إسرائيل في أزمة . إنها أزمة كيانية لا تتعلق بمسألة الانسحاب من قطاع غزه وحسب بل تتعلق ايضا ، وفي الدرجة الأولى ، بمسألة تعطيل دور الدولة بل إكراهها على تعطيل دورها في الحياة العامة تحت ضغط الأحزاب الدينية والمستوطنين الذين يريدون تغليب الدين والشريعة الدينية على علمانية الدولة وقوانينها الوضعية . لعل الموافقة على خطة شارون في الكنيست يوم الأربعاء 2004/10/26 منعطـف تاريخي في حياة إسرائيل . هي كذلك لأنها تشكّل ، وفق تعبير أشير سوسر ، مدير مركز موشه دايان لدراسات الشرق الأوسط ، " واحدة من أكثر اللحظات أهمية تاريخية في حياة إسرائيل منذ 1948 ، وبالتأكيد منذ 1967 . فالقضية الأساس ليست غزه بل افتتاح مناقشة رئيسة حول روح إسرائيل . ذلك لأننا لأول مرة منذ 1967 نطرح مسألة ماهوية إسرائيل ، وكيف يجب ان تُحكم ، وكيف يعرّف الإسرائيليون عن أنفسهم ؟ هل إسرائيل دولة ديمقراطية علمانية ، ام دولة تحكمها الشريعة الدينية اليهودية ؟ اننا نناقش حدود إسرائيل ، وقابليتها للبقاء على المدى الطويل ، بل نناقش ايضاً طبيعة الدولة اليهودية تحديداً " .
مع ذلك كله ، فات سوسر ان يقول ان الإجابة عن تلك الأسئلة تنطوي أيضاً على بحث جاد حول ما اذا كان الصراع بين المتدينين والمستوطنين من جهة والقوميين العلمانيين من جهة أخرى سيؤدي ، عاجلاً او آجلاً ، الى حرب أهلية .
الحقيقة ان حربا أهلية سياسية وليس دموية اندلعت مع إقرار خطة شارون في الكنيست . وهي طراز من الصراع حادٌ ومؤذٍّ قد يتسبب في قلب المشهد السياسي الإسرائيلي رأسا على عقب في خلال الأشهر ال 18 المقبلة التي تفصل الكيان الصهيوني عن الإنتخابات العامة القادمة . وفي هذه الأثناء قد تزداد المخاطر ، خصوصاً في حال غياب الرئيس ياسر عرفات وإتساع نفوذ الاجنحة العسكرية لمنظمات فتْح وحماس والجهاد الاسلامي .
غير ان إقرار خطة شارون وسط الصخب السياسي والشخصي الذي رافقها لا يعني ، بالضرورة ، انها ستنفذ . فاركان تكتل لكيود الحاكم ، وفي مقدمهم رئيس الحكومة السابق ووزير المالية الحالي بنيامين نتانياهو ، ما زالوا مصرين على إجراء إستفتاء شعبي على الخطة المذكورة ، يدعمهم في خيارهم ذاك أطراف عدة كالحزب الوطني الديني "المفدال" ، وحركـة " شاس " التي يتطلع شارون الى ضمها الى حكومته اذا ما قرر الاستقالة منها وزراء ينتمون الى ليكود او الى أحزاب حليفة مشاركة في الائتلاف الحاكم ..
مع ذلك ، فإن التحدي الأخطر الذي يواجه شارون هو حزبه بالذات . هل يتصدع وينشق على نفسه اذا ما قرر نتانياهو وأنصاره إقصاء شارون عن الحكم في حال أصرّ على عدم إجراء استفتاء ، او هل يتركون الحزب ويقيمون تكتلا جديدا في حال اخفقوا في إقصائه ؟
تحدٍ آخر يواجه شارون ، بل إسرائيل نظاما ودولة . انه السبيل الذي سيعتمده المستوطنون ، لا سيما المتدينون منهم ، اذا ما أصر رئيس الحكومة ومؤيدوه على تنفيذ خطته ميدانيا . هل سيلجأون الى إستخدام العنف ضد القوى الأمنية التي ستتولى مهمة التنفيذ ؟ وماذا سيكون موقف الجنود المتدينين في هذه الحال ؟ هل ينفذون أوامر ضباطهم ام أوامر الحاخامين الذين دعوهم ، جهارا نهارا ، الى عصيانها ؟
يجب عدم الإستخفاف بطرح هذا السؤال . فقد تمكنت المؤسسة الدينية الإسرائيلية منذ مدة طويلة من إختراق الجيش بإقامة مجموعة من المدارس الدينيــة " ياشيفوت " ضمن بنيته . لا احد يعرف عديد هؤلاء الجنود المتدينين ، وماذا يمكن ان يحدث اذا ما جرى إستخدام العنف واللجؤ الى وحدات الجيش لقمع المستوطنين المتمردين على ترتيبات إخلاء المستوطنات المقرر إخلاؤها .
المهم ان الصراع بين دعاة إخلاء المستوطنات ودعاة التمسك بها قد يتطور ويتجذر ويمكن ان يتفجر بأعمال عنف واضطرابات . ثمة مؤشرات في هذا السبيل تدل على ان نوازغ الاحتقان والتوتر والغضب والحقد بدأت تترجم نفسها بشعارات تُكتب على الجدران في القدس الغربية تقول: " قتلنا رابين وسنقتل شارون ايضـاً "، و " أي اغتيال سياسي سيواجه بالترحاب " .
يكافح شارون كي لا تصل التحديات والتحديات المضادة الى طريق اللاعودة . يتردد في هذا المجال ، ان امامه مخارج ثلاثة من الأزمة المتفاقمة: تمديد الوضع الراهن ، القبول بإجراء إستفتاء على خطته ، او الدعوة الى إنتخابات مبكرة.
لا يبدو خيار تمديد الوضع الراهن ممكنا او مقبولا . كما ان شارون سيحاذر إجراء انتخابات قبل الفراغ من تنفيذ خطته والترسمل على مكاسبها . وعليه ، فإن المخرج المتوقع سيكون ، على الأغلب ، القبول بطرح إقتراح الإستفتاء على الكنيست حيث توجد أكثرية معارضة له لا يقل عديدها عن 63 نائبا . بذلك يجري تنفيس الاحتقان والمحافظة على وحدة ليكود وتفادي سقوط الحكومة ..
فلسطينيا ، حقق شارون من خلال إقرار خطته غرضا بالغ الأهمية . انه التأسيس لفك الإرتباط بالفلسطينيين ، أقله في قطاع غزه ، على نحوٍ لا يعود معه مسؤولا عنهم سياسيا واقتصاديا ومعيشيا ، لكنه يبقى في مركز يمكنه من تطويقهم عسكريا والاعتداء عليهم اذا ما عاودوا ضرب المستوطنات المجاورة بعد تفكيك المستوطنات القائمة داخل القطاع . بعدها يتفرغ شارون لإجراء حال مماثلة في الضفة الغربية بعدما ضمّن خطته مشروع إنسحاب من أربع مستوطنات منها فقط . هذا يؤدي ، ربما ، الى ابتلاع جزء كبير من الضفة ويضع سكانها في مركز دقيق وبائس سياسيا وإقتصاديا ، ويفضي لاحقا الى هجرة سكانية متدرجة الى الأردن . أليس الأردن في أحلام شارون هو دولة الفلسطينيين ؟
من الصعب على شارون وغيره تنفيذ هذا المخطط الشرير من دون تكلفة باهظة للغاية . فالمقاومة ، في كل أنحاء فلسطين ستثور لمنع هذه الجريمة بحق الإنسانية . كما سيتحرك عرب الجوار ، بقدر ما يستطيعون ، للمشاركة في تعطيل تنفيذ المخطط الرهيب . فهل يكونون في مستوى هذه المهمة التاريخية ؟
الحقيقة ان حاضر الأمة العربية لا يبعث على التفاؤل أبداً. الاّ ان ثمة إشارات و بوادر تشير الى تطورات بازغة . ذلك ان صعود الأصولية الصهيونية ، متمثّلة أكثر ما يكون بالأحزاب الدينية ، وإحتمال ازدياد فعاليتها في المؤسسة السياسية والقوات المسلحة ، سيؤدي بالتأكيد الى حدوث ردود فعل مماثلة في دول الجوار الجغرافي العربية . ثمة تعبيرات وتحركات صدرت مؤخراً عن أوساط إسلامية في الأردن ومصر ولبنان تشير الى إحتمالات تصعيد سياسي وميداني في هذا السبيل. يشار في هذا المجال الى دعوة للعصيان أطلقها مؤخراً المفكر الاسلامي الرصين طارق البشري، المستشار السابق في مجلس الدولة المصري . واذا ما أخذت هذه الظاهرة بُعداً شموليا فإن الاضطراب السياسي سيعم العالم العربي .
كثير من الأمور يتوقف ، بطبيعة الحال ، على نتيجة الانتخابات الأمريكية وما اذا كان البيت الأبيض سيبقى في عهدة بوش ام انه سيؤول الى منافسه جون كيري . ذلك ان إستمرار الولايات المتحدة في إعتماد نهج الهيمنة والحرب الإستباقية وإعادة هيكلة المنطقة سياسيا وثقافيا سيؤدي ، لا محالة ، الى صبّ مزيدٍ من الزيت على نار الغضب والأحقاد الملتهبة ، وسيجعل الشرق الأوسط ساحة صراع عنيف ومديد.
الأيام حبلى بالأحداث ، وثمة دول وقيادات متعددة ستجد نفسها على مفترق طرق ، وقد دقت او كادت ساعة الحقيقة .