يوحي ظاهر الصراع في الولايات المتحدة هذه الأيام بانه تنافسٌ حاد بين شخصين : جورج بوش وجون كيري . لكنه في واقع الامر صراع محموم بين أميركا المتدينة وأميركا العلمانية او ، كما يحلو للبعض ان يسميه ، بين أميركا المحافظة وأميركا الليبرالية .
منذ أربعين عاما وأميركا المحافظة ، يقول جورج ولّ المعلّق السياسي المعروف ، تنهض وتصعد .. واذا قيض لبوش ان يفوز مع إنبلاج خيوط فجر الثالث من تشرين الثاني / نوفمبر المقبل ، فان سبعة من مجموع عشرة إنتخابات رئاسية تكون قد إنتهت الى فوز مرشحين من كاليفورنيا الجنوبية وتكساس – جميعهم جمهوريون – في مقابل ثلاثة فاز فيها ديمقراطيون من ولايتي جورجيا واركانسو. هذا الصعود المتواصل لأميركا المحافظة يشرح أسبابه الكاتبان البريطانيان جون مايكلويت وادريان وولدريدج ، من أسرة مجلة " ذي إيكونويست " الذائعة الصيت ، في كتابهما اللافت " امة اليمين " . فالولايات المتحدة ما فتئت تتجه الى اليمين بسبب عاملين أساسيين : التدّين المفرط لشعبها حتى درجة الشذوذ ، والتمدد الواسع لمراكز الأبحاث وغيرها من المؤسسات التي ترّكز على ما تسميه الانسجام مع القيم الأميركية وفي مقدمها التديّن الشديد .
يتوافق علماء السياسة على ان الولايات المتحدة هي مخترعة الديمقراطية العلمانية ومهدها الأول والأشهر . ومع ذلك فإن الظاهرة اللافتة في مشهدها الديني هي فيسفساء الأديان التي توجد فيها وتتكاثر. ففي إحصاء لموسوعة الديانات الأميركية ، نقع على 1586 جماعة دينية في الولايات المتحدة ، منها 700 تُعتبر غير تقليدية ، أي يتعـذر تصنيفها مذاهبَ في إطار الأديان العالمية التاريخية المعروفة . ليس غريبا ، والحال هذه ، ان تؤوي أميركا أكبر عدد من الكنائس في العالم ، بل ان تجعل من وسائل الأعلام ، كما تلاحظ بنباهة كريستين اوكرانت مؤلفة كتاب " بوش – كيري : الاميركاتان " ، كنائس عصرية !
بفعل ظاهرة التدين الشديد والمتصاعد هذه تحوّلت الولايات المتحدة من أقصاها الى أقصاها ، كما تقول اوكرانت ، حلبةً للمصارعة الحرة الانتخابية تُستخدم فيها أسلحة من القرون الوسطى : أبلسة الخصم ، تخوينه ، وتكفيره .
من يقف وراء توظيف فواعل التدين في عملية التعبئة السياسية المطلوبة للمعركة الانتخابية ؟ انه " اليمين اللاهوتي " ، وهو لقب فريق المحافظين الجدد الذي يتحكم بالبيت الأبيض مذّ دخله بوش قبل نحو أربع سنوات . فقد تحّول البيت الأبيض في عهد بوش ما يشبه معهدا لاهوتيا ، اذ يبدأ الرئيس الأميركي نهاره ، حسب اوكرانت ، بقراءة مقطع من الكتاب المقدس ، ويفتتح جلسات العمل بتلاوة الصلاة ، ويوعز الى مكاتب البيت الأبيض بدراسة النصوص المقدسة ، ويحرص على تضمين الخطابات الرئاسية الكثير من المقاطع الإنجيلية والتوراتية . هكذا يقدم بوش نفسه على انه رئيس متدين لأمة متدينة . ألم يجب ، عندما سئل وهو يتخذ قرار الحرب على العراق ، عما اذا كان استشار أباه في هذا الشأن : " ان أبي ليس هو الأب الذي أتضرع اليه كي يعطيني قوة ، بل ثمة أب أعلى هو من أتوجه اليها بابتهالاتي."
