ما دلالة الإشارة إلى "باراك" الآن(؟!).
أمام حشد من اليهود في الولايات المتحدة الأمريكية، قال إيهود باراك، وقت ما كان وزيراً لخارجية إسرائيل، وقبل أن يصبح رئيساً لوزرائها، في كلمة ألقاها: "إن إسرائيل تعيش داخل فيلا في الأحراش، وأن هذه الفيلا تتسم بالثراء وتحتوي على حضارة وتكنولوجيا، وخارج نافذة الفيلا تسري قوانين وقواعد أخرى مغايرة، حيث لا مكان أو حق للضعفاء".. وأشار في الاحتفال السنوي الذي أقامته المنظمة الرئيسة للاتحادات اليهودية بالولايات المتحدة الأمريكية، إلى أن: "المفاوضات التي تجري مع العرب، تتم من خلال موقف يتيح لإسرائيل مستوى مناورة سياسياً عالياً بالمقارنة بأية مرة سابقة".
وأضاف باراك قائلاً: "إن التغيير في التفكير العربي، ينبع أساساً من إدراك العالم العربي لقدرتنا، وأن لدينا قوة نووية".. ثم استطرد: "إن حلم كثيرين في العالم العربي لم يتغير، لكننا سنحافظ على قوتنا لكي نضمن أن العالم العربي سيحترم الاتفاقيات".
خطاب إيهود باراك في مديح "بلاده" والفخر بها، وهجاء البلدان العربية،والزراية بها.. يتلخص، إذن، في مقولتين أساسيتين.. الأولى: إن إسرائيل دولة ديموقراطية وسط دول مستبدة متخلفة؛ وهي، إذن، على حد تعبيره: "فيلا وسط أحراش"؛ الثانية: أن البلدان العربية خضعت لتسوية الصراع مع إسرائيل، بسبب قوتها التي تصل إلى حد امتلاك سلاح الردع النووي.
وإذا كان من الصحيح أن تصريحات إيهود باراك هذه، تكشف عن استمرار عقلية "الجيتو" ومدى هيمنتها على التفكير اليهودي، سواء كان خوفاً من المحيط كما حدث في أوروبا، أو تعالياً على هذا المحيط (الإقليمي)، وهو ما يقصده من وراء تصريحاته المشار إليها.. فإنه يبقى من الصحيح، أيضاً، أن مقولتي باراك هاتين إنما تعبران، وخاصة إذا ما أضفنا إليهما التصريحات الكثيرة، والمعروفة للكافة، سواء من نتنياهو رئيس الوزراء الذي سبقه، أو من شارون رئيس الوزراء الذي لحقه.. (تعبر) عن الصورة التي يكونها الجيل الراهن من السياسيين الإسرائيليين عن العالم العربي..
إنها الصورة التي تستلهم نموذج القوي في رسم صورة الآخر.. فالقوة، وغرورها، تسمح بإخراج صورة للآخر تتوافق مع منتجها، وما يود رؤيته في هذا الأخر. وهي، من ثم، ليست صورة واقعية تتلاءم مع الواقع، بقدر ما هي فكرة تتلاءم مع العقلية القائمة على الاستعلاء والتفوق.
بيد أننا نسارع إلى القول، هنا، بأن هذه العقلية (القائمة على الاستعلاء والتفوق)، هي النتيجة "المنطقية" للمحاولات المستمرة والسعي الدءوب من جانب "الإسرائيليين"، للتخلص من الأزمة والخوف، تلك التي تحركت في العقل الصهيوني "المستوطن" منذ لحظة النشأة الأولى.
فحين كان المجتمع الفلسطيني والعربي في اضعف الحالات (غداة: 1948 ـ 1949)، التفت ذلك العقل إلى أهمية مكون القوة، وبدأ التفكير بعدة شهور معدودة من قيام دولة في الرادع النووي.. وبالمناسبة، فإن رعاة المشروع النووي الإسرائيلي هم أنفسهم أول الداعين إلى البناء الإقليمي الجديد، القائلين بأهمية الحوار الثقافي "العربي ـ الإسرائيلي" (بيريز على رأسهم)، ولم يكن ذلك التفكير إلا عن وعي، يحسد عليه العقل الإسرائيلي الصهيوني، بكيف تتأتى الحياة للكيانات الاستيطانية في محيطها الإقليمي.
لكن، وأياً يكن الأمر.. فإن السؤال الذي يطرح نفسه، هنا، هو: إذا كان خطاب باراك حول "ديمقراطية إسرائيل" مجرد تعبير عن عملية الاستعلاء، هذه.. فهل حديثه عن قوة إسرائيل النووية، يمكن اعتباره شيئاً لا يستحق التوقف عنده من الجانب العربي(؟!).
تملك إسرائيل ترسانة نووية إستراتيجية؛ وتملك، على الأرجح، سلاحاً نووياً تكتيكياً والصواريخ والطائرات القادرة على حمل هذه الرؤوس.. يعني هذا: أنها تستطيع، نظرياً على الأقل، تدمير مدن عربية كثيرة، وضرب أي جيش يتقدم لتهديد وجودها.
لا بأس من التشديد على هذه الفكرة، لنتخيل فقط أن ما بين "200" إلى "300" مدينة عربية، يمكنها أن تباد أو تصاب بأضرار هائلة وقاتلة، في حالة اضطرار قادة إسرائيل إلى اتخاذ قرار بهذا المعنى.. ومغزى وجود الأسلحة النووية التكتيكية، أن القرب الجغرافي من إسرائيل لا يحول دون تدمير أي جيش أو تجمع عسكري، هذا ممكن من غير وصول الأشعة الذرية إلى إسرائيل.
لا نعتقد أن في ما نقوله جديداً.. لا، بل إن العالم كله يعرف هذا "السر الشائع" ويصمت عنه، إلا من حين إلى أخر ("السر" المعروف.. ربما قبل أن يقوم الفني مردخاي فاعنونو بفضح أسرار إسرائيل النووية، عندما التقط 60 صورة من داخل مفاعل ديمونة، وأعطاها لصحيفة "صنداي تايمز" البريطانية، في العام 1986، وقضي بسببها 17 عاماً في السجن، إلى أن أطلق سراحه في أبريل الماضي).. ولا تتردد الولايات المتحدة نفسها من الإشارة أحياناً، إلى الموضوع، خاصة عندما يتعلق الأمر بإقدام إسرائيل ـ لحسابات خاصة بها ـ على "بيع" تقنية نووية.
المفارقة هنا، أنه في حين يصبح الصمت الدولي بليغاً جداً، عند انتقال الحديث إلى ضرورة نزع أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط.. فقد خيضت في المقابل، حملات سياسية وإعلامية وعسكرية ضد الصواريخ العربية: العراقية (جرى تدميرها)، أو الليبية، أو السورية، أو السعودية؛ بل، تمارس الولايات المتحدة، وإلى حد ما الدول الغربية الأخرى، ضغوطاً كبيرة على البلدان التي يمكنها أن تصدر أسلحة متطورة إلى الشرق الأوسط (الصين، كوريا،...)، وأحياناً إلى غيره.. ولا تتردد الإدارة الأمريكية في افتعال أزمات حادة مع حكومات، لمجرد أنها ترفض تطبيق القانون الأمريكي حول الحظر، أو لأنها لا تلتزم بمعاهدات دولية لم توقع عليها.
في هذا السياق، يمكن ملاحظة نقطتين أساسيتين:
النقطة الأولى.. أن المسؤولين الإسرائيليين لا يترددون في الإعلان عن "أبوة" الشعار ـ الذي تتبناه الولايات المتحدة الأمريكية بحماس ـ والقائم على إلغاء معادلة "الأسلحة غير التقليدية العربية في مقابل السلاح النووي الإسرائيلي".. لا، بل نجحت واشنطن في تحقيق خطوات فعالة في هذا المجال، بحيث يمكن القول بأن الاحتياطي الذري الإسرائيلي بات خارج البحث، في حين أن المطروح فعلاً هو التقييد الفعلي على التسلح العربي، إلا في حدود حاجات مصانع السلاح الغربية والأمريكية أساساً.. ومن ثم، تضع إسرائيل ترسانتها النووية في ميزان العلاقة مع الولايات المتحدة..
بل، أن هذه الأخيرة قد طورت علاقاتها الإستراتيجية معها، وأشركتها في برامجها العسكرية الكبرى، بعد أن امتلكت الصواريخ المتوسطة المدى القادرة على تهديد منابع النفط "باكو".. وقد اضطر الاتحاد السوفياتي، يومها، على أخذ هذا الموضوع في الاعتبار في خططه الدفاعية، تماماً مثل ما أخذته الولايات المتحدة في حساب قوتها وقوة حلفائها.
النقطة الثانية... أن سياسات إسرائيل كـ "دولة" مبنية على هذا البعد النووي، ليس "التصلب" مجانياً، إذ أنه مستند إلى طمأنينة عميقة قد لا يعيشها الرأي العام الإسرائيلي، لكنها داخله في حسابات قادته السياسيين والعسكريين.. كذلك، فإن هذا البعد يوفر لإسرائيل القدرة على احتمال خلاف مع الولايات المتحدة نفسها، لأنها تدرك حجم قوتها.
وبالتالي، فإن توافر مثل هذا السلاح ـ النووي ـ هو الذي يسمح بالقول: أن إسرائيل هي، عسكرياً وإستراتيجياً، القوة الإقليمية العظمى في الشرق الأوسط.. يكفي للمرء أن يتصور كيف كان يمكن للتوازن الدولي أن يكون بعد الحرب الأوروبية الثانية (1939 ـ 1945)، لو لم ينجح الاتحاد السوفياتي، سريعاً، في امتلاك السلاح الرادع.
الخط المستقيم، الذي يمثل أقصر المسافات بين النقطتين السابقتين، يتعلق، ولا شك، بالملاحظة التالية: إن من أشد الأمور "غرابة" على الإطلاق، الغياب الكامل لهذه الفرضية الصحيحة، فرضية السلاح النووي الإسرائيلي، عن الأدب السياسي العربي.
نادرة جداً هي الكتابات العربية التي تربط بين مستقبل الصراع بين "العرب.. وإسرائيل" وبين امتلاك الطرف الإسرائيلي للقدرة ـ المؤكدة ـ على إلحاق تدمير مؤثر بالطرف العربي.. وعندما يرد الأمر، وهو يرد لماماً، فإنه يطرح كنوع من "التنديد" بالعدو، والتشبث بالرغبة "الساذجة" في "فضحه" أمام "الضمير العالمي"(؟!).
ويصل هذا الغياب الكامل إلى حد أن دعاة "السلام" مع إسرائيل، وكذا الموقعين معها على اتفاقات "تسوية"، تغافلوا عن هذه الحجة الثمينة في تبرير ما أقدموا عليه.. لم يعرف عن واحد منهم أنه ألقى خطاباً واحداً مخصصاً لطرح هذه القضية على شعبه، لم يحصل ذلك عند جماعة "السلام" لأنهم قدموا التسويات مع إسرائيل، بصفتها انتصارات لا يعقل لها أن تكون مؤسسة على هذا الخلل العميق في موازين القوى.
ملاحظة أخرى تتعلق بالموضوع.. إن من سعى إلى السلام هو كمن سعى إلى الحرب مع إسرائيل، رفض الاثنان إدخال العامل النووي الإسرائيلي في حساباتهم، أو على الأقل: في المعلن منها.. لم تغرس هذه الحقيقة في وجدان الرأي العام العربي، ليكون على بصيرة من قدرة الخصم، سواء أردنا محاربته أو تخوفنا من التعرض إلى إبادة وارتضينا تسويات غير مرضية.
قد يكون السبب في هذا "النسيان"، ربما، وجود قناعة ضمنية بأن هذا السلاح النووي مجرد خردة غير قابلة للاستخدام.. فهل هذا صحيح(؟!).
كلا.. ألف كلا.. إن الصراع بين "العرب.. وإسرائيل" هو الصراع الإقليمي الوحيد الذي وضع العالم غير مرة على شفير مواجهة نووية.. ويمكن الدفاع، بسهولة عن الأطروحة القائلة، بأن: إسرائيل لن تتردد في الاستخدام التدريجي لسلاحها النووي، في حال كانت مهددة ككيان.. غير ذلك، يعني أن تل أبيب بذلت الجهد الذي بذلته في مراكمة هذه الترسانة لمجرد "التباهي بها".
وإذا كان الإدراك، هو: "إعطاء معنى الشئ".. فإن الوعي، هو: "معرفة كيفية التعامل مع الشيء".. وبالتالي، فقد بات مطلوباً التعويض اليوم عن السنوات التي أمضيناها من غير إدخال العامل النووي الإسرائيلي في حساباتنا... ودون أن نجاوز الحقيقة، فقد أصبح تدمير هذه الدولة فوق المستطاع منذ تراكم أول "عشر" رؤوس نووية.. ومع ذلك لم تبن سياسات عربية على قاعدة امتلاك العدو هذه "القوة الرادعة".
لم يكن يفترض بذلك أن يقود إلى عدم المضي في بناء جيوش، أو إلى تغيير الأهداف القومية.. إنما كان يتوجب عليه أن يدفع نحو إعادة نظر راديكالية تماماً في إستراتيجية الصراع مع إسرائيل، وليس قي تسويات غير مرضية معها..
إن التشديد على هذه النقاط، أكثر من مهم.. إنه مدخل أساسي وحاسم في مشروع المواجهة العربية.. هذا المشروع القائم على فرضية: "أن طبيعة الصراع ـ رغم التسويات التي تمت ـ لابد أن تفرز غالباً ومغلوباً، ولو بعد فترة توازن مؤقتة، وأن سعينا هو أن نكون، نحن العرب، الغالبين.
يستدعى الحسم العربي، إذن، تصوراً يجمع بين الرغبة في حل جذري، وبين استحالة أن يكون الحل عسكرياً خالصاً.. ليس هذا التصور سوى بند على جدول أعمال النهضة العربية، وهو يتدرج من أدنى درجات الممانعة، راهناً، إلى أقصى حالات الضغط المتنوع الأشكال والمفتوح على أرحب الآفاق لاحقاً.
أما لماذا يجب أن يتم ذلك.. فذلك لسبب بسيط: وهو إن إسرائيل كيان ودور.. وكما يؤكد جوزيف سماحة في كتابه "سلام عابر، 1993".. "قد يكون التعايش مع الكيان صعباً بعض الشئ، إلا أنه ممكن، أما التعايش مع هذا الدور، فهو مستحيل؛ لأنه، بالضبط، دور عدواني لا يهدف إلى التوسع الجغرافي فحسب، بل، أساساً إلى تجبير المحيط العربي لصالح قوى أجنبية وتركه مستباحاً أمامها.. ولا مجال مع هذا الدور، للحديث عن مستقبل عربي يدير ظهره له.. لأن طبيعة الدور تقضي بعدم السماح بإدارة الظهر، من حيث أنها تتدخل ليس فقط للمشاركة في صياغة ذلك المستقبل، لتحديد وجهته ومضمونه على قاعدة إخضاعة لقوى أخرى، لنفوذها ولطموحاتها".