والإعلان عن استعداد للانسحاب من الجولان هدفه قطف ثمار عشرة أعوام من العمل الدؤوب مكنت الكيان الصهيوني من طي صفحة التفاوض الجماعي العربي الإسرائيلي كاعتراف ضمني بوجود صراع بين الطرفين، فمنذ وقع الفلسطينيون اتفاقية أوسلو فقدت القضية الفلسطينية بعدها العربي فعليا وأصبح المطروح تفاوضيا على كل دولة عربية توقيع اتفاق منفرد للحصول على حقوقها دون أن يرتبط ذلك بحل الصراع حلا نهائيا وهو ما كرسه الاتفاق الأردني في وادي عربة، وقد تلازم المسارين السوري واللبناني الاستثناء الوحيد من القاعدة. وبعد تفاهم نيسان 1996 بين إسرائيل وحزب الله لم تعد يد المقاومة اللبنانية مطلقة كما كانت قبلا وبتجاوز عقبة "مزارع شبعا" وهي عقبة يقال إنها موضوع ضغوط أمريكية على إسرائيل في هذه اللحظة سيكون من المحتم إعادة هيكلة وضع حزب الله على الساحة اللبنانية، وعلى الأرجح سيكون ذلك جزءا من عملية إعادة هيكلة أوسع للوضع اللبناني.
وقد رأيت في ذلك ارتباطا وثيقا بالدعوة الأمريكية للتحول الديموقراطي، فتبني النظام الرسمي العربي القول بأن التحول الديموقراطي مرهون بحل نهائي للقضية الفلسطينية سيدفع الولايات المتحدة لإبطال لهذه الحجة عبر "استدراج" سوريا ولبنان لاتفاق تسوية يجعل التهرب من مطالبات التحول الديموقراطي شديد الصعوبة بالنسبة للنظام السوري وغيره ، ذلك أن مثل هذا التحول سيعني حتما انتهاء احتكار حزب البعث للسلطة ومن ثم إعادة النظر في عروبة سورية وتأكيد تعدديتها ومنح حقوق سياسية أوسع للأقليات غير العربية وبخاصة الأكراد وهي تحولات تدرك سوريا أنها ستترتب على هذا الفخ ومن ثم ستكون مشكلتها الأكبر أن "تحبط" عملية إنضاج هذه التسوية دون أن تخسر دوليا وهي مهمة تبدو مستحيلة وبخاصة بعد وصول ملف التجديد لمجلس الأمن في سابقة على الأرجح لن تكون الأخيرة.
كنت قد أشرت في هذا اللقاء التلفزيوني إلى أن كيفية التعامل السوري مع ملف الاستحقاق الرئاسي اللبناني سيكون مؤشرا مهما على المسار المستقبلي لهذا النزال المعقد وهو ما أكدته الأحداث فعليا، فالجولان باب المخطط الصهيوني لكن مفتاحه في بيروت!!
لكن الأكثر أهمية في سياق فهم المستهدف صهيونيا من الملف اللبناني ما نشرته الشرق الأوسط اللندنية (7 – 9 – 2004) على لسان سيلفان شالوم وزير الخارجية الإسرائيلي مستخدمة تعبير "اعترف" لتشير إلى التناقض بين الخطاب العلني ومستهدفاته الحقيقية، وهو حسب الجريدة "اعترف بأن هدف الحملة الإسرائيلية على سوريا التي بدأت تستقطب تأييدا واسعا في الغرب هو إيجاد وضع يمكن فيه أن يوقع لبنان على اتفاق سلام مع إسرائيل". وسواء كانت الأفضلية في المخطط الصهيوني لتوقيع اتفاق مع سوريا أو لبنان أولا فإن الهدف من الحملة إعادة هيكلة وضع الدولتين معا على المستوى الداخلي، وعلى مستوى العلاقة بينهما وفي مقدمة قضايا العلاقة بينهما الوجود السوري في لبنان، وعلى مستوى الأدوار الإقليمية معا.
وهكذا فإن الترغيب بالاستعداد للانسحاب من الجولان والترهيب من ضربة عسكرية محتملة كلاهما يخدم هدفا واحد هو إعادة هيكلة الأوضاع في المنطقة وهو تصور لا ينفصل عن الأزمة في دارفور ولا عن الضغوط الكبيرة على عروبة المغرب العربي، وقد يكون الهروب للأمام الحل الأفضل في مثل هذا الحالة، فقيادة تحول ديموقراطي حقيقي من الداخل في سوريا سينزع فتيل الكثير من القنابل قبل أن تفاجأ القيادة السورية بان ظهرها للحائط.