الجميع مع المفاوضات : أمريكا والاتحاد الأوروبي والفلسطينيون وسوريه وإيران ، الاّ اسرائيل ، فهي وحدها مازالت متحفظة حيالها الى إشعار آخر.
مناخ الحوار والمرونة هذا ليس سببه وفاة ياسر عرفات وتوافر فرصة للأخذ والعطاء ، كما يـقولون . ثمة أسباب أخرى تتعلق بكل طرف من الأطراف المتصارعة في المنطقة . أمريكا ، مثلا، لها أسبابها ودوافعها ، بدءا من العراق إنتهاء بلبنان ، مرورا بفلسطين وسوريه . لعل ورطتها في العراق هي الدافع الأساس لإشاعة جو من الإعتدال المفاجىء في مقاربتها لكل القضايا العالقة .
ماذا عن أمريكا في العراق ؟ انها تغرق في رماله يوما بعد يوم . كانت تظن ان مفتاح السيطرة على الأوضاع هو في إخضاع ما تسميه " المثلث السني " في وسط العراق ، حتى اذا باشرت مهمتها المستحيلة في بعقوبة عادت الفلّوجة الى المواجهة . واذْ حشدت القوات لإقتحام الفلوجة وتدميرها ، قامت الموصل الى قتالها بضراوة ومثابرة . وبينما هي توشك على إعلان إخضاع المتمردين في الشمال ، يعود أهل بغداد الى مقاتلتها بهمة ونشاط . ثم لا يلبث مصطلح آخر ان يطغى في لغة إعلامها المأزوم . انه " ارض الموت " جنوب بغداد وصولا الى أطراف الحلّة حيث تقوم مجموعة بلدات يفتك رجالها بجنودها وجنود بريطانيا التي كانت عظمى وتخلّت عن عظمتها بصمت أمام المقاومة بدءاً من البصرة وصولا الى أبواب الفلّوجة.
الظاهرة اللافتة في ممارسة أمريكا المكلفة في العراق هي انه بمقدار ما " تنتصر " على المقاومـة ، بمقدار ما يتزايد العداء لها فتزداد المقاومة ضراوة وإتساعا. للخروج من هذه الورطة ، قررت إدارة بوش في طبعتها المنقحة تعجيل الخروج من الرمال العراقية المتحركة . هذا يستلزم تأمين إجراء الإنتخابات كباب للمخرج المأمول . وعندما حاول اياد علاوي وحزبه مع رهط من الأحزاب ذات الطابع السني المزعوم تأجيل موعد الانتخابات ، ردّ جورج بوش شخصيا بأن لا بحث في الموضوع . فالانتخابات ستجري ، بالتأكيد ، في موعدها المقرر أواخر كانون الثاني / يناير المقبل.
ثم ان أميركا ما زالت متورطة في أفغانستان ، وتوحي مواقفها المتصلبة بأنها في سبيل مزيد مـن الإنشغال بالملف النووي الإيراني . لا مندوحة ، اذاً ، من تخفيف الأعباء لئلا تنؤ تحتها . من هنا برز اتجاه في واشنطن يرمي الى إشاعة جو من الاعتدال والمرونة والرغبة في العودة الى الحوار حيث يمكن الحوار.
أول من إلتقط كرة الإعتدال والحوار إيران . فهي مهجوسة بملفها النووي وتكافح لئلا ترفعه أمريكا الى مجلس الأمن الدولي فيزداد الضغط عليها . لذا سارعت الى تقديم بعض التنازلات الى الاتحاد الأوروبي لتضمن موافقته على إتفاق مبدئي حول تعليق تخصيب اليورانيوم من دون المساس بإنتاج البلوتونيوم . كل ذلك املاً بتنفيس الضغط الأمريكي والتقاط الأنفاس في مجابهـةٍ يبدو انها ستكون طويلة ومعقدة . في هذا الإطار أيضا أغرت طهران واشنطن بتنازل آخر هو في الواقع مجرد تسهيل مهمة تعود عليها بمكاسب جمة بعد إنجازها . فقد دعا سيد محمد خاتمي الى إجراء الانتخابات العراقية دونما تأجيل . ولماذا لا يدعو خاتمي الى إجراء الانتخابات طالما يظّن انها ستؤول الى حصول الشيعة على غالبية المقاعد ، فتضمن إيران لنفسها نفوذا محسوسا في بلاد الرافدين وربما دورا في إدارتها بموازاة أمريكا.
في فلسطين ، وجدت شريحة القيادات التي يقتضي ان يرث اثنان او اكثر من أفرادها المناصب المفتاحية التي تركها الرئيس الراحل ، وجدت نفسها امام استحقاق ماثل لا سبيل الى تأجيله . هذا يستلزم ضمان إجراء انتخابات رئاسية ، بل يستلزم إجراءها بسلام تفاديا لصراع او فوضى توديان بمستقبل الدولة المزمع إستخلاصها من قبضة الصهاينة . في هذا الإطار، عاد ابو مازن الى التودد لشارون ، متمنيا لقاءه بعد إجراء الانتخابـات ، وراجيا تسهيل العملية الانتخابية بدعوته الى وقف الاستيطان ، وإخلاء المواقع الاستيطانية العشوائية ، والإنسحاب من الضفة الى المواقع السابقة لإندلاع الانتفاضة في 28 ايلول / سبتمبر 2000.
شارون وعد بتسهيل العملية الإنتخابية ، لكنه رفض وقف الاستيطان ، كما رفض الإفراج عن الأسرى بدعوى أنهم " قتلة يتحملون عقوباتهم في السجن الإسرائيلي ". غير ان ابا مازن وربعه لا ييأس من امكان تليين موقف شارون وعصبته ، فتراه يزور القاهرة مستنجدا بالرئيس حسني مبارك لممارسة مزيد من الضغط على اسرائيل ، ومن القاهرة الى عمان ودمشق للإيحاء بوجود مناخ عربي مؤيد للعودة الى التفاوض بين الفلسطينيين واسرائيل . بذلك يزداد شعور أمريكا بأنها مدعوة حقاً بل مستفيدة فعلا على مستوى إقليمي من تنفيس الإحتقان بين العالم العربي والإسلامي من جهة والغرب بما فيه الكيان الصهيوني من جهة اخرى.
في غمرة هذه المساعي والتطلعات والتحركات طار الرئيس بشار الأسد الى شرم الشيخ ليلتقي نظيره المصري من اجل تأكيد استعداده لمعاودة المفاوضات مع اسرائيل . غير ان حقيقة ما جرى بين الرئيسين المصري والسوري تحوّل مساء اليوم نفسه أحجيةً. فالناطق باسم الرئاسة المصرية ماجد عبد الفتاح صرح بعد القمة عن تطورين بارزين ، اولهما إعلان إجراءات سورية جديدة لتطبيق قرار مجلس الأمن الرقم 1559 المتعلق بانسحاب القوات السورية من لبنان ، وثانيهما إسقاط دمشق شروطها المعلنة لمعاودة المفاوضات مع إسرائيل بما في ذلك تمسكــها بـِ " وديعة رابين " التي تعهد بموجبها شفوياً اسحق رابين ، رئيس الحكومة الإسرائيلية الراحل ، للرئيس الأمريكي السابق بيل كلنتون العام 1965 ان تنسحب إسرائيل من مرتفعات الجولان السورية المحتلة حتى حدود 4 حزيران /يونيو 1967 في مقابل تطبيع كامل للعلاقات بين البلدين.
سوريه سارعت الى نفي ما قاله عبد الفتاح ، مؤكدة ، في خبر لوكالة " سانا "، ان الرئيس الأسد اتصل هاتفيا بنظيره اللبناني الرئيس اميل لحود مؤكدا " ثوابت الموقف السوري المتعلق بالسلام العادل والشامل في المنطقة والقائم على تطبيق قرارات الشرعية الدولية ، لا سيما القرارين 342 و 338 ، وانسحاب إسرائيل من كامل الأراضي العربية المحتلة بما في ذلك إستئناف المفاوضات من النقطة التي توقفت عندها في السابق ".
النفي السوري كان منتظراً اذْ لا يعقل ان تبدو دمشق كريمة في تقديم جزرة التفاوض مع اسرائيل لمصر في شرم الشيخ وحريصة على التلويح بعصا الصمود لأمريكا وإسرائيل معا في لبنان. ذلك ان تظاهرة حاشدة بمئات الألوف كانت ملأت قلب بيروت في اليوم نفسه جهرت في خلالها الجماهير بأعلى الصوت : لا للتدخل الدولي ممثلا بقرار مجلس الأمن 1559 ، نعم للمقاومة ممثلة بـ " حزب الله " وللأخوة مع سوريا اللذين استهدفهما القرار المذكور . وكان الرئيس لحود حرص ، عشية التظاهرة الكبرى ، على نفي ما نشرته صحيفة " معاريف" حول توجيهه رسالة الى الحكومة الإسرائيلية يعلن فيها رغبة لبنان في السلام ، مؤكداً تمسكه بانسحاب إسرائيل من جميع الأراضي العربية المحتلة وعودة اللاجئين الفلسطينيين الى أراضيهم والتزام قرارات الشرعية الدولية ذات الصلـة ". غير ان تيري رود-لارسن ، ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في المنطقة ، حرص على طمأنة المسؤولين الإسرائيليين في خلال اجتماعه بهم في القدس الى أن لبنان مستعد ، كما سوريا ، للتفاوض مع إسرائيل ، وانه يجب عدم إضاعة هذه الفرصة التي يتيحها البلدان .
من مجمل ما تقدم ذكره من مساعٍ وتطلعات وتحركات يتضح ان الجميع يرفع لواء المفاوضات . بعضهم يرفعه لإختبار نيات الآخرين ، وبعضهم الآخر يرفعه كإختيار استراتيجي اذا لم يتعارض ، في نهاية المطاف ، مع الحد الأدنى لثوابته الوطنية ، إنما الفريقان يفعلان ذلك مع علمهما ان اسرائيل ، في ظل شارون وعصبته الحاكمة ، ليست في وارد الدخول في مفاوضات مع احد قبل تحقيق أغراضها المرحلية فلسطينيا وإقليميا .
في ضـوء هذا التقويم للوضع الإقليمي ، لا يستغربنّ احد إن لجأ شارون ، على حين بغتة ، الى توجيه ضربة الى " حزب الله " في لبنان ، او الى اغتيال احد كبار القادة الفلسطينيين لخلـق حالة بالغة العداء في الجانب العربي يستحيل معها الإستمرار في طلب التفاوض مع إسرائيل . كل ذلك لتبرير إستمرار شارون في القول ان ليس بين الفلسطينيين شريك للتفاوض ! ولن تبخل أمريكا ، طبعا ، في التستر عليه ...
يحدث كل ذلك بينما تتجدد في صفوف الشعب العربي تظاهرات العداء لأمريكا والتأييد للمقاومة في فلسطين والعراق . هل تغيب عن الذاكرة تظاهرة المغرب في الأمس القريب وبعدها التظاهرة العملاقة في لبنان ، وقبل الاثنتين تظاهرات أسيوط والمنوفية والأزهر الشريف في مصر؟
مرة اخرى ، يبدو بعض الأنظمة في وادٍ والشعوب في وادٍ آخر. والعقبى للمتقين.