من هذه التساؤلات: هل يمكن اعتبار الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، هو خطوة أولى على طريق خطة شارون: "فك الارتباط مع الفلسطينين، ومحاولة عزلهم في جزر كبيرة، عن طريق الجدار الفاصل(؟!).. وهل هو ـ من هذا المنظور ـ نوع من "تصدير" شارون لأزمة إسرائيل الداخلية إلى الساحة الفلسطينية(؟!).. من هذه التساؤلات، أيضاً: هل يمكن اعتبار الانسحاب الإسرائيلي هو نوع من الدفع لصالح التخلص من عبء قطاع غزة الثقيل، وصالح امتلاك، أو: محاولة امتلاك، أفق بوقف الانتفاضة(؟!).. وهل هو ـ من هذا المنظور ـ نوع من الدخول على خط المحاولة الأمريكية في البحث عن "كيفية سياسية" لعملية سلمية جديدة، تتم وفق رؤيتها لمستقبل المنطقة بصفة عامة، ولمستقبل الصراع بين "العرب.. وإسرائيل" على وجه الخصوص(؟!).
هذه التساؤلات، وغيرها، وإن كانت تؤشر إلى القلق والمخاوف ـ وكل منهما له دوافعه المشروعة، على آية حال ـ من احتمالات "غير مواتية" في ما يخص "مستقبل القطاع".. فإنها، في الوقت نفسه، تؤكد على مركزية غزة في الإطار العام لإشكاليات المسألة الفلسطينية، على الأقل: منذ أن بدأت مسيرة التسوية السلمية للصراع بين "العرب.. وإسرائيل" (سواء اعتبرنا هذه البداية، تعود إلى مؤتمر مدريد، في العام 1991؛ أو تعود إلى اتفاقات كامب دافيد، بين "مصر.. وإسرائيل"، في العام 1978).
إذ، لنا أن نلاحظ: أن ليس من قبيل المصادفة أن اتفاق "أوسلو" (في: العام 1993)، كان قد سمي في البداية بـ "غزة/أريحا أولاً".. كما لنا أن نلاحظ: أن ليس من قبيل المصادفة أن خطة شارون تعتمد على خطة "غزة أولاً"، تلك التي اقترحها، منذ عدة أشهر، وزير الدفاع الإسرائيلي بنيامين بن إليعازر، وتحولت في مابعد إلى "غزة/بيت لحم أولاً".
وهنا، يبدو أن تساؤلاً يطرح نفسه: ترى.. ما هي الدوافع لقيام إسرائيل، وشارون تحديداً، للانسحاب من قطاع غزة(؟!).
لا يمكن صرف النظر عن تعددية الدوافع التي تستند إليها الخطة الشارونية.. وإضافة إلى دوافع كثيرة ذكرها البعض من المشتغلين بالعمل الصحافي العربي (من قبيل: تخفيف التكلفة الأمنية والعسكرية الناتجة عن المقاومة الفلسطينية في غزة؛ والتراجع الاقتصادي الحاصل في إسرائيل بفعل إنتفاضة الأقصى؛ وقلق شارون من جراء تصاعد شعبية نتنياهو، كنتيجة لفشل الأول في إنجاز ما وعد به الناخبون الإسرائيليون، أي: تحقيق الأمن والقضاء على الانتفاضة في "مائة يوم")..
إضافة إلى ذلك، فإن ثمة دوافعاً أخرى، تتسم بأبعاد ذات طابع يتجاوز المرحليات إلى الرؤية الإستراتيجية.
أهم هذه الدوافع: خلق الفرصة لـ "إعادة صياغة أوسلو" وفق أسس جديدة؛ بمعنى: إنجاز ما يطلق عليه شارون "الحل المرحلي بعيد المدى"، والذي يتلخص في ترحيل قضايا الوضع النهائي إلى سنوات بعيدة، مع منح الفلسطينيين "حكماً ذاتياً"، بمسمى "دولة"، على قطاع غزة (مع شكل من أشكال التواصل مع الضفة الغربية، دون أن تكون هناك سيطرة فعلية للسلطة الفلسطينية عليها.. وهو ما يعني: ليس، فقط، ترسيم سيناريو "الجزر المبعثرة" في الضفة الغربية؛ ولكن، أيضاً، وهذا هو الأهم، محاولة "تحييد القطاع" في معادلة الصراع بين "إسرائيل.. والفلسطينيين").
بيد أن التساؤل الذي يطرح نفسه، هنا، هو: هل هذا يكفي دافعاً لكي يقوم شارون، وإدارته، بتفكيك المستوطنات القائمة في قطاع غزة، وأن يتم الاستغناء، إسرائيلياً، عن فلسفة الاستيطان التي قامت على أساسها الدولة العبرية(؟!).
هنا، نجد أنفسنا، مباشرة، في مواجهة النقطة الرئيسة، في حديثنا هذا، تلك المتعلقة بـ: "إلى أين يمضي المستوطنون.. إذن؟!"، وما تثيره من تساؤلات؛ بل، وردود أفعال أيضاً.
الواقع، كانت هذه النقطة هي المرتكز الرئيس لذلك التساؤل الذي يتردد في إسرائيل منذ فترة، أي: إلى أين يتم نقل سكان مستوطنات قطاع غزة، في حال تنفيذ خطة "فك الارتباط والانسحاب من القطاع"(؟!).
وهنا، لنا أن نجد في ما ذكرته صحيفة "معاريف" الإسرائيلية، ما يمكن أن يلقي ببعض الضوء على ما نود أن نقوله من إثارتنا مثل ذلك التساؤل..
لقد كشفت الصحيفة عن اتخاذ المسؤولين الإسرائيليين قراراً بإنشاء مستوطنتين جديدتين، بجوار "الحدود المصرية/الإسرائيلية"، على أن تتم عملية البناء على وجه السرعة، لاستيعاب من سيتم إجلاؤهم عن قطاع غزة..
هذا القرار تم اتخاذه منذ أسابيع قليلة (تحديداً في: 10 نوفمبر الماضي)، في الاجتماع الذي عقد بين يوناثان باشي (رئيس إدارة فك الارتباط)، وعوزي كيرن (مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي)، وأشكول نعماتي (رئيس المجلس البلدي)، الذي أشار ـ حسب ما تذكر الصحيفة ـ إلى أن المستوطنتين سيطلق عليهما "حالوتسيت" و"شلوميت"، وتقامان ـ وهذا هو الأمر الجدير بالتأمل والانتباه ـ على بعد "عشرة" كيلومترات جنوب قطاع غزة، في أرض تابعة للجيش الإسرائيلي، بعد موافقته على إخلائها لأجل هذا الغرض.
الأمر نفسه، أكدته صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية، حيث أشارت إلى أن لديها وثيقة، كانت قد قدمت أخيراً إلى إدارة "فك الارتباط"، بها قائمة طويلة ومفصلة بكل الأراضي "الخالية"، جنوب إسرائيل، التي تعتزم الإدارة الإسرائيلية نقل المستوطنين إليها.
المسألة، إذن، تبدو واضحة.. نقل المستوطنون "من داخل القطاع إلى حدوده"، وهي الحدود التي تلاصق ـ تقريباً ـ الحدود المصرية.
بل، لا نغالي إذا قلنا: أن الرؤية الإسرائيلية بصفة عامة، ورؤية شارون على وجه الخصوص، لم تتغير.. وإنما: هي هي.. حيث ما تزال تعتمد على التوسع والتمدد الإستراتيجي.
فـ "الانسحاب من غزة" لم، ولن، يتم إلى الداخل (الإسرائيلي).. بل، على العكس، سوف يتم إلى الخارج، إلى الحدود. وبالتالي، ليس، فقط، محاصرة القطاع وتحويله إلى جزيرة محاطة بالبحر من جانب، وبالإسرائيليين من بقية الجوانب؛ ولكن، أيضاً، التمركز العمراني والبشري على الحدود مع مصر.. أي: زرع البشر في أرض لا يمكن بعد ذلك، وأياً تكن الظروف، اقتلاعهم منها.
هكذا، أقام شارون الدنيا ولم يقعدها.. ليس من أجل السلام مع الفلسطينيين، ولكن من أجل التوسع العمراني، والتمدد الإستراتيجي البشري، بكل ما يعنيه ذلك من مؤثرات على المستقبل.
وهكذا، يبدو المبرر بوضوح.. المبرر، الذي يحاول به شارون القيام بعملية تغطية، واسعة النطاق، على أهدافه الإستراتيجية الكامنة وراء الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة.. تلك الأهداف التي يستخدم من أجل التوصل إليها، ما نراه في الراهن من "إرهاب الدولة المنظم"، الذي يقوم به بمساعدة حكومته ومؤسسته العسكرية، ضد الفسطينيين.
إذ، يمكن القول: أن شارون، عبر هذا التصعيد غير المسبوق منذ اندلاع الانتفاضة، إنما يحاول أن يبعث بـ "انطباع حاد"، وكذا بـ "رسالة مستقبلية" إلى الفلسطينيين.. انطباع يتمحور حول: دحض ما يردده البعض من أن: "انسحابه من غزة يأتي تحت وطأة خسائره في القطاع، وهرباً من جحيمها".. و"رسالة"، فحواها: أن عملية "أصابع الندم" ما هي سوى نموذج تجريبي لما يمكن أن يحدث بعد تنفيذ خطته الأحادية في "الانسحاب من القطاع"..
نموذج تجريبي، يريد به شارون أن يبرهن على قدرة الجيش الإسرائيلي: على حماية المستوطنات الإسرائيلية الجديدة، في جنوب قطاع غزة؛ وفي الوقت نفسه، على "إعادة احتلال" أي جزء من القطاع، في وقت وجيز.. أي: بما يمكن أفراده من اعتقال رجال المقاومة، في أي وقت يشاء.
ولكن.. رغم ذلك، أو بالرغم من محاولات شارون المستميتة للبرهنة على مبرراته تلك، واستهدافاته في التغطية على الأسباب والدوافع الرئيسة وراء انسحابه من قطاع غزة، والذي جاء التصعيد العسكري في إطارها.. إلا أن كل ذلك لا يمنع، ولا يمكن أن يمنع، رؤية الواقع العيني، هناك على الأرض.
إنه الواقع الذي يشير إلى تساؤل، مؤداه: لماذا لم يفعل شارون بغزة مثل ما فعل بالضفة الغربية، من حيث الاجتياح الكامل، وضرب مراكز المقاومة ورموزها(؟!).. ولماذا لم يحاول، كمثال، وإن كان بغيضاً، تكرار سيناريو "مخيم جنين"، على الأقل: من حيث ما يمثله القطاع من عبء على إسرائيل(؟!).
يجب أن نشير، ابتداء، إلى أن قطاع غزة لم يسلم من عمليات التوغل العسكري، ناهيك عن الاغتيالات؛ لكن ذلك لم يصل ـ رغم التصعيد الإسرائيلي الحاصل هناك ـ إلى حدود ما جرى في الضفة الغربية من حيث الاجتياح الشامل، لسببين:
الأول، فداحة الخسارة، إذ أن سيناريو "مخيم جنين"، كان يمكن أن يتكرر، ولكن على نحو أوسع، نظراً لكثرة عدد "المقاتلين"، من المقاومة الفلسطينية في القطاع؛ فضلاً عن الاكتظاظ السكاني الهائل، والذي قد يحيل الاجتياح إلى مجزرة كبيرة، لها ثمنها السياسي الباهظ..
السبب الأخر، أن الاجتياح ـ ومن ثم الاحتلال ـ الكامل, وبلا حساب، سيكون إيذاناً بـ "انتهاء السلطة"، وما يمكن أن يصاحب ذلك من تداعيات، أهمها: ما سيدفعه الاحتلال من أثمان،غير محتملة، سياسياً واقتصادياً وأمنياً.
ولكن..
ألا يعني، هذا، أن مسألة "الانسحاب من غزة"، يمكن أن تتحول إلى "خط نهاية" لشارون، حين ينسحب وتبقى المقاومة الفلسطينية مستمرة، ويبدو الموقف انتصاراً مؤازراً للمقاومة.. تماماً، مثل ما حدث من قبل في جنوب لبنان(؟!)..
هنا، يأتي أحد استهدافات شارون من التصعيد العسكري الذي يقوم به في القطاع..
إذ، في ما يبدو، يريد شارون أن يبرهن لـ "الرأي العام الإسرائيلي"، على الأقل، أنه عندما قرر الانسحاب من قطاع غزة، فهو لم يكن واقعاً تحت "خط النار"، وأنه لا يأبه بالدعاية الفلسطينية التي تصور الانسحاب على أنه "هروب من مستنقع غزة"، مثل ما فعل سلفه "العمالي"، ايهود باراك، عندما قرر الانسحاب من جنوب لبنان.
وأياً ما يكن الأمر، فإن هذا ليس هو الاستهداف الوحيد من وراء التصعيد.. ولكن، بالقطع، هناك أهدافاً إسرائيلية، وشارونية، أخرى من وراء ذلك.
بداية، لابد من ملاحظة أن ثمة علاقة ما بين انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان، وبين انسحابها المقرر ـ إسرائيلياً ـ من قطاع غزة.. فكلنا ما يزال يتذكر، كيف تحول الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان ـ عن حق ـ إلى انتصار للمقاومة اللبنانية، وعلى رأسها حزب الله بقيادة الشيخ حسن نصر الله.. بل، كيف تحول الحزب، في تلك اللحظات إلى قوة استطاعت أن تملأ الفراغ الأمني الحاصل ـ آنذاك ـ من جراء الانسحاب.
وفي ما يبدو، فإن الدرس الذي يريد شارون وإدارته تلافي نتائجه، هو رغبة مؤسسات الدولة العبرية في عدم إتاحة الفرصة لإعلان حماس الانتصار عليها، بعد تطبيق خطة الانفصال "أحادي الجانب"، والانسحاب من قطاع غزة؛ خاصة بعد إعلان حماس، من قبل، عن خطتها لملء الفراغ الأمني في غزة بعد الانسحاب الإسرائيلي.
ولكن، ربما يقول قائل: ألم تقم إسرائيل باغتيال عبد العزيز الرنتيسي، ومن قبله الشيخ القعيد أحمد ياسين.. بل، وألم تكشف إسرائيل عن عزمها اغتيال ياسين، من قبل اغتياله فعلياً، ضمن قائمة كانت قد أعلنتها في أغسطس قبل الماضي (عام 2003)، أي: قبل طرح خطة "الانفصال أحادي الجانب"(؟!)..
منطقياً، هذا صحيح.. ولكن، من الصحيح، أيضاً، أن الاعتماد على الترتيب في الإعلان عن الخطوات الإسرائيلية لا يكفي بمفرده لملامسة التوجهات الإستراتيجية للدولة العبرية.
وليكن في سياسة الاغتيالات، التي تعتمدها إسرائيل، نموذجاً على ذلك..
بمعنى، وكما أشرنا في مقالات سابقة: فإن جريمة قتل "رموز المقاومة الفلسطينية"، يجب رؤيتها ضمن التصور المؤسسي الإسرائيلي في التعامل مع الفلسطينيين، من منظور أنها تمثل سياسة واضحة لها أهدافها، وليس كـ "مجرد حدث لحظة" ينم عن عقلية إجرامية، كما يحب البعض أن يردد كجزء من عملية "التسهيل" في التعامل مع قضايا الصراع بين "إسرائيل.. والفلسطينيين".
الدليل على ذلك، هو ملاحظة البعض من عمليات الاغتيالات التي قامت بها إسرائيل لبعض من القيادات الفلسطينية.. وفي الوقت نفسه، ملاحظة نتائجها.
إن اغتيال أبو جهاد (في: العام 1988)، كمثال، كان قد نتج عنه إضعاف تماسك منظمة التحرير الفلسطينية في أثناء الانتفاضة الفلسطينية الأولى.. أيضاً، فإن اغتيال فتحي الشقاقي (في: العام 1995)، كمثال أخر، أدى إلى تفريغ حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية من أهم كوادرها، من ما جعل الحركة في حال من عدم التوازن لفترة طويلة.. ناهيك عن اغتيال أبو علي مصطفى، الذي أدى ـ بشكل واضح ـ إلى إضعاف الهكيل التنظيمي والتماسك السياسي للجبهة الشعبية.. وأخيراً، فإن اغتيال ياسين والرنتيسي، سيكون له نتائجه، ولاشك، على دينامية حماس المستقبلية.
يعني هذا، في ما يعنيه، أن سياسة الاغتيالات الإسرائيلية للقيادات من حركات المقاومة الفلسطينية، إنما تعتمد ـ في الأساس ـ على استهداف محاولة ردع حركات المقاومة الفلسطينية، وإضعاف التماسك لديها، وذلك في اتجاه التأثير "سلبا"ً على حركتها لفترة طويلة من الوقت.
في هذا السياق، تأتي عملية التصعيد العسكري في غزة..
وفي هذا السياق، تأتي المحاولة الإسرائيلية في استكمال مخطط "تصفية رموز المقاومة الفلسطينية".. أي: ضرب "القيادات الوسيطة" لحركات المقاومة. إذ، لنا أن نلاحظ: أن معظم من استهدفتهم عمليات الاغتيال عبر الصواريخ الموجهة، منذ بدء التصعيد العسكري في غزة، مؤخراً، هم من القيادات الوسيطة في حركات المقاومة الفلسطينية.. لنا أن نلاحظ، أيضاً، ماذا يمكن أن يعنيه ذلك؛ إذ يبدو أن ثمة استهدافاً إسرائيلياً، مؤداه: إرباك حركات المقاومة الفلسطينية، خاصة في قطاع غزة، لفترة طويلة من الوقت..
وفي هذا السياق، تتبدى الاستهدافات الإسرائيلية، في التوسع العمراني، والتمدد الإستراتيجي البشري، إلى الحدود مع الدول المجاورة: (مصر، بالتوازي مع الانسحاب الإسرائيلي من غزة؛ ولبنان، بالتوازي مع تقليم أظافر حزب الله؛ وسوريا، بالتوازي مع الشروط الإسرائيلية في التفاوض).