في زمن الهبوط والحبوط ، أقلعت طائرة بلا طيار لكن ليس بلا توجيه ووجهة ومسار. لم يكن الفعل المباغت هواية ولا غواية . كان فعل مقاومة بإمتياز ، بل فعل تصميم وإرادة وإشارة لافتة الى ولادة مرحلة جديدة في الصراع .
الإعلان جاء مفاجئا ومختصرا: " إن طائرة الاستطلاع " مرصاد -1 " التابعة للمقاومة الإسلامية نفذّت العاشرة والنصف صباحا أولى طلعاتها في أجواء شمال فلسطين المحتلة وقامت بالتحليق فوق المستعمرات الصهيونية وصولا الى مستعمرة نهاريا الساحلية ثم عادت الى قاعدتها بسلام ". في مساء اليوم نفسه مسحت إسرائيل عن أجهزتها غبار الذهول وأصدرت بيانـا : " هذا الصباح اخترقت طائرة إيرانية بلا طيار أطلقها تنظيم حزب الله الإرهابي أجواء إسرائيل في قطاع الجليل الغربي (...) هذا دليل إضافي على غياب رقابة الحكومة اللبنانية على الأنشطة المنطلقة من أراضيها ، ما يمكن ان يتسبب بأذى للبنان ومواطنيه ".
ما هي الرسالة التي أراد حزب الله توجيهها الى إسرائيل ؟ ومن وماذا تقصد إسرائيل من وراء بيانها ؟
لعل حزب الله أراد إصابـة عدة عصافير بطلقة واحدة . ان مجرد إطلاق طائرة ، ولو استطلاعية وبلا طيار وفي مواجهة إسرائيل ، هو بحد ذاته إنجاز كبير ومدوٍ . فهو ، على الصعيد التكنولوجي ، ارتقاء ملحوظ في القدرات التقنية للمقاومة الإسلامية . وهو ، على الصعيد العملاني ، تقدم باهر في تضليل أجهزة إستخبارات العدو ودفاعه الجوي من حيث القدرة على إطلاق الطائرة والتحكم بتحليقها فوق عدد من المستعمرات الصهيونية ومن ثم إعادتها الى قاعدتها بسلام . وهو ، على الصعيد الإعلامي ، ضربة موفقة أعادت المقاومة الإسلامية الى صدارة صانعي الأحداث في الشرق الأوسط والعالم . وهو ، على الصعيد المعنوي ، شحنة مترعة بكل مزايا التفوق والشجاعة والبطولة والصمود والتصميم على الجهاد حتى النصر.
غير ان أبرز معاني هذا الحَدَث الكبير اثنان : سياسي واستراتيجي . على الصعيد السياسي ، لَفَت الحدث العالم ، لا سيما الولايات المتحدة وإسرائيل عشية الهجوم الوحشي الواسع على الفلوجة ، الى ان ثمة قضية اخرى هي قضية فلسطين ما زالت حية ونابضة بالحركة والمفاجآت ، وان خطة جورج دبليو بوش بالانطلاق من العراق ، غداة إنتخابه لولاية ثانية ، لإنقاذ سياسته المتعثرة في المنطقة ولتهميش الانتفاضة في فلسطين وسط البلبلة التي تكتنف مصير الرئيس ياسر عرفات ، قد تتعثر هي الأخرى . فالمقاومة الإسلامية في لبنان ليست معنية فقط بتحرير منطقة شبعا اللبنانية من الاحتلال الإسرائيلي بل حريصة ايضا على قضية فلسطين من حيث تأكيد قيادة حزب الله على مشاركته القتالية اذا ما تطورت سياسة شارون العنصرية الى مرتبة وحشية أعلى تتمثل بمحاولة إبادة الشعب الفلسطيني او تهجيره القسري من دياره .
