائق المثيرة في علم النفس أن إدراك الناس للأشياء يبدأ بسيطا ثم يتجه إلى التركيب فالطفل إذا أمام مجموعة من الناس لا يستطيع إلا إدراك التفاوت في بعد واحد كأطوالهم، ولكي يستطيع تصنيفهم وفقا لمعيار مركب كالطول والنحافة أو السمنة فإنه يحتاج لتعلم ذلك. وفي السياسة لكل فعل أبعاد عدة ونتائج مباشرة وأخرى غير مباشرة، ومما يكشف درجة وعي النخب السياسية قدرتها على رؤية الأشياء في منظور مركب يتجاوز الطفولية السياسية وهي للأسف منتشرة عربيا. ومن نماذجها المفلتة إبداء البعض الانتخابات الإسرائيلية رغبتهم في فوز حزب العمل بوصفه "معتدلا"، وهو ما جعل المفكر المصري المعروف الدكتور رفيق حبيب – أول من لفت نظري للظاهرة - يقول إن بعض العرب أصبحوا "شبه أعضاء" في حزب العمل الإسرائيلي!!. وأهم دلالات هذا أن "العمل" حكم إسرائيل منذ نشأتها حتى منتصف السبعينات فهو الذي خاض الحروب وارتكب المذابح، وتلك مفارقة أولى!!
المفارقة الثانية وضع فرنسا في صورة "نصير العرب" هربا لجنتها "الموهومة" من نار أمريكا لدعمها إسرائيل، وحسب هذا المعيار فإن فرنسا الأجدر بهذا العداء، فهي شريك في سايكس بيكو التي صدر "وعد بلفور" بناء عليها، وكلاهما حدث قبل أن تصبح أمريكا قوة دولية، وفرنسا هي التي ساندت إسرائيل عسكريا في السنوات الأولى العجاف بعد صدامها مع بريطانيا وقبل تحالفها مع أمريكا، أما المساعدة الفرنسية التي حولتها لقوة نووية ففاقت في آثارها السياسية كل ما سواها.
وما يربط المفارقتين أن فرنسا وإسرائيل تباعدتا مع صعود الليكود وتأكيد يهودية إسرائيل على حساب علمانيتها، أما مناصرة الحق العربي فهو "شيء لزوم الشيء" على طريقة عبقري الكوميديا المصري نجيب الريحاني.
المفارقة الثالثة الاحتفاء العربي بـ "فهرنهايت 9/ 11" فالفيلم مؤشر لاستنفار علماني ضد البعد الديني في السياسية الأمريكية والجمهوريون أهم رموزه، والموقف المتحمس لم يتغير حتى مع كون مايكل مور يصرح بعدائه للعرب ويضمن فيلمه هجوما مستفزا على دولة عربية هي السعودية. والمفارقة وصلت لقمتها بانضمام سالمان رشدي صاحب "الآيات الشيطانية" لتحالف أعداء بوش، وهم مثقفون مختلفو التوجهات يجمعهم شيء واحد: العلمانية!!
أيضا يبدو العرب كما لو كانوا منحازين لكيري ضد بوش كعقاب على غزو العراق رغم أن ما يسمى "قانون تحرير العراق" أصدره الديموقراطيون ورغم أن موقف كيري المعلن هو تأييد الغزو، ما يعني أن الأمر هو في حقيقته انحياز لكيري (العلماني) ضد بوش الأصولي، حتى لو تشابهت البرامج!!!
وفي النهاية يبدو العرب في حلف عجيب يضم: كيري الأكثر مغازلة لإسرائيل، وفرنسا ذات العلمانية الملحدة، ومور الذي يصرح بأنه يكرههم، وسالمان رشدي وأمره لا يحتاج إلى بيان.
إنه دهاء التاريخ ومفارقاته يكسف عنها تحالف عجيب.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية