دعا النائب وليد جنبلاط رئيسَ الجمهورية العماد اميل لحود الى تقديم إستقالته بدعوى بطلان القانون الدستوري الرقم 585 تاريخ 2004/9/4 القاضي بتمديد ولايته ثلاث سنوات .
دعوى جنبلاط ، في الشكل ، ترتكز على مخالفة القانون الدستوري المطعون فيه الآليةَ التي تنص عليها المادة 76 من الدستور لإجازة تعديله ، إذْ إفتقر مشروع التعديل الى إقتراح صريح من رئيس الجمهورية .
دعواه ، في الأساس ، ترتكز على مخالفة القانون المطعون فيه مقدمةَ الدستور وأحكامها بحلول التمديد محل الإقتراع ، في غياب السرية ، وبحلول الضغط على النواب الناخبين محل الإختيار . رَدَّ وزير الشؤون الاجتماعية القاضي السابق الدكتور اسعد دياب على النائب جنبلاط مؤكداً ان التمديد للرئيس لحود عمل شرعي ومشروع . فهو شرعي لأن مشروع تعديل المادة 49 من الدستور نال موافقة الغالبية اللازمة من النواب بحسب احكام الدستور نفسه . وهو مشروع لأنه نال ، في رأيه ، تأييد غالبية اللبنانيين . وإستدرك دياب قائلا: " إن التشكيك بقانونية التمديد هو تشكيك بشرعية المؤسسات الدستورية التي وافقت عليه " ، أي مجلس النواب.
بصرف النظر عن قانونية الدفوع وأسباب الدفاع والحجج والشواهد التي يدلي بها كل من جنبلاط ودياب ، فإن كلاهما يعتبر ، على ما يبدو ، مجلسَ النواب شرعيا وأعماله تتصف بالمشروعية . فجنبلاط لا يطعن ، في مراجعة الإبطال التي نشرها مع تسعة من زملائه ، في شرعيةِ المجلس النيابي بل يشير الى مخالفات إجرائية في عملية إقرار مشروع تعديل المادة 49 من الدستور .. فلولا هذه المخالفات لكان إقراره ، ربما ، شرعيا . كذلك لا يطعن دياب في شرعية المجلس النيابي بدليل إشارته الى ان غالبية أعضائه صوّتت الى جانب التعديل الدستوري المطلوب ..
الحقيقة ان لا خلاف جوهريا بين مختلف أجنحة الطبقة الحاكمة . فجميعها يعتبر النظام السياسي القائم شرعيا ومشروعاً ، وهي تستفيد من مؤسساته بصورة واضحة وفاضحة على مرّ العهود . وما الخلافات التي تحدث احيانا بين اركان الطبقة الحاكمة الاّ منازعات شخصية طارئة ومؤقتة على المواقع والمصالح والمغانم والأسلاب .
لننظر في مسألة شرعية مجلس النواب . جنبلاط وزملاؤه يعتقدون ان فريقا كبيرا من أعضائه تعرّض لضغوط " من الداخل ومن الخارج ، وإنتهوا الى التصويت لمصلحة التعديل والتمديد ، بعدما كانوا أعلنوا موقفا مغايراً يصل الى حدّ أن يقطعوا هم يدهم ولا يوقعون " (لطفاً راجع نص مراجعة الإبطال المنشورة في جريدة " النهار " ، صفحة 4 ، تاريخ 2004/9/22) .
حسناً ، لنسأل النائب جنبلاط والوزير دياب : هل كان النواب الذين تعرّضوا لضغوط من الداخل والخـارج ليمتثلوا لها لولا ان لإصحاب الضغوط يدا ودوراً في إنتخابهم ودينا عليهم يمكّنهم ، في كل آن ، من تقييد وكالتهم على نحوٍ يتعارض مع أحكام المادة 27 من الدستور ؟ وعندما يكون هذا حال النواب يوم اقرّوا العام 1995 تعديلاً للدستور يجيز تمديد ولاية الرئيس الياس الهراوي ، ويوم فعلوا الشيء نفسه بتاريخ 2004/9/4 هل يكون مجلس النواب ، والحالة هذه ، شرعيا ؟ وهل تكون لتشريعاته المثقلة بالمخالفات الدستورية والقانونية والنظامية أية مشروعية ؟
منذ عقود تستفيد الطبقة الحاكمة ، بمختلف أجنحتها وتلاوينها وأركانها ، من لاشرعية النظام السياسي القائم ومن لامشروعية أعماله وتصرفات القائمين عليه . فالجمهورية التي قيل لنا أنها تأسست مع إعلان دولة لبنان الكبير في ظل الإنتداب الفرنسي العام 1920 لم تقم في الواقع بعد . ما نعيش في ظله اليوم ، بل منذ 84 عاما، ليس دولة بالمعنى الدستوري والسياسي المتعارف عليه بل نظام هو عبارةٌ عن آليةٍ لتقاسم السلطة والمغانم والنفوذ بين زعماء الإقطاع السياسي ، ومتزعمي الطوائف ، ومحترفي الإثارة المذهبية ، وأصحاب المليارات من رجال الاعمال ووكلاء الشركات العالمية الكبرى ، والمتنفذين في الأجهزة الأمنية والإستخبارية .
في ظل هذا النظام الطوائفي الزبائني الفاسد ، كان للخارج دائما دور حاسم في تشكيله وتعديله وإستغلال مؤسساته ومرافقه . وفي ظله أيضا تمكّنت الطبقة الحاكمة من إعادة إنتاج نفسها على مرّ عهوده المتماثلة في لاشرعيتها الصارخة وإمتثالها المهين لإملاءات الخارج وفسادهـا المدوّي .
ما كانت غلبة الخارج على الداخل لتسود طيلة عقود وعهود ذاوية وجارية لولا وجود ثغرة كبيرة ، من بين ثغرات متعددة ، في بنية النظام السياسي القائم . هذه الثغرة هي قانون الإنتخاب المبني على اساس النظام الاكثري والمصنوع خصيصاً للطبقة الحاكمة . فقد تمكّنت القوى الخارجية النافذة ، من خلال القوى المحلية الخاضعة لها او المتواطئة معها ، من التحكم في تقرير حجم الدوائر الإنتخابية ، وعدد مقاعدها ، وتأليف اللوائح ( التكتلات ) السياسية المتنافسة وبالتالي التحكم بنتائج الانتخابات.
اليوم يجد اللبنانيون أنفسهم على مفترق طرق. ذلك ان تبدل موازين القوى الإقليمية نتيجة إحتلال أميركا العراق وتواطئها مع إسرائيل للضغط على سوريا في إطار سياسة إعادة هيكلة دول المنطقة ، قد يوّفر للبنانيين فرصة نادرة لإعادة تأسيس الجمهورية على أسس ديمقراطية صحيحة وصلبة . فالضغوط الاميركية على سوريا انما تجري باسم الديمقراطية وتتوسلها لتصفية نفوذها في لبنان من أجل إحلال نفوذ واشنطن فيه بطريق التعاون والتحالف مع جناح او أكثر داخل الطبقة الحاكمة نفسها . واذا قيض لأميركا ان تنجح في سعيها الخبيث هذا فإنه سيكون محكوما على لبنان ان يبقى حبيس نظامه الطوائفي الزبائني الفاسد مع تبدل طفيف في أشخاص الحاكمين وواجهة السلطات والإدارات العامة.
صحيح ان سوريا نجحت منذ إقرار إتفاق الطائف العام 1989 في إخراج لبنان من حربه الأهلية وفي فرض الأمن وإشاعة الاستقرار في ربوعه – وهو إنجاز إستراتيجي بالغ الأهمية – الاّ انها أحجمت عن تشجيع او تبني أية عملية إصلاحية لنظامه المترهل . لقد لعبت لبنان كما هو في وضعه الراهن ، وفق نظرية البيانو، حيث لكل طائفة وزعيم وسياسي نافذ وقع ودور ، تماما كما لكلٍ من مفاتيح البيانو عندما يلعبها لاعب. إنه إعتماد المزيد من الشيء نفسه ، دونما تبديل او تعديل محسوس ، على مرّ الزمـن ، رغم التطورات والتحديات المستجدة وموازين القوى المتغيرة .