على الصعيد السياسي ايضا ، يجب الاّ يغيب عن ذهننا ان حليفتي حزب الله ، سوريه وإيران ، تتعرضان في الوقت الحاضر لحملتي ضغط شديدتين من طرف أميركا وأوروبا ، الأولى بغرض إكراهها على الانسحاب من لبنان والرضوخ لمطلب تجريد المقاومة الإسلامية من السلاح ، و الثانية بغرض إكراهها على التخلي عن برنامجها النووي . من هنا فإن إطلاق حزب الله الطائرة الاستطلاعية من شأنه تعزيز المركز السياسي والتفاوضي لكل من سوريه وإيران اللتين تتهمهما إسرائيل ، ومن ورائها أميركا ، بأنهما مصدر الدعم اللوجستي والعسكري للمقاومة الإسلامية . ذلك لأن قيادة حزب الله سبق لها ان أكدت اعتزامها خوض المعركة بلا تردد اذا ما تعرضت سوريه وإيران الى هجوم عسكري مباشر وواسع المدى من طرف إسرائيل وأميركا . ولا شك في ان المركز السياسي والتفاوضي لسوريه وإيران قد تعزز بحدث إطلاق الطائرة من حيث استطاعتهما الإيحاء عبره بقدرتهما على إلحاق الضرر باعدائهما . وهل من سبيل لفرض احترام سيادتهما وأمنهما على دولة كبرى واخرى مدعومة منها بلا حدود الاّ بإشعارهما بقدرة كلٍ منهما على ان ينفع او يضر في محيطه الإقليمي ؟
على الصعيد الاستراتيجي ، لَفَت حَدَث الطائرة الاستطلاعية العالم ، لا سيما الولايات المتحدة وإسرائيل ، الى ان التقدم الباهر الذي أحرزه حزب الله على المستويين التكنولوجي والعملاني قد يمكّنه ، الى جانب مخزونه من صواريخ كاتيوشا، من إستخدام طائرة " مرصاد -1 " او نسخة اكثر تطورا منها لنقل سلاح تدميري متطور وإطلاقه على مواقع ومنشآت ذات أهمية استراتيجية او صناعية في إسرائيل . في هذا السياق ، نتذكر ما سبق ان رددته أجهزة الإعلام العالمية ، عشية الحرب على العراق ، حول تخوّف القيادة المركزية الأميركية من حيازة العـــراق " القنبلة القذرة " واحتمال استخدامها ضد قواتها في الميدان .. والقنبلة القذرة هي عبارة عن قنبلة إشعاعية ذات قوة تدميرية متوسطة ، لكن ذات فعالية عالية ومؤثرة وواسعة في تعطيل وتمزيق وتعمية المرافق والمؤسسات والأجهزة والأشخاص . إذا كانت حرب أميركا على العراق العام 1991 دمرت قدراته التكنولوجية ، لا سيما في الميدان النووي ، وحالت دون تصنيعه قنبلة إشعاعية ، فإن إيران التي قطعت شوطاً محسوساً في تنفيذ برنامجها النووي قد تكون قادرة على تصنيع قنبلة إشعاعية وبالتالي على تزويد كل من سوريه والمقاومة الإسلامية بها لتعزيز قدرتهما الردعية .
يستبعد بعض الخبراء والمراقبين ان تكون إيران قد توصلت في برنامجها النووي الى حدّ تصنيع قنبلة إشعاعية . الواقع ان تصنيع هذه القنبلة ، كما يُستفاد من أقوال الخبراء أنفسهم ، ليس صعبا ولا يتطلب تكلفة عالية . مع ذلك ، و على إفتراض عدم قدرة إيران في هذا الميدان ، فان استحصال المقاومة الإسلامية على سلاح نووي أو إشعاعي ، بدائي او متطور ، ليس بالأمر الصعب. ها هو المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعي يؤكد أمام " مؤتمر سدني للانتشار النووي والإرهاب " وجود سوق كبيرة غير مشروعة للمواد النووية والمشعة ظهرت بعد هجمـــات 11 ايلول / سبتمبر 2001 ، " ذلك ان أكثـر من 24 شركة او فردا متورطون في بيع مواد نووية ، وأكثر من 60 واقعة تهريب لمواد نووية او مشعة متوقعة هذه السنة ". هل صعب ، والحال هذه ، على منظمات المقاومة في العالم العربي والإسلامي الاستحصال على مواد نووية او مشعة لتصنيع قنبلة إشعاعية لأهداف ردعية ؟
في ضوء هذا التحليل يستقيم الاستنتاج بان إطلاق طائرة " مرصاد -1 " لم يكن للرصد فقط بل للردع ايضا. انه رسالة الى أمريكا وإسرائيل مفادها ان المقاومة الإسلامية بات لديها من القـدرات العسكرية ما يمكّنها من إلحاق أذى مقلق بالكيان الصهيوني . بذلك يتعزز المركز السياسي والاستراتيجي لكل من سوريه وإيران وسط هذه الهجمة الأمريكية – الصهيونية الكاسرة على الانتفاضة الفلسطينية والمقاومة العراقية ..
