بعد الاستماع للمناظرتين بين الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن ومرشح الحزب الجمهوري للرئاسة الأمركية للولاية الثانية والمرشح الديموقراطي السناتور جون كيري وكذلك المناظرة بين نائب الرئيس الحالي ديك تشيني والسيناتور جون إدواردز نائب الرئيس المرشح، لا يسع المراقب إلا أن يتساءل عن الفرق بين الجمهوريين والديموقراطيين في جميع المسائل المطروحة وخاصة ما يخص السياسة الخارجية. هل سياسات ومبادئ كل حزب ثابتة أو متغيرة بتغير المرشحين للرئاسة؟ وهل هناك فرق جوهري بين سياسات ومبادئ الحزبين؟ بعد الاستماع لما قاله المرشحان للرئاسة ومن تصريحات أصحاب القرار من كلا الحزبين، لقد تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود أو كما يقول المثل في بلاد الشام "بكرة عند ذوبان الثلج يِبان المرج." لقد تركز البحث بين المهتمين في الآونة الأخيرة على ما إذا كان هناك فرق بين المرشحين أنفسهم. والسؤال المطروح هو هل هناك فرق بين بوش وكيري؟ وهل سيكون هناك تغيير حقيقي وجوهري في السياسة الأمريكية إذا أصبح كيري رئيسا للولايات المتحدة؟ والأحرى أن يكون السؤال حول الحزبين وليس حول الأشخاص. لأن من يصنع القرار في أمريكا هو المؤسسات وليس الأشخاص. ويمكن أن نقول عموما أنّ دور الأشخاص هو تنفيذي على الأرجح. فلنتناول المسألة هنا إذن من جهة الحزبين الجمهوري والديموقراطي بغض النظر عن المرشحين للرئاسة. يتطلب ذلك العودة إلى السياسات الأمريكية عبر الرؤساء الأمريكيين السابقين منذ الرئيس ودرو ويلسون إلى يومنا هذا كي نستوضح الأمر فيما إذا كان هناك من فروق جوهرية تميز الحزبين عن بعضهما البعض.

فمنذ وصول ما يطلق عليهم "المحافظون الجدد" إلى مراكز صنع القرار ووسائل الإعلام منشغلة في داخل الولايات المتحد وخارجها بسياسة هذه الإدارة. لقد أغفلت وسائل الأعلام الحديث عن سياسات ومبادئ Manifesto الحزب الديموقراطي. فمثل ما كان هناك محافظون جدد كان هناك أيضا ديموقراطيون جدد. وعند سماع وقراءة سياسات وبيانات الطرفين، لا عجب أن نرى وجه الشبه بين سياسة المحافظين الجدد وسياسة الديموقراطيين الجدد كبيرا ومفزعا. فمشروع القرن الأمريكي الجديد الذي تبناه المحافظون الجدد الذي يهدف إلى بناء الإمبراطورية الأمريكية ومنع صعود أو نشوء أية قوة دولية توازيها وكذلك تشكيل نظام عالمي جديد بالشروط والمبادئ الأمريكية يتم تنفيذه بدقة وإصرار. فبعد أحداث 11\\9 تم اجتياح أفغانستان واحتلال العراق ومصادرة الحريات المدنية داخل أمريكا نفسها وتم تدشين حرب كونية على ما يسمى بـ"الإرهاب". وبدأ بوش يردد عبارته المشهورة كالببغاء:" من ليس معنا فهو ضدنا" وقسم العالم إلى فسطاطين أحدهما للخير والآخر للشر كما فعل أسامة بن لادن تماما.

فأين الحزب الديموقراطي من كل هذا؟ فهل تختلف مبادئ الحزب الديموقراطي عن تلك التي تقوم عليها سياسة بوش الابن وإدارته؟ وأين يقف المرشح الرئاسي الديموقراطي (جون كيري) من السياسات التي يمارسها الرئيس الجمهوري بوش الابن؟

لقد حاول الصحافي المعروف (جون بيلغر) شرح سياسة الحزب الديموقراطي في مناسبات عدة وفي مقالات عدة. لقد ذكر أن "معهد السياسات التقدمية" الذي يعتبر ذراع ما يسمى "مجلس قيادة الحزب الديموقراطي"، قام بعد وصول الرئيس الحالي بوش الابن إلى سدة الرئاسة مباشرة، بصياغة بيان "الديموقراطيين الجدد" الذي ضم كل المرشحين الرئيسيين للحزب وخاصة جون كيري. واعتمدوا استراتيجية تجعل الأمريكيين، في نظرهم، أكثر أمنا وأمانا مما يتصوره الجمهوريون في اتباعهم السياسة الأحادية الجانب التي نأت بالحلفاء التقليديين عن أمريكا. لقد اعتمدت استراتيجية "الديموقراطيين الجدد" الأساس الأخلاقي لقيادة الولايات المتحدة للعالم.