اليوم تجد سوريا نفسها مطالبةً على نحوٍ فظّ بإلغاء وجودها العسكري والسياسي في لبنان وبإحالة الإمرة على الطبقة الحاكمة إياها الى أميركا ، بمشاركـة من فرنسا ، وربما من اسرائيل أيضاً.
من الطبيعي أن تقاوم سوريا هذا التحدي ، لكن أية مقاومة في هذا السبيل لن تكون ناجحة ومجدية الاّ إذا حسمت دمشق ترددها المزمن وتجاوزت مكابرتها المحزنة من اجل الإنفتاح على القوى الوطنية الحية في لبنان وتمكينها ، وسط الصراع الدائر ، من سلوك طريق التغيّر والديمقراطية وبناء دولة الحق والقانون والمؤسسات .
أجل ، ثمة فرصة أمام سوريا لمواجهة تحديات أميركا وإسرائيل بتمكين القوى الوطنية في لبنان ، من التوافق على تأليف حكومة وطنية جامعة من شخصيات وقوى ديمقراطية مستقلة من خارج الطبقة الحاكمة بجناحيها الموالي والمعارض لتتولى ، بروح المصالحة الوطنية وبصلاحيات إستثنائية، تنفيذ برنامج ديمقراطي للإصلاح السياسي والإقتصادي والإداري يقوم على مرتكزات خمسة :
• قانون إنتخاب على أساس التمثيل النسبي من أجل ضمان صحة التمثيل الشعبي وعدالته وتجديد الطبقة السياسية.
• قانون عصري لتنظيم السلطة القضائية على نحوٍ يضمن إستقلالها ونزاهتها وفعاليتها.
• قانون إطار للإنماء المتوازن .
• خطة متكاملة للإصلاح الإداري يكون من شأنها إعادة النظر ببنية الدولة ، إدارةً وجيشاً وقوى امن داخلي ، لتفعيل سلطاتها ومؤسساتها العامة وتزخيم دورها في محاربة الفساد.
• برنامج متكامل للتصحيح المالي ، وزيادة التثمير في القطاعين الزراعي والصناعي ، وتوسيع نظام الضمانات الإجتماعية ، وإعادة النظر بالنظام الضريبي ، وبرمجة تسديد الدين العام ، والوفاء بمتطلبات الإنماء المتوازن .
ولعل من الضروري أيضا تضمين قانون تفويض الحكومة صلاحياتٍ استثنائية بنداً يتعلق بحقها في تشكيل الهيئة الوطنية لتجاوز الطائفية السياسية المنصوص عليها في المادة 95 من الدستور ، على ان تكون مهمتها إستشارية وتخطيطية . كما تقتضي الإشارة الى ان إعتماد نظام التمثيل النسبي سيؤدي الى إنتخاب مجلس نيابي يؤّمن صحة التمثيل الشعبي وعدالته ، فتكون كل القوى السياسية او معظمها ممثلة فيه بحسب أحجامها الشعبية دونما إنتقاص او إفتعال او تدخل . ولا شك في ان مجلساً نيابياً يُنتخب على هذه الأسس سيكون مؤهلاً لتشريع المصالحة الوطنية بقانون للعفو العـام يصدره فور مباشرة سلطاته .
لا أغالي اذا قلت إن إعادة تأسيس الجمهورية أمانةٌ في ضمير القوى الوطنية الحية ومهمة تاريخية لا تقبل التأجيل ، كما انها أمانة في ضمير القوى القومية الصادقة في سوريا ، مُستعجَلَةَ الأداء ، وقد آن الاوان .

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية