أعود إلى الكتابة بعد انقطاع قصير بداعي السفر حيث اكتفيت بالقراءة ومتابعة الأحداث ورصدها من خلال وسائل الإعلام العالمية والعربية. لقد أحجمت عن الكتابة في بادئ الأمر عن رحيل القائد الرمز ياسر عرفات لأني لم اتعود الكتابة عن قادة وزعماء أحياء أو أموات سواء كان ذلك نثرا أم شعرا. ولكن لعظم المصاب ولما يمثله القائد ياسر عرفات بالنسبة لنا سأخرج عن هذه القاعدة وسأحاول في هذه العجالة أن أدلي بشهادتي المتواضعة عن الرجل الذي قاد النضال الفلسطيني لعقود طويلة. أولا وقبل كل شيء، أتوجه لكل أبناء الشعب الفلسطيني في الشتات وفي الوطن بخالص العزاء في وفاة الأب والقائد والرمز ياسر عرفات رحمه الله. برحيل القائد ياسر عرفات رحل آخر زعيم تاريخي على الصعيدين الفلسطيني والعربي. لقد سئل أحد المحللين السياسيين في سي.إن.إن أثناء البث المباشر من رام الله يوم جنازة الرئيس عرفات هل هناك أي حاكم عربي سيحظى بمثل هذا الحشد الهائل وهذا التكريم وهذا الحب الذي حظي به عرفات؟ وكان الجواب بالطبع لا. لقد كان عرفات الزعيم الوحيد المنتخب ديموقراطيا ونال احترام شعبه حقا وارتبط اسمه بالقضية الفلسطينية لعشرات السنين. وبغض النظر عن اتفاقنا أو عدمه مع سياساته وتكتيكاته التي شابها بعض التساؤلات والغموض وبغض النظر عن أسلوب قيادته، يكفيه إنجازه العظيم الذي وضع القضية الفلسطينية على الخريطة السياسية العالمية وإحياء الهوية الوطنية الفلسطنية بعد أن قالت رئيسة وزراء العدو الصهيوني (غولدا مائير) يوما: لا يوجد شعب اسمه الشعب الفلسطيني. لقد كان ياسر عرفات مهندس ورمز الحركة الوطنية الفلسطينية الحديثة. لقد استطاعت منظمة التحرير الفلسطينية بقيادته أن تجد طريقها إلى معظم بلدان العالم وبلغ عدد الدول التي اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية أكبر من العدد الذي يعترف بالكيان الصهيوني. وباختصار لقد استطاعت المنظمة بقيادة الراحل ياسر عرفات أن تضع القضية الفلسطينية على سلم أولويات القضايا العالمية. وبقي عرفات المرجع السياسي لكل تشعبات ومداخل ومخارج المسألة الفلسطينية. ومن هنا لا ولن يستطيع أي فرد آخر أن يأخذ دوره ويتقمص شخصيته وأن يتجاوز ما رسمه عرفات من الحد الأدنى من الثوابت الفلسطينية مثل حق العودة للاجئين والقدس وإقامة الدولة المستقلة. لقد دفع حياته ثمنا لصموده ورفضه التنازل عن أي من هذه الثوابت. وكلنا نتذكر رفضه التنازل عن حق العودة والقدس في كامب ديفيد مما كلفه حياته ثمنا للرفض والصمود في المقاطعة.
وأما الآن وبعد رحيله فتح الباب واسعا أمام قيادة جماعية وأمام عودة منظمة التحرير الفلسطينية وإعادة بناء مؤسساتها على أساس ديموقراطي وأمام إحياء الميثاق الفلسطيني والعودة إلى شعار الدولة الديموقراطية الواحدة التي يتعايش فيها اليهود والعرب بحقوق وواجبات متساوية والمضي بالإصلاحات المتوخاة وترتيب البيت الفلسطينى. ولعل ذلك يكون العزاء الحقيفي للشعب الفلسطيني في هذه المرحلة الحرجة من تاريخه.لقد جاءت وفاته في هذه اللحظة التاريخية ثقيلة على أبناء الشعب الفلسطيني الذي تكالبت على نضاله قوى الشر والإثم والعدوان. لقد ترك فراغا كبيرا في أحلك الأوقات. لقد توفي وترك وراءه إرثا سياسيا واقتصاديا ثقيلا يحتاج جهودا استثنائية للتخلص من تبعاته.
لقد كثرت المراهنات على الاقتتال الداخلي والدخول في المهاترات السياسية ولكن الشعب خيب ظنون العدو وأظهر الشعب الفلسطيني في الشتات وفي الوطن تمسكه بالوحدة الوطنية والارتباط بالقضية والوطن. وعلى المسؤولين الاستجابة لنداءات هذا الشعب المناضل الصابر المحتسب المتمثلة في الحفاظ على الوحدة الوطنية ومواصلة النضال وإنجاز الأصلاحات التي يستحقها. إن الشعب الفلسطيني تفوق على قياداته في جميع المجالات وفي جميع الظروف وآن الأوان إلى أن ترتقي القيادة الفلسطينية إلى مستوى تضحيات الشعب. يجب تسخير كل الطاقات في ترتيب البيت وإعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية على قاعدة استمرار النضال والانتفاضة حتى التحرير والاستقلال. ويجب إنشاء قيادة وطنية موحدةتنبثق من منظمة التحرير الفلسطينية تكون المرجعية للسلطة ولكل المؤسسات الفلسطنيية.
إن الأجواء الحالية في فلسطين تعكس حالة تفاؤل وإيجابية ما عدا بعض الأصوات النشاز التي تحاول أن تجد لها موطئ قدم على الخريطة السياسية بالاصطياد في الماء العكر والتي تشكك بالنضال الفلسطيني وتلهث وراء سراب التسويات مع الكيان الصهيوني الغاصب. إنها أصوات لا بد من سقوطها إن آجلا أو عاجلا على الطريق وبلا شك سيلفظها الشعب وتنتهي في مزابل التاريخ.