قطعاً، لا نغالي.. خاصة، إذا لاحظنا القرارين اللذين اتخذتهما الحكومة "الأمنية" الإسرائيلية، منذ أسابيع قليلة مضت.. فمن جهة، قررت تلك الحكومة الدفع بقوات عسكرية ـ جديدة ـ إلى قطاع غزة ومنطقتي وسط الضفة الغربية وشمالها، وتشديد عزل هذه المناطق، المحاصرة أصلاً.. هذا، قطعاً، بالإضافة إلى تلويح شارون الخاص بـ "طرد" الرئيس الفلسطيني، ياسر عرفات، باعتبار أنه لم يعد مهماً لإسرائيل(هذا، قبل "الوعكة الصحية" التي ألمت بالرئيس عرفات، مؤخراً). ورغم أن مثل تلك القرارات ليست "جديدة"، من حيث المضمون الفعلي، والعملي، للممارسات الإسرائيلية، على الأقل منذ تولي شارون رئاسة الحكومة هناك، في إسرائيل.. إلا أن الأمر، في ما يبدو، يحمل جديداً هذه المرة. إذ، لنا أن نتصور: ماذا يعنيه الإعلان، الواضح والصريح، بإمكانية "طرد" عرفات، بعد أن تم عزله ـ واقعياً ـ عن آية حركة إقليمية أو دولية، وكذا بعد الإعلان، أيضاً، عن القرار الإسرائيلي بإدراج "القوة 17" (التي يقع على عاتقها عبء الحراسة الشخصية للرئيس الفلسطيني)، والجناح العسكري لفصيل "فتح" التابع مباشرة لعرفات (بصفته النضالية)، على القائمة الإسرائيلية للمنظمات "الإرهابية" الفلسطينية (جنباً إلى جنب مع "حماس"، و"الجهاد").
ليس في الأمر، إذن، أية مغالاة.. فـ "المخطط الشاروني" ، كما تتضح ملامحه يوماً بعد يوم، يتوجه إلى ضرب أية مقومات، أو دعائم، يمكن أن تعتمد عليها "دولة فلسطينية" في المستقبل(...).
قولنا الأخير، هذا، يتأكد: إذا لاحظنا، من جهة، الرؤية الإسرائيلية في "فك الارتباط" مع الفلسطينيين؛ ولاحظنا، من جهة أخرى، الإصرار الشاروني على السير قدماً في تنفيذ "الجدار الفاصل..
والواقع، أن قرار الحكومة الإسرائيلية، الأخير، بـ "فك الارتباط" مع الفلسطينيين، أو: الانفصال عنهم من جانب واحد، إنما يمثل ـ في حقيقته ـ بدء مرحلة رئيسة ضمن مراحل المخطط الذي وضعته الحكومة الإسرائيلية الراهنة، حكومة شارون، لتكريس ضم الجزء الأكبر من الأراضي الفلسطينية، التي تم احتلالها في إثر عدوان العام 1967(؟!)..
ليس معنى هذا، أن هناك إجماعاً داخل الساحة السياسية الإسرائيلية على خطة شارون هذه، رغم نجاحه في تمريرها من خلال "الكنيست".. نعني: خطة "فك الارتباط"، إياها؛ بل، على العكس، إذ يكفي أن نشير، هنا، إلى ما قاله بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، بعد أن ألقى شارون خطابه في مؤتمر "هرتسليا"، قال: "إن مشكلة رئيس الحكومة تكمن في خياراته الضيقة، بين الحليف الإستراتيجي جورج بوش، وبين الصديق المؤثر في الانتخابات زئيف حفير، رئيس حركة الاستيطان [وهي حركة ترفض التنازل عن أي شبر من الأرض المصادرة، أو أي من المستوطنات، في سبيل إحراز تقدم على صعيد السياسة والأمن]..".
رغم ذلك، أو بالرغم من ما يبدو من خلاف، واضح، بين رئيسي وزراء إسرائيل، السابق والحالي، في ما يخص أمر المستوطنات؛ إلا أن الأمر الذي يبدو أن لا خلاف عليه، هو: ثنائية "الديوغرافيا ـ الجغرافيا".. فالمحرك الرئيس لخطة "فك الارتباط"، هذه، هي تلك الثنائية، أو بالأحرى: التخوف من نتائجها.
ففي كلمته أمام مؤتمر رجال الأعمال (في: منتصف ديسمبر الماضي)، تحدث شارون عن مخاوفه من طغيان الديموغرافيا على الجغرافيا، حيث أشار إلى: " أن الفلسطينيين سيتحولون إلى أكثرية داخل إسرائيل وحولها".. وأكد مخاوفه هذه عبر بعض الإحصاءات، موضحاً أنه: "في قطاع غزة ارتفع عدد الفلسطينيين إلى مليون وثلاثمئة ألف نسمة، كما ارتفع العدد في الضفة الغربية إلى مليونين و250 ألف نسمة"..
ولم يكتف شارون بهذه الأرقام، وإنما أردف بأن: "الإحصاء الأخير لسكان إسرائيل كشف عن وجود خمسة ملايين ونصف مليون يهودي، في مقابل وجود خمسة ملايين فلسطيني يعيشون في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية".
تقاربت الأرقام، إذن.. وتنامى الخوف الإسرائيلي من طغيان الديموغرافيا الفلسطينية على الجغرافيا التي تريدها إسرائيل.. ومن ثم، كان تكاتف الأحزاب الإسرائيلية حول "رفض حق العودة" للفلسطينيين (إذ أن عودة أربعة ملايين لاجئ إلى حيفا ويافا والمدن الفلسطينية الأخرى، سوف ينهي مشروع إسرائيل كـ "دولة يهودية").
ولكن، هل يستطيع "فك الارتباط"، بهذا الشكل الذي تريده الحكومة الإسرائيلية، حل المشكلة الديموغرافية(؟!).
ولعل هذا التساؤل، نفسه، يمكن صياغته على طريقة المعلق السياسي في جريدة "هاآرتس"، يسرائيل هرئيل، حيث قال: "إن منع العلاقات التجارية بين الشعبين لن تغير الواقع الديموغرافي في حال حصل الفلسطينيون على دولة، وأصبح في إمكان اللاجئين الانتقال إلى مجتمعهم الجديد".
هذا، وإن كان ينطبق على "فك الارتباط"، أو قل: "الانسحاب من جانب واحد"، الذي تنتوي الحكومة الإسرائيلية، الحالية، تنفيذه.. فهو، في الوقت نفسه، يطال مسألة "الجدار الفاصل" الذي شرعت الحكومة ذاتها في تنفيذه، وذلك كـ "خطوة أولى" من خطة "فك الارتباط"، إياها.
بيد أن هذا لا يعني أننا يمكن أن نصرف النظر عن التساؤل المركزي، الذي يطرح نفسه، أي: ما الذي يبتغيه شارون(؟!).
لعل التساؤل المطروح ينبني على ملاحظة جديرة بالتأمل والانتباه، في آن، تلك التي تتعلق باستمرار الحكومة الإسرائيلية، الحالية، في بناء "الجدار الفاصل"، خاصة وأنه يشير إلي قضية شائكة وشديدة التعقيد.. ربما لأن بداية هذه "الاستمرارية" كانت قد تواكبت مع توقيت الهدنة القائمة على وقف "العنف" بين "الفلسطينيين.. وإسرائيل"؛ وربما لأن هذه "الاستمرارية"، في الوقت نفسه، تعبر عن استهداف إسرائيلي وفرت له تلك الهدنة الفرصة لإنجازه.
يبدو ذلك بوضوح، إذا لاحظنا، من جهة، أن الحجة الإسرائيلية ـ في مواصلة بناء سور يفصل أراضي 1948 عن أراضي 1967، وبالتحديد يفصلها عن الضفة الغربية التي احتلتها مع قطاع غزة غداة حرب العام 1967 ـ هي: حماية أمن إسرائيل، عبر منع الفلسطينيين من عبور مدن وقرى الضفة والقيام بعمليات عسكرية في عمق إسرائيل.. ولاحظنا، من جهة أخرى، أن عملية بناء "السور ـ الجدار" قد ترافقت مع صدور قانون جديد في إسرائيل، يمنع الفلسطينيين المتزوجين من عرب يحملون الجنسية الإسرائيلية (عرب 1948)، من الحصول على الجنسية الإسرائيلية؛ وذلك تحت دعوى: أن ثلاثين إسرائيلياً قتلوا على يد فلسطينيين حصلوا على الجنسية ـ الإسرائيلية ـ من خلال الزواج.
إذن، الصورة التي تريد إسرائيل تقديمها كـ "مبرر" لقيامها بعملية بناء الجدار الفاصل، هي الاعتبارات الأمنية.. وبالتالي، دفع معالجة المسألة برمتها في اتجاه متابعة مسار الجدار، ومدى مطابقته للخطوط الفاصلة بين إسرائيل والضفة الغربية قبيل حرب يونيو 1967؛ وصرف النظر، من ثم، عن العوامل الكامنة وراء "الاستمرارية"، بل الإصرار، على بناء هذا الجدار.
في ما يعنيه، يعني هذا أن تناول عملية بناء الجدار الفاصل على الأرضية التي تريدها إسرائيل، التي تستخدم الاعتبارات الأمنية كـ "مبرر وحيد"، إنما هو تناول قاصر..
صحيح أن الاعتبارات الأمنية وراء بناء الجدار ـ وإصدار القانون، المشار إليه ـ هي اعتبارات حاضرة بقوة في المنظور الإسرائيلي.. ولكن يبقى من الصحيح، أيضاً، أن مثل هذه الاعتبارات أقل من أن تكون هي المحرك الرئيس؛ إذ أن العوامل الكامنة وراء البناء والإصدار هي اعتبارات أكثر عمقاً من ذلك.
يبدو هذا بوضوح، إذا عرفنا: أن إسرائيل، خلال العام قبل الماضي (2002)، كانت تنفق ما قيمته 2 مليون دولار على كل كيلو متر من الجدار.. كما يبدو بوضوح، في الوقت نفسه، إذا أخذنا التساؤل التالي في الاعتبار: لماذا تنفق إسرائيل هذه الأموال على هذا الجدار، في الوقت الذي توجد فيه خطة "سلام" يتبناها الرئيس الأمريكي جورج بوش، والمجموعة الدولية الرباعية(؟!). وإذا كان الاستهداف هو الاعتبارات الأمنية، كما يزعم شارون، وحكومته، أليس من المنطقي أن خطة "السلام" الأمريكية تقوم ـ بالأساس ـ على تحقيق هذه الاعتبارات(؟!).
هنا، لا نغالي إذا قلنا: أن عملية بناء "الجدار الفاصل" (التي بدأت في: أبريل 2002)، إنما ترتكز على استهداف مؤداه: أن يكون الجدار حائلاً دون وجود امتداد جغرافي لأراضي "الدولة الفلسطينية" المزعوم إقامتها..
ثمة أكثر من مؤشر، ذي دلالة، على مثل هذا القول..
من هذه المؤشرات: أن حجم الجدار وضخامته كاف لمعرفة أن الأمر لا يقتصر على مجرد إقامة حاجز فاصل لتحقيق الأمن؛ ناهيك عن ملاحظة أن الجانب الشرقي من الجدار، الذي سيمتد بمحاذاة الضفة الغربية لنهر الأردن، يكشف عن مخطط إسرائيلي لضم "الجانب الشرقي" من الضفة.
ومن هذه المؤشرات، أيضاً: أن الاستمرار في بناء الجدار سوف يوجد "واقعاً" على الأرض، يصعب تبديله في المستقبل؛ وهو، بالتالي، يعد بمثابة محاولة لترسيم الحدود من جانب واحد، على حساب الجانب الفلسطيني ودون موافقته، بحيث يضع هذا الأخير (الفلسطينيون) داخل "سجن" كبير؛ هذا في حال امتداد الجدار ليلف كل أراضي الضفة الغربية.
ومن هذه المؤشرات، كذلك: أن إقامة الجدار سيمكن إسرائيل من الاستيلاء على نسبة كبيرة من أراضي الضفة الغربية؛ وهو ـ بهذا الشكل ـ سيمكنها من تغيير الواقع الاقتصادي، بعد حرمان المزارعين الفلسطينيين من الوصول إلى أراضيهم، والحيلولة بينهم وبين استغلالها، ثم مصادرتها بـ "صورة قانونية"، اعتماداً على تطبيق إسرائيل لـ "القوانين العثمانية"، التي تعتبر أن الأراضي وقفاً ملكاً للوالي، وفي حالة عدم استغلالها لمدة ثلاث سنوات فإنها تصبح من حق هذا الأخير أو خليفته، أي حكومة إسرائيل (لاحظ أن ثلاثين ألف مزارع فلسطيني قد فقدوا أراضيهم، بعد ما أصبحت على الجانب الأخر من الجدار).
وفي ما يبدو، هكذا، فإن الدائرة المكونة من هذه المؤشرات الثلاثة، وغيرها، إنما تتمحور حول نقطة رئيسة، مفادها: أن عملية بناء الجدار الفاصل، تعبر عن نظام للإغلاق والتطويق والحصار، ويدخل ضمن مخطط سياسي واسع يهدف إلى تقسيم أواصل "الدولة الفلسطينية"..
ولكن، التقسيم في أي اتجاه(؟!).
منطقياً، التقسيم: في اتجاه مصادرة "حلم الفلسطينيون في إقامة دولتهم".. وهو ما كان، وما يزال، شارون يريده، كـ "هدف"؛ منذ أن كان وزيراً للمستوطنات في العام 1977، ومروراً بما قدمه في برنامجه الانتخابي، أثناء حملته للفوز بمنصب رئيس الوزراء في العام 1998، ثم في حملته للانتخابات التشريعية في العام 2003.
