سأقاتل حتى آخر قطرة من دمي) عبارة سمعناها كثيرا مذ اجتاحت القوات الاميركية العراق، سمعناها من زعامات مختلفة واطياف شتى، وفي مقامات متباينة وازمان متباعدة، لكن الواقع المرير زهدنا فيها وفي وجوه قائليها! فعند عرض المقال على قياس الافعال كانت النتيجة ان اصبحت تلك العبارة الجميلة عبارة ممقوتة كريهة لا لشيء سوى انها ظلت حبيسة عالم الشعارات لا تلامس ارضا ولا تقنع قلبا بل انها لسوء المتاجرة بها اضحت بحسب مشاهد الواقع: العبارة الموطئة لاستسلام مهين والمؤذنة بتقهقر سريع لما لحقها من مذمة الخلف وحيف الكذب على الرغم من انها عبارة شريفة تنضح بمعاني البطولة وتعبق بروح الرجولة، لكن من لطف الله بها انها عادت لتسترجع الكثير من صدقيتها الفقيدة على يد مجاهدي الفلوجة! انك لو تحررت قليلا من اسار الشخصنة وقيود الايديلوجية ودسائس الاعلام المضلل ونظرت لما يدور على ارضها بتجرد وشفافية فإنك لن تجد بدا من الاعتراف مختارا ـ او مجبرا ! ـ ببسالة اولئك النفر من المقاتلين ايا كان مشربهم قوميا ام اسلاميا او حتى بعثيا، فالبطولات لا تخضع لسلطان الجنسية واحتكار العصبية ومزاج الطائفية! هم رجال حقا، وهل نملك قولاً غير ذلك! فعلى مدى اسبوعين ويزيد ابدوا للعالم اجمع مقاومة شرسة عز نظيرها اكدت ان المقاتل العربي ـ المفترى عليه ـ شديد الشكيمة صلب العريكة لا يفت في عضده التقدم التكنولوجي المذهل للأسلحة الفتاكة الدقيقة وكثرة العدة والعدد لدى اعدائه، لقد كان سقوط الفلوجة امرا متوقعا ومنتظرا اذ كيف لخمسة آلاف مقاتل ـ على اكبر تقدير ـ لا يملكون دروعا ولا غطاء جويا ان يصمدوا امام قوة تضعفهم ثلاث مرات، ولديها من السلاح والعتاد ما لا يمكن وصفه، ويكفيك من ذلك انها تتصدى لرصاصة قناص بقذيفة دبابة! وتهد البيت على رأس من فيه ان شكت بوجود مقاتل وحيد فيه، ولعله من الظلم بمكان ان تشبه موقعة الفلوجة بمعركة ستالينغراد، ففي هذه المقارنة جور ظاهر يتجلى في اغفال جانب التفاوت الهائل كما وكيفا بين قوة الخصمين المتنازلين وهو ما لم يكن كذلك في ستالينغراد حيث كان المقاومون ينعمون بالامداد والدعم للصمود والمواجهة، واحسب ان ستالينغراد ما كانت لتكون ستالينغراد لو مال ميزان القوة لصالح الألمان كما يميل الآن للأميركان ولو بنصف المقدار!
كان الرهان في الفلوجة على المدة الزمنية التي يتمكن بها المقاومون من الصمود في وجه القوات الاميركية، فلم تك معركتها نزهة عسكرية سريعة كنزهة بغداد والنجف لقد كانت شيئا مختلفا جدا بشهادة الاميركيين انفسهم، وعلى الرغم من التعتيم الاعلامي المفروض على تغطية وقائع المعركة فإن صور الدمار الهائل والابنية المنسوفة والمآذن المستهدفة تعد شاهد صدق على ان المعركة بلغت الغاية في العنف والشراسة، وثمة مشهد مهمل لم تعبأ به الانباء كثيرا مع ما ينطوي عليه من دلالات عظيمة، وهو مشهد مجموعة من المتطوعين الذين نجحوا في اختراق الحصار الاميركي لدعم المقاومين عبر تسللهم للفلوجة من نهر الفرات في وقت حمي فيه وطيس القتال! ليت شعري من كان سيفكر بقذف نفسه في تلك المهلكة الرهيبة لولا انه يملك من الشجاعة والفداء ما يؤهله حقا لأن يقول بملء فيه (سأقاتل حتى آخر قطرة من دمي)!:
تأخرت استبقي الحياة فلم أجد
لنفسي حياة مثل ان اتقدما!

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية