في لبنان ، يدعو سياسيون معارضون ، هذه الايام ، الى إنجاز الإستقلال الثاني . انه ، في مفهومهم ، الاستقلال عن سوريه ، وطريقهم اليه قرار مجلس الأمن الرقم 1559 الذي ترعى تنفيذه الولايات المتحدة.
في العراق ، تجتاح القوات الاميركية المدن ، تقتيلاً وتدميراً ، بدعوى توفير الظروف المناسبة لإجراء إنتخابات نيابية ديمقراطية في 30 كانون الثاني / يناير المقبل. وهي رعت مؤتمر شرم الشيخ لتوفير دعم دولي لإجراء الانتخابات في ظل احتلالها البغيض لبلاد الرافدين . في فلسطين ، يطالب زعماء منظمة التحرير الولايات المتحدة بالضغط على إسرائيل لسحب قواتها من الضفة الغربية وقطاع غزه من أجل تمكين الفلسطينيين من إنتخاب رئيس لهم بديل من الرئيس الراحل ياسر عرفات.
ثمة لاعب مشترك في البلدان الثلاثة بل مرجع أجنبي نافذ ، يفتي ويملي ويمنح ويمنع ويفرض ويرفض. انه الوصي الاميركي .
هل من إستقلال حقيقي وديمقراطية صحيحة من صنع الاجنبي او في ظله وتحت اشرافه ؟
فلنستنطق وقائع التاريخ .
ثمة ظاهرة مزمنة في تاريخ العرب الوسيط والمعاصر هي تداخل الوجود الاجنبي بالوجود الوطني . فمذّ استولى المماليك في ديارنا على مقاليد السلطة لاكثر من 750 سنة خلّت واللاعبون الملتبسون في هويتهم ومراميهم هم أسياد الملعب السياسي والطبقة المسيطرة في الحياة العامة .
الراجح ان المماليك استعربوا ، كلهم او بعضهم ، فكانوا بسببٍ من وحدة الدين واللغة جزءا من النسيج الاجتماعي للمنطقة العربية ، وقد تحملوا مسؤولياتهم الوطنية بجدارة واقتدار ، وردوا عنها غوائل الفرنجة . غير أن وحدة الدين بين العرب والعثمانيين لم تنتج وحدة مجتمعية ربما لأن الخلافة التي إنتزعها العثمانيون من العرب لم تكن الاّ غطاء سياسيا . هل بلغكم أن اياً من سلاطين بني عثمان حجّ الى البيت الحرام ؟!
الاستعمار الأوروبي بشتى تلاوينه داهم المنطقة في أبان العهد العثماني(1516 م الى 1918م) اعتبارا من أواخر القرن الثامن عشر بحملة نابوليون بونابرت على مصر . ثم ما لبث ان أقام نقاط رسوٍ ومستعمرات في المغرب والمشرق منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر ، وتجذّر فيها خلال القرن العشرين ، ثم أعقبته القواعد العسكرية الأميركية ، وصولا الى إحتلال العراق مطلع القرن الحالي.
أجل ، منذ مئات السنين والوجود الأجنبي متداخل ، بشكل او بآخر ، بنسيج مجتمعـات المنطقة ، يلعب في ملاعب سياستها ، ويسهم في صنع مصيرها ، ويمسك بمضائقها من جبل طارق الى قناة السويس ، ومن باب المندب الى رأس مسندم ( هرمز ) . وبعد التحــكم بالمضائق ، سيطر المستعمرون الأجانب لاحقا علــى منابــع النفط ، ثم زرعوا الكيان الصهيوني في قلب المشرق العربي ومعه قواعد عسكرية في أقطارٍ عدة . وها هم عادوا اليوم بكل أحقادهم ومطامعهم وأحلامهم لاحتلال العراق وربما لاتخاذه ايضا نقطة وثوب الى أقطار اخرى.
بسبب هذا الوجود الاجنبي المتجذّر والمسيطر فان العرب ، في مختلف اقطارهم ، عجزوا عن اقامة دول حديثة في ربوعهم ربما لأنهم لم ينتزعوا استقلالهم بدمائهم وأرواحهم وعرق جبينهم بل حصلوا عليه ، فرادى مشتتين ، منحةً من مستعمريهم بموجب اتفاقية سايكس – بيكو او في اطار اقتسام مناطق النفوذ بين الدول الكبرى في الحربين العالميتين الاولى والثانية خلال القرن الماضي . وعندما يأتي الاستقلال منحةً او عطية يمتنع عن ان يكون قيمة . فالمرء يثمّن ويقدس ما يتعب في تحصيله وما يبذل الغالي والنفيس من اجل حمايته . اما ما يأتيه مجانا او عَرَضا او لا يتعب في سبيله فلا قيمة له عنده ولا حزن على فقده .
باستثناء الجزائر ، هل نال اي قطر عربي استقلاله بفضل حرب تحرير او بفعل مقاومة شعبية ؟ لو كان الاستقلال العربي مدفوع الثمن ، روحيا وماديا ، هل كان الحكام ، بعضهم على الأقل ، ليفّرط بالاستقلال وبدولة الاستقلال على النحو الذي نلاحظ في وطننا العربـي ؟ لو كان الاستقلال إنجازا صنعته دماء الاستقلاليين ، هل كانت دولة الاستقلال في ديارنا لتكون على هذا القدر من الضعف ، المغري للطامعين الأجانب ليعودوا اليها غازين محتلين ؟
لنتصارح : العرب ليسوا في حال استقلال اليوم بل هم أشبه ما يكونون في حال حكم ذاتي .
عندما يكون للطامعين الاجانب كل هذه الادوار والنفوذ والقواعد في ديارنا فان ارادتنا تكون معطلة او مشلولة او حتى مكسورة . فالاستقلال هو ، في التحليل الاخير ، حرية ارادة وفعل سيادة ، فأين نحن من هذه وتلك ؟
لأننا غير مستقلين فقد اصبحنا غير ديمقراطيين . ذلك ان القوة الاجنبية التـي اعطتنا استقلالا منقوصا ومرتهنا ، اعطتنا ايضا نظام حكم مصطنعا ومستوردا ، لا صلة له بقيمنا وخصوصياتنا وحاجاتنا ومصالحنا . لقد تخيّرت لنا انظمة مستمدة من انظمتها ، مكتفيةً بالشكل منها دون الجوهر ، بالشعائر دون الشرائع ، بالمناصب دون المؤسسات . ثم انها وضعت ، فوق ذلك ، في سدة الحكم ، معظم الأحيان ، بعضا من انصارهـا ووكلائهـا لينوبوا عنها ، فمــاذا كانــت النتيجة ؟ بالغ الوكيل في الامتثال لارادة " الاصيل " ، فتضررت مصالح البلاد وتعمقّت طبائع الاستبداد ، واستشرى الفساد حتى اضحى طريقة حياة.
الحقيقة أن الاستقلال لا يُمنح بل ينتزع انتزاعا . هذا هو درس التاريخ . والديمقراطية لا تستورد شأن السلع والبضائع بل تبنى لبنة لبنة بفكر ابناء الوطن وخبراتهم وفي ضؤ تقاليدهم وحاجاتهم وصبواتهم . هذه هي حصيلة التجارب الديمقراطية الناجحة في التاريخ المعاصر.
من هنا يستقيم القول ان البلدان العربية في غالبيتها مدعوة الى إعادة تأسيس استقلالها وإعادة بناء نظامها الديمقراطي بتحرير إرادتها من سيطرة الأجانب المستعمرين او المهيمنين ومن سؤ إدارة وفساد الوكلاء المحليين .
كيف السبيل ؟ لا أمل في معظم الأنظمة السائدة ، فغالبيتها إما تابعة او عاجزة . فالتابع يتبع المتبوع ، والمتبوع يريد للتابع الخضوع وليس النهوض . والعاجز يجّـتر عجزه ابد الدهر بل لعله يتلذذ به الى ان يقضي الله امرا كان مفعولا. من هنا فان الامل معقود على الشعوب . فهي صاحبة المصلحة في التغيّر والتحرر والتطور وإمتلاك ارادة التقرير لدفع الظلم واحقاق الحق وتحقيق المصالح والمنافع ونشر الخير العام .
الشعوب ليست غافلة عن حقوقها وواجباتها . فقد اصبحت على قدر من الوعي والمعرفة بفضل الثورة المتسارعة في أجهزة التواصل والاتصالات وتكنولوجيا المعلوماتية والاعلام . وهي اذْ تتحرك في جميع عواصم القرار والحواضر الكبرى ، تزداد قوةً بانعكاس تحركاتها في مرايا وسائط الاعلام والاتصالات . صحيح إن الدول والسلطات المعادية لحريات الشعوب وحقوقها قوية وكاسرة وتميل موازين القوى لمصلحتها على نحوٍ كاسح ، لكن موازين الارادات لدى الشعوب ، خاصة عندما يتم استنفارها وتعبئتها ، أفعل من موازين القوى وأقدر على بلوغ الاهداف وتحقيق المطالب.
لعل من مفارقات عقيدة الامن القومي الامريكي التي دخلت حّيز التنفيذ بعد 2002/9/20 انها ، خلافا لما كانت عليه في الماضي ، لم تبقَ مساندة ، بالضرورة ، للانظمة التقليديـة المؤيدة لها اقليميا ودوليا . فالانظمة التقليدية تنطوي ، في نظر اركان ادارة جورج بوش وزمرة " المحافظين الجدد " ، على عقائد ومناهج اصولية معادية للولايات المتحدة او على فساد وانتهاكات من شأنها توليد عناصر " ارهابية " كالتي نفذت عمليات 11 ايلول / سبتمبر 2001 . من هنا ينبع ميل ادارة بوش الى الضغط على تلك الانظمة لاحداث تغييرات محسوسة في برامجها التعليمية وحتى في مؤسساتها السياسية لمواكبة العصر وقيم العولمة بما هي الامركة . ولا تتردد ادارة بوش في اعتماد نهج " تغيير النظام " اذا ما لمست تلكؤاً لدى الانظمة التقليدية المستهدفة في اقتبال ما يطلب اليها من تغييرات منهجية او مضمونية .
ان استهداف الولايات المتحدة الانظمة كما الشعوب بدعوى حماية أمنها القومي يعطي أنصار الرهان على الشعوب في مواجهة المشروع الامبراطوري الامريكي حجة اضافية . فطالما الانظمة معادية للديمقراطية من جهة وامريكا غير راضية عنها من جهة اخرى ، فلا يبقى امام الشعوب لتحقيق اهدافها ومطالبها – وفي طليعتها الديمقراطية – الاّ اللجؤ الى نهج او استراتيجية الممانعة والمقاطعة والمقاومة .
الممانعة هي الرفض السلوكي والاجرائي للسياسات التي يعتمدها نظام الحكم المشكو منه . في مصر ، مثلا ، وقّعت الحكومة معاهدة صلـح مع اسرائيل ، فما كان من الشعب المصري الرافض للصلح مع العدو الاّ ان باشر ، سلوكيـا وميدانيا ، سياسة رفض التطبيع بكل اشكاله ، فما استطاعت الحكومات المتعاقبة المصرية – وبعضها لم يحاول اصلا – منعه من ذلك .
المقاطعة هي الامتناع عن شراء السلع والمنتوجات التي يصنعها العدو او استهلاكها . في كثير من الاقطار العربية ، يمتنع المواطنون من تلقاء انفسهم او تلبيةً لنداء منظمات مقاطعة اسرائيل عن شراء المنتوجات الاسرائيلية والامريكية او استهلاكها ، فما استطاعت الحكومات القائمة ، بصرف النظر عن موقفها من مبدأ المقاطعة ، ان تحول بين المقاطعين وتنفيذ مقاطعتهم لمنتوجات الدولتين المعاديتين للحقوق العربية .
المقاومة هي الكفاح المدني ضد سياسة حكومة العدو وتدابيرها الاقتصادية والاجتماعية ، وهي قد تصل الى حد ممارسة العصيان المدني ضدها كالامتناع عن دفع الضرائب . كما تعني المقاومةُ الكفاحَ المسلح ، في اطار الدفاع عن النفس ، ضد قوات العدو ومؤسساته العسكرية والاقتصادية بقصد استنزافه وحمله على وقف اعتداءاته وتنكيله بافراد الشعب وقيامه بتدمير مؤسساتهم الاقتصادية والاجتماعية . في فلسطين ، مارس الشعب المقاومة المدنية والمقاومة المسلحة وما زال ، وقد اخفق العدو في وقفهما رغم كل الحملات والاجتياحات التي قام بها ضد المواطنين الآمنين في المخيمات والمدن والقرى . في العراق ، يحدث الأمر نفسه .
من خلال نهج المقاومة وثقافة المقاومة وديمقراطية المقاومة ، تمارس أوسع القواعد الشعبية الواعية والمعبأة فعل الكفاح ضد العدو ، فتنتزع بذلك حريتها واستقلالها انتزاعا كحق شرعي لا يقبل التصرف ، وتصنع بالمشاركة الشعبية اليومية قواعد ديمقراطيتها النابعة من تجربتها ومن حاجاتها وصبواتها .
لم يبقَ للشعوب الاّ نفسها . انها الغاية والوسيلة في آن ، وقد دقت ساعة الفعل .