لم تقل إسرائيل بعد كلمتها النهائية في شأن كل هذه التطورات المستجدة . لا شك في أنها أصيبت بإرتباك وذهول شديدين بعد إعلان المقاومة الإسلامية أمر طائرة الاستطلاع ومهمتها الموفقة . لذلك ستعطي اسرائيل نفسها الوقت الكافي للتحقيق في الإخفاق المدوي الذي وقعت فيه أجهزة استخباراتها ودفاعها الجوي في منطقة الحدود اللبنانية – الإسرائيلية قبل ان تستخلـص الدروس اللازمة وتضع في ضوئها خطة الرد المناسبة . هذا لا يمنعنا من محاولة توقع ما يمكن أن تقوم به في هذا المجال .. لعلها ستلجأ الى اتخاذ موقف سياسي متشدد من لبنان وسوريه أو تصعيد موقفها الحالي المتشدد أصلا. كما قد تلجأ الى تنفيذ اعتداء عسكري مؤثر على حزب الله او على سوريه او على الاثنين معا.
الى ذلك ، حرصت إسرائيل في بيانها حول حدث الطائرة الاستطلاعية على تفسيره بأنه " جزء من الأعمال الإرهابية التي يقودها حزب الله بدعم من إيران وسوريه ، وبغطاء من لبنان لاستهداف المدنيين الإسرائيليين ". بذلك تكون الأطراف الأربعة التي سمّتها هي المسؤولة عما حدث. فكيف يمكن أن يكون ردها عليها ؟
على الصعيد السياسي ستستغل إسرائيل قرار مجلس الأمن الرقم 1559 الذي دعا سوريا الى سحب قواتها من لبنان ، كما دعا لبنان الى حل جميع المليشيات الناشطة على أراضيه...ستستغل هذا القرار لتحريض مجتمع الدول ، لا سيما الولايات المتحدة وفرنسا ، على تذنيب سوريه وإعتبار وجودها العسكري في لبنان عاملاً رئيسا في دعم حزب الله وتشجيعه على مهاجمة إسرائيل . كما تأمل إسرائيل بأن يستجيب مجتمع الدول عموما وأميركا وفرنسا وبريطانيا خصوصا لحججها في هذا المجال وان تصعّد تالياً ضغوطها على سوريه بوسائل عدة – ربما من بينها عقوبات اقتصادية أكثر تشدداً – من أجل تسريع سحب قواتها من لبنان .
على الصعيد العسكري ، وانطلاقاً من اتهمامها لبنان بأنه يغطي على أنشطة حزب الله ضدها، ستقوم إسرائيل ، ربما ، بتوجيه ضربة مدروسة الى حزب الله مع التحسب لقوته الردعية المستجدة . ليس التحسب فقط بل الاتزان والتوازن ، لئلا تكون الضربة قاسية وبالتالي ضاغطة عليه ليردّ على نحوٍ قاسٍ مما يعطل أجندة حكومة شارون ، داخلياً وإقليمياً ، في الحاضر والمستقبل المنظور . الى ذلك ، يبدو حزب الله واثقاً من قدراته ومن قراءته للواقعين الدولي والإقليمـي . فمسؤول الإعلام المركزي في الحزب محمد عفيف حرص على القول ، غداة الحدث ، ان " الحزب يقرأ بدقة الظروف الدولية ومن بينها تداعيات القرار 1559 . لكن المجتمع الدولي فشل في منع إسرائيل من خرق الأجواء اللبنانية ".
حزب الله لا يراهن ، إذن ، على المجتمع الدولي ، ومثله سوريه وإيران . بقي ان نعرف ما اذا كانت إسرائيل قد فهمت من حدث الطائرة الاستطلاعية الرسالة الردعية التي أراد حزب الله إيصالها بطريقة خالية من العنف، وإن كانت غير خالية من التصميم على الردع.