باريس من الجادة الأولى إلى الجادة الخامسة والسبعين
صباح الخير ،
من الحيِّ اللاتيني إلى حيث السين وحيث فولتير وحيث شيراك الذي قدّم لنا أرض الملاذ ْ
صباح الخير أيتها الصديقة ،
أكتوبر فريد اليوم في ثلاثينه القلق، بيد أني أحمل لكِ يا باريسُ وأحملُ لتشرينكِ هذا تحية وقبلة عريضة، لا أدري إن كان فيها من النسب ما يجعلكِ اليوم بنتاً لعدنان وأختاً لقحطان وسيدةً أبهى من توشّحت بقيمة الإنسان،
لكِ من القدسِ أسواراً وكنائساً ، مساجداً وقناديلاً ، شوارعاً وأزقةً ، حماماً وحشرجاتٍ مختنقة ً في الحلوق والحناجرِ
ألفُ تحية وألف صباح الخير، من كل شبر من فلسطين التي رفعت راياتها وحملت إليها باقات زهورك وتراتيل محبتك وصداقتك وأنوار بيوتك ومفارقك
من الصديقة فلسطين شكرا بطعم الامتنان والعرفان لما استقبلت ولوديعتنا التي ستردين وأنت عليها مؤتمنة.
نسرنا العالي،
لا يأخذنَّكَ همٌ ولا غم ، فبعض الأصدقاء خير من الخال ومن العمّ ، باريسُ فسحة للمحبة ما كانت جداراً في معتقلكَ ولا قبلت أن تكون جداراً في مرضك.
لم يهزمكَ الوحشُ واقفاً فأنّى له أن يهزمكَ جالساً وفيكَ الآن من الإيمان ضعفين ، ولم ينل من عزيمة شعبكَ وأنت بينَ زهراتهِ وأشباله فكيف لهُ أن يجد منفذاً الآن وأنت فيهم ما بارحتَ وقد أضفت إلى روحِ الرمز روحَ القدوةِ والمثل.
احتاجوا إلى مرضكَ كي يخرجوكْ، واستعانوا بالمكرِ حتى يحرجوكْ، فما خرجت إلا عالياً الهامَ ومحاطاً بالمحبة والعزِّ قدمها أهلوكَ وبنوكْ ، فكانت عليهم لا لهم وتحت أمركَ من لو أمرتَ بالمحالِ لأطاعوكْ.
وما قدروا عليكَ وأنتَ من ورقِ صندوقِ الاقتراعِ قادم، فكيفَ يستطيعونَ معكَ نزالاً وأنتَ من مبايعة الروحِ والدمِ فائز ومقدمٌ على كلِّ نفيسٍ وغالٍ وصرتَ عندهم كلَّ خطوطِ الحرامِ والمحارمْ.
فلتهنأ بشعبكَ العظيم الوفيِّ المرابط ولتقرَّ عيناً بمن سيدخل المسجدَ معكَ كما دخلوهُ أوَّلَ مرةٍ في أجملِ المناشطْ
هذه فئة لا تزالُ وما زالتْ ، بعضها في الجبارينَ ما هانت ولا لانتْ، على الطريقِ للقدسِ بالملايينْ ، وما وهنتْ خلفَ خطاكَ في المؤمنينَ العاملينْ.
شعبٌ واحدٌ ، واحداً خلفكَ ، وواحداً معكَ، وواحداً بك، يدعو لك العلّيَ القديرَ صابراً وآملاً في الشافي المجيرْ.
صبحنا النديَّ،
صبّوا نيرانهم وحقدهم وعدوانهم على صفيحنا فالتهب واختنقْ ، وما احتملت صفائح دمكَ فداهمها الوهنُ والأرقْ ، وصارت صحائفهم سوداً لا مثيلَ لها في همجية من خلق ْ،
صبرت سنونكَ السبعين على كل ترحالٍ وشدٍّ للركائبْ ، وما احتملت خمسُها الأخيرةُ ما شهدت من الحصار والمصائبْ ، فصبرت لعلَّ وعسى أن يقف الجنونُ ويرتدَّ أولادُ الدمِ وأنسالُ المنون ْ، ويرقَّ لحالِ شعبكَ خلٌ أو بقيةٌ من قلبٍ حنونْ ، فما وجدت إلا نكراناً وغيَّاً قد سدر وآذناً سكنها الوقرْ ، ودنيا تعاشُ في محطةٍ خارجِ المنطقِ والعدل والخلقِ في أضيق العمرْ.
خيمتنا النافرةْ ،
قالوا عنكَ الرئيسَ الذي لا يمرضْ ، فصدقوا في الجوهرِ وإن ندَّت عمن شكّكَ أو أبغضْ
وقالوا عنكَ ما لم يقل في عطارةِ العجوزْ ، ونسواْ أنَّ العمرَ إن طالَ راكمَ الخبرةَ وحفظَ الكنوزْ ، وكيفَ تكونُ بغيرِ هذهِ ارجالُ والرموزْ
وقالوا تبدّلتِ الأرقامُ وأصبحت تقسمُ على الأصفارْ ، ونسوا أن كلَّ المعادلاتِ تصبحُ لاغيةً دونَ الختيارْ
وظنوا أنَّ الأيامَ حبلى بالتمائم ْ ، ففجعوا على بابِ المقاطعةِ إذ غلبتها الأسودُ من التوائم ْ
وأملوا ما أملهُ شيطانُ الحقدِ والحسدْ ، فخابوا فلستَ الأبترَ وكلُّ من يحملُ في جنبيهِ قلبُ فلسطينَ لكَ يستبقُ لتقبلهُ الولدْ
وهمسوا أن الكوفيةَ قد غادرت الرأسَ الحسيرْ ، ونسوا أنها قد أصبحت بحجمِ الجسدِ والقلبِ الكبيرْ
أبانا الذي على سرير الشفاءْ،
ثلاثاً ونعيدها ثلاثاً بعدكْ
حتى القدسِ ولو طالت الأسفارْ ، وتلكأت الدروبُ على طولِ المشوارْ
حفيظينَ معكَ على عهدةِ عمرْ ، في شعبنا وأرضنا ومقدساتنا وحقوقنا حتى النصرِ والظفرْ، مؤمنينَ بالقضاءِ والقدرْ
أجرٌ وعافيةٌ في رمضانْ ، يا سيّدَ الأبطالِ والفرسانْ
وطنكَ أرضُ الجدودِ والأسودْ وسيبقى وفياً لكَ ما دامَ في الدنيا خلودْ
لا بأسَ عليكَ يا أبا عمارْ
لا بأسَ عليكَ يا والدَ الرجالِ ويا صانعَ الأبطالْ
بانتظارِكَ أيها الفارسُ الأشمُّ فلا تترجلِ الآنَ ولا تطل السفرَ وأثابكَ اللهُ عن كلِّ وجعٍ وألمْ
ونحنُ على العهدِ باقينْ ، فالعهدُ هو العهدُ والقسمُ هو القسمُ ، لن نفرِّطَ ولن نلينْ
بيعةٌ إثر بيعةْ ، فاللهَ اللهَ يا ياسرُ ولكَ منا باقةُ وردٍ بكلِّ تنهيدةٍ ودمعةْ
واقفاً ولو كنت على جنبكَ ، لا ريحٌ هزّت ولا يهمُّ الكماةَ فهم على ثغرهم كما كنت بينهم وهم على عهدكْ
فإلى لقاء قريبْ يا أيها الوالدُ الحبيبْ