إنه "الهدف" الذي يتمحور حول إضعاف قدرة الكيان الفلسطيني الوليد، على امتلاك مقومات الاستقلال السياسي والاقتصادي، أو حتى قدرته على استيعاب اللاجئين الفلسطينيين.. وبالتالي، الوصول إلى تسوية نهائية تدعم الاحتلال الإسرائيلي، وتجعل يد إسرائيل هي الطولى في التأثير على التوازنات في ما يتعلق بالقوى الفلسطينية الداخلية، والتوازنات الديموغرافية، كتحصيل حاصل بين "إسرائيل.. والكيان الفلسطيني".
وهكذا.. فما نراه الآن من ملامح يتسم بها مسار المواجهة "الفلسطيني/الإسرائيلي"، إنما يعبر عن السعي الإسرائيلي إلى امتلاك أكبر عدد ممكن من الأوراق على الأرض قبل الحديث عن مفاوضات الحل النهائي.. وبكلمة، إجبار الجانب الفلسطيني على القبول بالتصورات "الإسرائيلية" لمسارات العملية التفاوضية، ومن ثم دفعه ـ عبر وضعه أمام الواقع ـ إلى القبول بتصوراتها للحل(...).
فإذا ما أضفنا إلى ذلك، اعتقاد شارون بوجوب بقاء الكتل الاستيطانية الضخمة في الضفة الغربية، وإصراره على إنجاز مشروع "القدس الكبرى"، وكذا الاحتفاظ بمصادر المياه، وخلق حزامين أمنيين إلى الغرب من نهر الأردن، وإلى الشرق من الخط الأخضر.. يمكننا التوصل إلى صلب رؤية شارون، ومحور ما يبتغيه راهناً؛ أو قل: نظريته في مستقبل الكيان الفلسطيني التي يمكن أن يوافق على ملامحها..
إنها: الجزر الفلسطينية "المعزولة.. و: المبعثرة".
بل يكفي، تأكيداً على ذلك، أن نلقي نظرة واحدة على الخارطة التي كانت قد نشرتها وسائل الإعلام العربية، وغير العربية، كافة، تلك: التي توضح المناطق الإسرائيلية والفلسطينية والمشتركة ( هذه الخارطة التي كانت قد نشرت في أعقاب التوقيع على اتفاق "واي ريفر").. وذلك لنتأكد من نظرية "الجزر المبعثرة".
وتأكيداً على التأكيد السابق، يكفي أن نلقي نظرة على الخارطة التي نشرت ضمن التقرير المطول، الذي قدمته مؤسسة "الشرق الأوسط" الأمريكية، عن خطة إسرائيل في بناء "الجدار الفاصل" (نشرت هذه الخارطة في جريدة الأهرام، 7 أغسطس الماضي).
لا.. بل لنتأكد أن محاولة شارون في تطبيق نظريته، سوف تؤدي إلى تقليص مساحة الكيان الفلسطيني المستقبلي بشكل كبير، ليس جغرافياً وحسب، ولكن سياسياً، أيضاً؛ إذ سوف يصبح من الصعب، وربما من المستحيل، إدارة هذه "الجزر" غير المرتبطة ببعضها البعض، أو السيطرة عليها، من قبل حكومة فلسطينية مركزية.
ترى.. هل نغالي، إذن، إذا قلنا: أن ما يتوجه إليه شارون، وحكومته، حالياً، هو وضع المرتكزات الأساسية لمستقبل الكيان الفلسطيني، الذي يتمحور من وجهة النظر الإسرائيلية، حول استهداف الجزر الفلسطينية "المعزولة.. و: المبعثرة"(؟!).
وبعد.. يبدو أن الهدف الإسرائيلي لن يتوقف عند حدود إضعاف قدرة الكيان الفلسطيني الوليد علي امتلاك مقومات الاستقلال السياسي والاقتصادي، أو حتى قدرته على استيعاب اللاجئين الفلسطينيين.. ولكنه يبتغي ما هو أبعد من ذلك.
يبتغي، إضعاف قدرة الكيان الفلسطيني الوليد على حماية القرى الفلسطينية عند خطوط التماس مع المستوطنات الإسرائيلية.. وبالتالي، الوصول إلى تسوية نهائية تدعم الاحتلال الإسرائيلي، وتجعل يد إسرائيل هي الطولي في التأثير على التوازنات، في ما يتعلق بالقوى الفلسطينية الداخلية، والتوازنات الديموغرافية، كتحصيل حاصل بين "إسرائيل.. والكيان الفلسطيني".