خلافا لبوش ، لا يفصح كيري – الكاثوليكي الإيمان – عن معتقداته الدينية .. لكن بعد اكتشافه مدى الشعبية التي يحظى بها خصمه الانتخابي بين المتدينين ، اخذ يستفيض علنا في الحديث عن عقيدته وعن دور الله في حياته ، مشددا على ان إيمانه بالله ساعده على مواجهة مأساة شخصية ..
غيـر ان مشكلة كيري الرئيسة ، في هذا المجال ، هي انه لا ينتمي الى البروتستانتية ، وهي عقيدة غالبية الأميركيين . ثم انه لا يستطيع الاعتماد على أصوات الأقلية الكاثوليكية – حوالي ربع عدد الأميركيين – لأن أطرافاً عدة في الكنيسة الكاثوليكية تعارضه بسبب موقفه الليبرالي المتساهل من قضايا أساسية في نظر الكنيسـة كتنظيم النسل ، وإباحة الإجهاض ، والمثلية الجنسية . حيال هذه القضايا ، ينقسم البروتستانت ، كما الكاثوليك ، بنسب تكاد تكون متكافئة . فالمحافظون لدى الجماعتين يميلون نحو معارضتها ، في حين يميل الليبراليون في كليهما الى غض النظر عنها . الأمر نفسه ينطبق على الناخبين اليهود اذْ يتخذون موقفا وسطا بين المعارضين والمتسامحين . اما الناخبون المسلمون فهم ضد التسامح حيالها بغالبيتهم الساحقة . غني عن البيان ان المتزمتيــن في الجماعات الدينية كافة- باستثناء المسلمين - يؤيدون بوش المعروف بتشدده حيالها . اما الليبراليون فيؤيدون كيري.
الى الإجهاض والمثلية الجنسية ، ثمة قضايا اخرى ينقسم حيالها الناخبون الأميركيون ، مثل الإرهاب والحرب على العراق والاقتصاد . في قضية الإرهاب ، يميل المحافظون في شتى الأحزاب وجماعات الضغط والطوائف الدينية الى تأييد بوش . فهو لا ينفك يعمل على تخويفهم من المنظمات الإرهابية عموما وجماعات العنـف الأعمى خصوصا ، زاعما ان إدارته كانت صارمة دائما في محاربة الإرهاب ، وان أميركا أكثر أمانا بل العالم اكثر أمنا بسبب سياسته وتدابيره المضادة للإرهاب ، داخليا وخارجيا . كيري يرد على مزاعمه بالتأكيد على فشل ادارته في محاربة الإرهاب بدليل انه تعاظم بعد حربه على أفغانستان والعراق . ولا يتردد كيري في القول انه سيكون اقدر على مواجهة الارهاب من بوش بالتعاون مع دول العالم التي لم يحسن الرئيس الأميركي التعاطي معها منذ هجمات 11 ايلول / سبتمبر 2001 . غير ان استطلاعات الرأي العام تشير الى ان الناخبين الأميركيين يمحضون بوش ثقتهم في قضية محاربة الإرهاب اكثر من كيري.
في قضية الحرب ضد العراق تتبدل نسبة التأييد للمرشحين المتنافسين . فقد أحسن كيري استغلال تعثر ادارة بوش في العثور على أسلحة الدمار الشامل في العراق ، وفشلها ايضا في إثبات علاقة نظام صدام بمنظمة " القاعدة " الأمر الذي انعكس سلبا على بوش . ولا شك في ان استمرار المقاومة العراقية للاحتلال الأميركي وتصعيدها عشية الانتخابات يخدمان كيري اكثر من بوش ويجتذبان أصوات معارضي الحرب والمتضررين منها من جهة والمتخوفين من احتمالات انعكاسها سلبا على حال الاقتصاد ، خصوصا بعد الارتفاع الكبير والمتزايد الذي طرأ على أسعار النفط ومشتقاته ، من جهة اخرى .