فما الفرق إذن بين مانيفيستو المحافظين الجدد ومانيفيستو الديموقراطيين الجدد؟ بصورة عامة وأولية، إن استبعدنا كل الشعارات الرنانة والعبارات الناعمة والتصريحات المطعمة بالفصاحة والبلاغة فلا فرق بينهما يذكر. فمثلا جميع مرشحي الرئاسة الديموقراطيين أيدوا الحرب على العراق ما عدا ،والحق يذكر، هوارد دين. جون كيري المرشح الحالي للحزب الديموقراطي لم يصوت لصالح الحرب فقط وإنما عبّر عن استيائه لأن الأمور لم تنفذ كما تم التخطيط لها. لم يدع كيرى أو غيره من المرشحين آنذاك إلى إنهاء الاحتلال الدامي وغير الأخلاقي عندما "ذاب الثلج وبان المرج" أي عندما تكشفت الحقائق وبانت الأكاذيب والأسباب الزائفة التي ذهب بوش وزبانيته إلى الحرب من أجلها. وكل يوم يأتي لنا بجديد عن أكاذيب هذه الإدارة. ورغم ذلك طالب جميع المرشحين بمن فيهم جون كيري آنذاك بإرسال قوات إضافية إلى العراق وطالب بإرسال 40 ألف جندي إضافي إلى العراق. لقد أيد استمرار الحرب والقتال في أفغانستان. وكذلك أيد خطط الإدارة الحالية لإعادة أمريكا اللاتينية إلى الحظيرة الأمريكية كما رأينا هذا جليا في التآمر على الديموقراطية في فنزويلا.

وفوق ذلك كله لم يقاوم كيري فكرة التفوق العسكري الأمريكي في العالم التي قادها الجمهوريون حتى بلغ عدد القواعد العسكرية أكثر من 750 قاعدة في العالم. وكذلك لم يعترض على سياسة الحروب الاستباقية التي دشنها المحافظون الجدد. وحتى أكثر الديموقراطيين ليبرالية، هوارد دين، قال بأنه سيكون جاهزا لاستخدام "قواتنا المسلحة الشجاعة" ضد "التهديد الفعلي" وهكذا طبق بوش الابن نفسه المقولة في أفغانستان والعراق.

وما يعترض عليه الديموقراطيون هو صراحة ووضوح وأمانة المحافظين الجدد وبوش مع أنفسهم. فهم يفعلون ما يقولون بأمانة وإخلاص ويصرحون بخططهم ومبادئهم ولا يعملون من وراء ستار الليبرالية الإمبريالية وسلطتها الأخلاقية كما يريد الديموقراطيون. فكل الديموقراطيين الجدد، بمن فيهم كيري، هم مع الإمبراطورية الأمريكية ولكنهم يهمسون هذه الكلمات همسا.

والقارئ لكتاب حملة جون كيري الانتخابية، يتبين مدى تطابق خطط المحافظين الجدد وخطط الديموقراطيين الجدد ولكن بلغتين مختلفتين. يأخذ كيري بإعلان مبادئ الديموقراطيين الجدد كلمة كلمة. فهو يقول لقد "حان الوقت" لإنعاش رؤية جريئة للتراث الذي يحترم تواصل الاستراتيجية الصليبية التي أوجدها ويدرو ويلسون وتيودور روزفلت وتلقفها هاري ترومان وجون كينيدي أثناء الحرب الباردة. هناك أفكار متماثلة تقريبا في الصفحة الثالثة من إعلان مبادئ الديموقراطيين الجدد: " ... نحن فخورون بتراث حزبنا في صلابته الدولية وسجله الحافل والقوي في الدفاع عن أمريكا. فالرؤساء ويدرو ويلسون وبنجامين فرانكين وتيودور روزفلت وهاري ترومان قادوا الولايات المتحدة إلى النصر في حربين عالميتين. وسياسات هاري ترومان انتصرت في الحرب الباردة. والرئيس جون كينيدي وصل إلى أعلى درجات التعهد بنجاح الحرية."

هذه أكاذيب تاريخية في توصيف أعمال الرؤساء الأمريكيين. لقد كان تدخل أمريكا في الحرب العالمية الأولى هامشيا. وتجاهلوا دور الاتحاد السوفياتي (سابقا) في الحرب العالمية الثانية. وكرّس جون كينيدي "الحرية" من خلال موت حوالي 3 ملايين إنسان في الهند الصينية.

وحاول كيري في كتاب حملته الانتخابية تبرير موت ملايين البشر على يد القوة العسكرية الأمريكية وعملائها في القرن العشرين وأنه ليس من الضروري الاهتمام بجرائم الحرب الأمريكية في فيتنام. وبذلك يكون كيري وجماعته في "الديموقراطيين الجدد" مثلهم مثل نظرائهم في البيت الأبيض. فلا فرق بينهم يذكر.

يشير إعلان مبادئ الديموقراطيين الجدد بوضوح إلى القوة العقلية العالمية التي بدأت بـ (ويدرو ويلسون)، المصاب بجنون العظمة، الذي اعتقد أن أمريكا اختارها الله لتهدي الأمم إلى سواء السبيل في هذا العالم. كما جاء في كتاب تشارلز جونسون (أحزان الإمبراطورية): " أثناء ولاية ويدرو ويلسون تم إرساء الأسس الثقافية للإمبريالية الأمريكية. وتيودور روزفلت تمثّل الإمبريالية العسكرية الأوروبية .."

إنها إدارة ويدرو ويلسون الديموقراطية التي مهدت لهاري ترومان بعد الحرب العالمية الثانية التي خلقت دولة "الأمن القومي" العسكرية وهو مهندس الحرب الباردة ووكالة الاستخبارات المركزية والبنتاغون ومجلس الأمن القومي. وكان أيضا هو أول رئيس يستخدم السلاح النووي على هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين. لقد سمح ترومان للجيش الأمريكي التدخل في أي مكان بحجة الدفاع عن العالم الحر. في سنة 1945 أسست إدارته البنك الدولي وصندوق النقد الدولي كعملاء للاقتصاد الأمريكي تتحكم في رقاب الفقراء في العالم حتى يومنا هذا. وغزا جون كينيدي، مستخدما اللغة الأخلاقية لويدرو ويلسون، فيتنام ونشر القوات الأمريكية في كل أنحاء العالم وحتى يومنا هذا.

لقد استفاد بوش من كل هذا. فالمحافظون الجدد لا يتحدرون من تراث الحزب الجمهوري ولكنهم في الحقيقة كانوا صقور الحزب الديموقراطي مثل هنري-سكوب-جاكسون راعي وباني صناعة الأسلحة. لقد بدأ (بول ولفوفيتز)، زعيم المحافظين الجدد ونائب وزير الدفاع الحالي، حياته السياسية بالعمل مع هنري جاكسون. وفي سنة 1972، ظهر الدليل على عقلية وسياسة الديموقراطيين المتشددة عندما تخلى الحزب عن مرشحه (جورج ماكغفرن) الذي أعلن موقفه ضد الحرب في فيتنام آنذاك أمام (ريتشارد نيكسون) الجمهوري الذي سحق جورج ماكغفرن في الانتخابات بفضل تخلي الحزب الديموقراطي عنه.

وفي عهد بيل كلينتون شطب مبدأ الرعاية الاجتماعية وازداد الفقر في أمريكا حدة. وكانت أكبر ميزانية تسلح في التاريح عندما بدأ مشروع حرب النجوم الذي كلّف بلايين الدولارات. رفض التقصي عن الأسلحة الجرثومية مع معاهدة الحد من اختبار الأسلحة النووية. رفض تأسيس المحكمة الجنائية الدولية وتحريم الألغام الأرضية. فهو على العكس من الأسطورة التي تضع اللوم كله على بوش الابن. لقد دمرت إدارة كلينتون فعليا حركة محاربة ظاهرة الاحتباس الحراري. بالإضافة إلى ذلك تم غزو هاييتي وأفغانستان وإحكام الحصار الجائر غير الشرعي على كوبا والعراق مع استمرار الضربات الجوية والصاروخية وعملية ثعلب الصحراء وموت ملايين الأطفال العراقيين نتيجة الحصار. في عهد كلينتون تم الهجوم على صربيا الذي أطلق عليه (العبور الأخلاقي). لقد ضرب قطاع النقل والمصانع والمستشفيات والمدارس والمتاحف والكنائس والمزارع إلى درجة أنهم لم يجدوا أهدافا ليقصفوها بعد أسبوعين من القصف الجوي المتواصل على حد قول السفير الكندي السابق في يوغوسلافيا (جميس بيسيت) وكل ذلك حصل باسم بناء الديموقراطية وحفظ السلام والتدخل الإنساني.

وأخيرا جون كيري أيد إسقاط ملايين الفقراء في أمريكا من قائمة الرعاية الاجتماعية وأيد عقوبة توسيع الإعدام. وكذلك أيد بوش الابن في حربه على العراق. إنه أيد ويؤيد إسرائيل في كل ما ذهبت إليه من قمع وتقتيل وتشريد وتهديم للفلسطينيين. فهو لا يختلف عن بوش وكل هؤلاء الذين أعدوا وعبّدوا الطريق لبوش الابن ابتداء من ويدرو ويلسون وصولا إلى بيل كلينتون. فالاختيار بين بوش وكيري كالاختيار بين بيبسي كولا وكوكا كولا. فهما وجهان لعملة واحدة للإمبراطورية الأمريكية.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية