خطابان أمريكيان متناقضان إنطلقا أخيرا ليعبرا عن أمريكاتين متناقضتين :
الخطاب الأول للزعيم الديني اليميني المتطرف بات روبرتسون الذي يتزعم فرعا أصوليا نافذا في الكنيسة الإنجيلية الأمريكية .
الخطاب الثاني لرئيس الجامعة الأمريكية في بيروت الدكتور جون واتربوري.
الخطابان إنطلقا من خارج الجغرافيا الأمريكية في تاريخ واحد – الإثنين 4 تشرين الأول / اكتوبر 2004 – لكن في مكانين مختلفين . الأول لعلع في القدس المحتلة في خلال زيارة قام بها صاحبه على رأس أربعة الآف من أنصاره في نطاق حملة لدعم إسرائيل في مناسبة " عيد العرش " اليهودي وذلك بإشراف إحدى المنظمات الإنجيلية الأمريكية التي تعمل تحت إسم " السفارة المسيحية " بغرض تنظيم مؤتمر سنوي في القدس للتضامن مع إسرائيل والمستوطنين . اما الثاني فقد إرتفع بهدؤ في خلال إحتفال أكاديمي نظمته الجامعة الأمريكية في بيروت. روبرتسون إنتهز زيارتـه للقدس المحتلة ليهدد ، على مسمع من مضيفيه اليهود ، رئيسَ بلاده قائلاً : " إذا ما مسّ ( جورج بوش ) القدس وغدت نيته تحويل شرقي المدينة عاصمةً لدولة فلسطينية امراً جدياً ، فإنه سيفقد تماماً دعمنا له . فهذه نقطة مركزية في موقفنا ".
كان روبرتسون قام قبل ذلك برعاية " صلاة دعم من أجل شعب إسرائيل " أمام الكنيست الصهيونية حرص فيها على تبيان فلسفته في دعم إسرائيل . فالمسألة ، بالنسبة اليه ، " ليست مسألة سياسية . إنها مجرد مسألة تنفيذ خطة الرب ... المسيحيون واليهود لهم تراث مشترك ورب مختلف عن رب المسلمين "!
في بيروت كان واتربوري ، الأكاديمي الهادىء والرصين ، يقول لجمهوره إن أمريكا اليوم أمريكتان : محافظة وليبرالية ، رافضا مقولة " الغاية تبرر الوسيلة " لتسويغ إنتهاكات حقوق الإنسان في سياق الحرب على الإرهاب .
واتربوري وصف أمريكا المحافظة القاسية بالتديّن الشديد والإنعزالية والعسكرية ، وشكا من أن لديها قواعد عسكرية عديدة وصناعات أسلحة وجنوداً كثيرين .
في سياق توصيفه أمريكا المحافظة ، حرص واتربوري ايضا على إلقاء الضوء علــى " النمو الذي لا يُصدق للمسيحية الإنجيلية حيث الكنيسة تتعاظم ". ولم ينسَ واتربوري ان يشير الى ان احد افراد هذه الكنيسة هو الآن سيد البيت الأبيض ، كما يشغل فرد آخر منها منصب المدعي العام . وشدّد على انه لا يوجد ما يفرّق بين بوش ومنافسه جون كيري.
في الختام أطلق واتربوري حكمه القاطع على بلاده : " مذْ بدأ تعاطي الولايات المتحدة مع الشرق الأوسط في إبان الحرب العالمية الأولى ، لم يكن شعور شعوبه تجاه أمريكا بعدم الثقة والغضب والنفور عميقا كما هو اليوم ."
اللافت في كلا الخطابين انهما أطلقا في مكانين مختلفين ، غير بعيدين جغرافيا عن بعضهما بعضا ، لكنهما متباعدان فكريا ودينيا ، ويدوران حول موضوعات تنطوي على علاقة حميمة بين الدين والعنف . فالزعيم الديني اليميني المتطرف روبرتسون ينطلق من مسلّمات دينية لديه ليقرر موقفا محددا من رئيس بلاده ومن حق شعب فلسطين في تقرير مصيره . انه ضد إقامة دولة فلسطينية لأن ذلــك ، حسب زعمه ، " يتعارض مع مشيئة الرب " .
اكثر من ذلك : يقرر روبرتسون " ان المسيحيين واليهود لهم تراث مشترك ورب مختلف عن رب المسلمين " !
روبرتسون لم يدعِ النبوة بعد . ومع ذلك لا يتوانى عن الجزم بان " مشيئة الرب" – رب المسيحيين واليهود – ضد إقامة دولة فلسطينية .
هذه النبرة الإفتائية الإملائية ما كانت لتصدر عن روبرتسون وامثاله من المسيحيين الأصوليين الأمريكيين لولا وجود قابلية شعبية متنامية لمرجعية الدين والزعماء الدينيين في الشؤون العامة . صحيح ان الجمهور المسيحي الأصولي لا يعتبر روبرتسون نبيا، لكنه يتقبل منه دونما تحفظ نطقه الديني بكل أبعاده ، بما في ذلك تعبيره عن " مشيئة الرب" . وهكذا تصبح مشيئة الرب ، في واقع الأمر ، مشيئة روبرتسون نفسه !
من هنا تنبع خطورة تعاطي زعماء المسيحيين الأصوليين السياسةَ حتى لا نقول إحتراف بعضهم لها . إنهم لا يناقشون فيها بل يقررون نيابةً عن الناس المؤمنين الذين لديهـم إقتناع عميق بأن زعماءهم يعبّرون فعلا عن مشيئة الرب وعليهم ، بالتالي ، إطاعتهم. وعندما تصبح الإيديولوجيا الدينية هي مصدر شرعية الفعل السياسي فإن المعايير المعتمدة لقياس صحته ومشروعيته تصبح معايير شخصية او شخصانية .
في هذا النطـاق ، لا يختلف المسلمون الاصـوليون عن المسيحيين الأصوليين ، بمعنى ان الطرفين ينطلقان من إجتهادات شخصية للتعبير عن " مشيئة الرب" او مشيئة الله تعالى كما تتبدى في آي الذِكر الحكيم . صحيح ان الإجتهاد الإسلامي محكوم بمعايير فكرية وإجرائية صارمة ، لكن المجتهدين – لا سيما الكبار منهم – يتمتعون بعصمة او شبه عصمة تقيهم المساءلة . وفي غياب المساءلة ، تنمو لبعضٍ منهم سطوة كاسحة تحاكي أحياناً تلك التي يتمتع بها الأنبياء والأولياء.
ما سبب صعود ظاهرة التدّين المسيحي الإنجيلي في أمريكا ؟
ثمة أسباب عدّة لعل أبرزها تنامي شعور الفرد ، لا سيما البسيط ، الضعيف ، وفقير الثقافة بالإنبهار والإنسحاق امام جبروت الحضارة الحديثة وشوامخها المادية الساطعة الامر الذي يولّد فيه شعورا دفينا بالدونية من جهة وحسا ذاتيا بحتمية وجود قوة روحية أعلى وأعظم من هذه الظواهر الدنيوية من جهة اخرى .. فما من يد والاّ ويد الله فوقها ، والاّ توجّب على المرء ان يتعبّد هذه الأنصاب الحضارية الساطعة البهاء التي صنعتها يد الإنسان.
إزدادت ظاهرة التدين عمقاً وإتساعاً بفضل الجهد التنظيمي الذي يبذله زعماء الكنيسة الإنجيلية بصورة عامة ، لا سيما المتطرفون منهم الذين يركّزون على العهد القديم من التوراة ويغرفون من تراثه على حساب العهد الجديد وسيرة السيد المسيح وتجربته المناهضة للتراث اليهودي التلمودي المتحجر.
الى ذلك يجب ان نضيف إنعكاسات هجمات 11 ايلول/ سبتمبر السلبية في النفس الأمريكية وجنوحها الى الإحتماء بالمعتقد المسيحي كدرع وقاية من الهجمة الإرهابية التي حرصت الإدارة كما الإعلام الأمريكيان على نسبتها الى الإسلام .
ذلك كله ادى الى صعود أمريكا المحافظة التي ينتمي اليها روبرتسون وأمثاله على حساب امريكا الليبرالية التي ينتمي اليها واتربوري وأمثاله .
غير ان وارتبوري أخطأ بقوله ان لا فارق بين بوش وكيري . قد لا يكون ثمة فارق بين الاثنين حيال مصالح امريكا العليا ، و الأهداف المتوخاة لسياستها الخارجيـة ، وموقفها الثابت من تأييد اسرائيل ضد العرب والمسلمين .. لكن ثمة فارقا أساسيا وآخر منهجيا بين الرجلين المتنافسين على سدة الرئاسة الأمريكية . الأول خلفّية كيري الليبرالية وكاثوليكيته غير المؤتلفة ، إن لم تكن المتعارضة ، مع المسيحية الإنجيلية . والثاني الإختلاف البيّن بين الرجلين على صعيد المناهج والوسائل المستخدمة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية وحماية مصالح امريكا. فجورج بوش يعتمد أساليب المواجهـة والحرب الإستباقية ومطاردة " الارهابيين " في عقر دارهم مع كل مـا يجرّه ذلك على امريكا وخصومها من آثار ومتاعب وخسائر ، بينما يدعو كيري الى إستنفاد الوسائل السياسية والدبلوماسية ودور الامم المتحدة والتفاهم مع حلفاء أمريكا قبل المبادرة إضطرارا الى استعمال القوة.
من هنا تنبع اهمية إنتخابات الرئاسة الأمريكية . ذلك ان فوز بوش يعني مزيدا من هيمنة أمريكــا المحافظة ، فيما فوز كيري يعني ان أمريكا الليبرالية إستعادت المبادرة وانها في طريقها ، مرة اخرى ، الى تصحيح مسيرة العالم الجديد الذي أوشك ان يصبح قديما في قيمه وتقليديا في سياسته ومستبدا مع الآخرين بفضل رعونة المحافظين الجدد.