بالنسبة للاقتصاد ، لا يبـدو ان بوش افلح في تحريكه بطريق خفض الضرائب . فقد استفاد من الخفض الأثرياء دون متوسطي الدخل . كما ان ارتفاع أسعار النفط زاد من تكلفة السلع المصنعة مفوّتا على الصناعة الأميركية فرصة تكبير حصتها في الأسواق الخارجية بعد هبوط سعر الدولار بالمقارنة مع اليورو والليرة الاسترلينية والين. الى ذلك ، فقد أخفقت سياسة إدارة بوش في خلق وظائف جديدة الأمر الذي أبقى سوق العمل ضيقة ونسبة البطالة مرتفعة .
أياً ما كان تأثير العوامل السابقة الذكر على حظوظ بوش وكيري ، فإن ظاهرة التدين وانعكاساتها تبقى العامل الرئيس في تقرير مصير المعركة الانتخابية . على هذا الصعيد ، يستفيد بوش أكثر من كيري بالنظر الى صعود ظاهرة المحافظة المرتبطة بالتدين في كلا الحزبين . فالله تعالى يبدو شديد الحضور في المعركة الانتخابية ، وكل من المرشحين يزعم ان له صلة ما به ، لا سيما بوش الذي ادعى ، فور إعلان فوزه العام 2000 : " لقد تمّ اختياري بنعمة الله لأقود هذا البلد في هذه اللحظة " !
يرافق ظاهرة التدين الشديد شعور متنامٍ بالشوفينية . تجلى ذلك في إخفاق حملة جريدة " ذي غارديان " البريطانية الليبرالية لتنظيم تواصل عبر المحيط الأطلسي يؤدي الى إبراز مساوىء بوش والدعوة الى نبذه .. ماذا كانت ردة فعل ناخبي ولاية أوهايو ؟ الرفض والاستهجان والاستعلاء والتنديد بالقائمين على الحملة كونهم تدخلوا في ما لا يعنيهم .
يتحصل من هذا كله ان الشعب الأميركي يتجه بأطراد الى اليمين ، بل الى المحافظة المتطرفة ، لا سيما بعد هجمات 11 ايلول / سبتمبر واستغلالها على نحو بالغ الحدة لتخويف الأميركيين ولترويج ثقافة الحقد والكراهية والاستعلاء والابلسة . وفي هذا السياق يثابر أركان ادارة بوش في تعبئة المواطنين الأميركيين البسطاء في حرب مقدسة تأخذ طابع الحرب ضد الإسلام والمسلمين . أليس المسلمون هم مهندسو ومنفذو العمليات " الإرهابية " التي تجري في العراق وافغانستان وباكستان واندونيسيا وغيرها ؟
اذا سقط بوش فلأن ثمة عداء متنامٍ لشخصه ، وهزء بزلات لسانه ، وتندر بغبائه ، لكن ليس بطروحاته المحافظة وسلوكه اليميني المتطرف .
حتى لو سقط بوش ، فإن أمريكا المحافظة المتدينة ستفوز على أميركا الليبرالية العلمانية ، وسيتبدى ذلك في سلوك كيري ومواقفه وسياساته المراعية للمحافظة المتدينة في الداخل والخارج .

بكلمتين


يبدو الله تعالى شديد الحضور في انتخابات الرئاسة الاميركية ، وكل من بوش وكيري يزعم ان له صلة ما به ، لا سيما بوش الذي ادعى ، فور إعلان فوزه العام 2000 : " لقد تمّ اختياري بنعمة الله لأقود هذا البلد في هذه اللحظة " !

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية