وغياب المفهوم المتكامل للنظام الرسمي العربي ، كتكتل إقليمي يضم الدول العربية ، كان واحدا من أهم أسباب نجاح الكيان الصهيوني التغلغل في دول الجوار التي تشكل تخوما للعالم العربي يرتبط أمنه بها بشكل قوي . والنجاح الذي أحرزه الكيان الصهيوني في تركيا ليس الشاهد الوحيد وإن كان أهم الشواهد . ولعل الأخطر أن هذه المنطقة التي تمتد من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي في واحدة من أهم المناطق في العالم ، بأهميتها الجيوستراتيجية الكبيرة ، ودورها الحيوي في الاقتصاد العالمي ، توصف في أدبيات السياسة الغربية بأنها " منطقة فراغ استراتيجي " ، وهو ما تراه القوى العظمى ، التي لا تحتمل مصالحها الحيوية ولادة مثل هذا النظام الإقليمي ، مبررا لأن تسعى للتدخل في شئون المنطقة لتحقيق " الاستقرار " ، وقد قطع الاحتلال الأمريكي للعراق الشك باليقين . ففي غياب مفهوم عربي واضح للمصالح ودوائر هذه المصالح تسعى الأطراف الأخرى لإدخال المنطقة ضمن تصورها لمصالحها . ولن يكون المشروع الشرق الأوسطي الذي وئد مبكرا – حتى الآن على الأقل – المخطط الأخير ، بل ربما كان الوجود العسكري الأمريكي بداية حزمة من المشاريع تطرح بالتوالي وتعمل متساندة على صياغة " شرق أوسط جديد " .
ولعل من أهم دروس الكارثة العراقية أن ملء الفراغ الاستراتيجي لا يتحقق بإحراز القوة العسكرية - أو بتعبير أدق لا يتحقق بها وحدها - فأدوات المزاحمة في المنافسة الضارية في عالم اليوم أصبحت تشمل كفاءة النظم السياسية ، ودرجة الحريات التي تتمتع بها الشعوب ، ومستويات التقدم العلمي والتقني والصناعي ، وبدونها تصبح القوة العسكرية عرجاء . فضلا عن أن الاعتماد المفرط على القوة العسكرية في ساحة السياسة المعاصرة يؤدي - شئنا أم أبينا - إلى عسكرة المجتمعات وصولا إلى عسكرة الثقافة والفكر بكل ما يعنيه ذلك من تغييرات بنيوية تنتج حتما ثمارها المرة .
وغياب النظام الرسمي العربي – كمنظومة متكاملة – مرده إلى عوامل عديدة في مقدمتها تغييب الشعوب عن صناعة القرار ، وغلبة المنطق القطري على النخب السياسية العربية ، وضعف دور العامل الاقتصادي الذي أثبتت التجارب المماثلة السابقة أنه قاطرة العمل الإقليمي الأكثر قدرة على الإنجاز . فوجود أرضية من المصالح المشتركة والمتبادلة أكثر جدوى من نظام يقوم على أيديولوجية سياسية واحدة ، كما أن نشأة أي نظام إقليمي لا يكون نتيجة قرار بقدر بل يكون استجابة لحاجات تفرض ضرورة قيامه .
ومازالت التحديات تتوالى على المنطقة العربية منذرة باختبارات أكثر صعوبة ، فالوجود العسكري الغربي في أفغانستان يمس الأمن القومي لمنطقة الخليج بشكل مباشر ، ويطرح – بقوة – احتمالية تغير موازين القوى في هذه المنطقة وبخاصة في ظل احتمال نشوء وجود عسكري أمريكي طويل الأجل في العراق . وفي إطار حقيقة أن التقنية غيرت مفهوم الجغرافيا والمسافة ، وغيرت بالتالي مفهوم الأمن القومي ، فإن ما يحدث يكون قريبا جدا من الخليج العربي .
ولا شك في أن وجود رؤية عربية واضحة تعبر عن إجماع عربي حقيقي كانت قادرة على فرض حقائق أخرى على أرض الواقع ، تتجاوز تصور أن الفوز الأكبر هو منع العمل العسكري من أن يمتد إلى دول عربية بعد أفغانستان ، وها هي التهديدات الأمريكية تتجه بعد العراق صوب دمشق دون أن يتبلور موقف عربي يرقى إلى مستوى التحدي . والأزمة تثير - بشكل شديد الإلحاح - قضية " التخوم " أو دول الجوار التي تحيط بالخريطة العربية وضرورة بناء علاقات أكثر رشدا معها ، كجزء من منظومة متكاملة للأمن القومي العربي الذي لم يزل حتى الآن دالا بلا مدلول متعين على أرض الواقع .
وينبغي ألا يغيب عن الذهن أن الصومال ، التي انهارت الدولة فيها قبل ما يقرب من عقد من الزمان ، تشكل مختبرا تتم فيه تجربة التعايش مع تكوينات سياسية أقل مركزية من الدولة تقف في منتصف المسافة بينها وبين القبيلة ، فضلا عن استخدامها بشكل مقصود لتهيئة العرب نفسيا لقبول تحولات مماثلة في أماكن أخرى . وقد شكل تحول الصومال إلى مشكلة مزمنة دون مبادرة عربية لتوحيد أجزائها إشعارا لأطراف عديدة بأن النظام الرسمي العربي في حالة لا تمكنه حتى من الدفاع عن حدوده التاريخية . فضلا عن إضرارها الشديد بمصداقية هذا النظام في نظر الآخرين ، ومما يكرس هذه الأضرار حقيقة أن الصومال تشكل الكثير لأمن البحر الأحمر والقرن الأفريقي ، وكلاهما منطقتان يشكل استقرارهما رصيدا لأمن دول عربية عديدة . وبحكم كون الصومال من " الدول الأطراف " ، فمن المؤكد أن الموقف العربي من أزمتها ستكون له آثاره على موقف بقية الدول الأطراف ( جيبوتي – موريتانيا – جزر القمر ) من علاقتها بالعالم العربي .
وفي سلسلة من التطورات المتلاحقة قد تشكل منعطفا في تاريخ المنطقة العربية طرحت انتفاضة الأقصى ، وبعدها اجتياح العراق ، قضية النظام الرسمي العربي على رجل الشارع العربي بعد أن بدت لعقود هما نخبويا محضا ، وبدا واضحا للعيان أن ثمة مطالب عربية محددة تتجاوز السقف السياسي الرسمي العربي ، وأن الرأي العام العربي أصبح أحد أطراف المعادلة . أما احتمال وصول مسيرة التسوية السلمية إلى طريق مسدود أو إلى منعطف الإذعان العربي للإذعان الأمريكي الصهيوني ، فمن المؤكد أنه سيلقي بظلال قاتمة على مستقبل هذا النظام بعد أن غير صورته تغييرا عميقا ، في عيون الرأي العام العربي وكشف بجلاء عجزه الفاضح في مواجهة هذه التحديات . وبتشابكاتها ، التي باتت معروفة ، مع مقتضيات تحقيق الأمن القومي لدول عربية عدة ، ستؤثر حالة غياب الاستقرار التي تشهدها فلسطين المحتلة في المنطقة العربية .
وإذا كانت جامعة الدول العربية أحد أهم مؤسسات النظام الرسمي العربي فإن حالتها تعكس – إلى حد كبير – أزمة هذا النظام ، ولم تتبلور حتى الآن رؤية عربية لإصلاحها وتفعيل دورها ، رغم كل العواصف التي واجهتها المسيرة العربية ، خلال العقدين الماضيين بصفة خاصة . فالحصار الذي فرض على ليبيا لسنوات ، الصومال ، والأزمة المزمنة في جنوب السودان ، نماذج تعكس حالة العجز الشديد الذي لف هذه المؤسسة الإقليمية ، وما زال . أما الاجتياح العسكري الأمريكي للعراق فنزع عن هذه المؤسسة ورقة التوت الأخيرة . وكل ما يدور من حديث ، حتى الآن عن ، تطويرها لا يمس جوهر مشكلتها ولا يطرح أفقا محددا للمستقبل العربي ، فالهدف ليس الاتحاد ولا الوحدة ولا بناء تكتل إقليمي ، أما التطوير فيراوح في مكانه بسبب غياب الرؤية الواضحة .
وإذا كانت ليبيا قد قطعت شوطا كبيرا في ربط مستقبلها بأفريقيا جنوب الصحراء ، مبدية اكتراثا أقل بعلاقاتها العربية عموما وعلاقتها بالجامعة العربية كرمز للنظام الرسمي العربي ، فإن اليمن وقد استبطأت أن تحصل على عضوية مجلس التعاون الخليجي انضمت إلى منظمة للتعاون تضم دول شرقي أفريقيا . وباستثناء مجلس التعاون الخليجي الذي حقق قدرا لا بأس به من التنسيق بين الدول الأعضاء فيه يعد نجاحا نسبيا قابلا للتطوير ، فإن محاولات التعاون الإقليمي العربي الأخرى قد منيت بالفشل الذريع ، بعد خيبات مشابهة أصابت مشروعات الوحدة العربية . فالتكامل المصري السوداني أصبح أثرا بعد عين ، ومجلس التعاون العربي ( مصر – العراق – اليمن - الأردن ) ولد ميتا ، أما الاتحاد المغاربي فيسير كالسلحفاة ، بل يكاد يكون " ميتا إكلينيكيا " !!
ومن يتأمل المحطات الرئيسة في تاريخ المنطقة العربية خلال نصف القرن الماضي يجدها جميعا يجمع يبنها أنها أزمات ، أكثرها فرضه وجود الكيان الصهيوني ، لكن بعضها كان أزمات عربية عربية . وكلاهما فشل في دفع صانع القرار العربي إلى تبني مشروع يستهدف بناء تكتل إقليمي عربي حقيقي ، رغم أن الكيان الصهيوني يمد الجسور شمالا وجنوبا ليحيط الخريطة العربية بشبكة تحالفات قد تتحول إلى تكتل إقليمي محوره الكيان الصهيوني .
ورغم الدور الذي تلعبه غلبة القطرية على الواقع السياسي العربي وتحولها إلى الحقيقة الأكثر رسوخا في وأد احتمالات ميلاد تكتل إقليمي عربي حقيقي ، فإن ثمة عقبة أخرى لا تقل خطورة هي أن معظم الأقطار العربية يمكن اعتبارها أعضاء متضامنين في "حلف أعداء الديمقراطية " ، وهو تحالف راسخ تقوده أنظمة يجمع بينها قاسم مشترك هو سيطرة المؤسسة العسكرية . ويمثل زوال النظام العراقي وبخاصة أنه خلف وراءه احتلالا عسكريا أمريكيا مباشرا ، ضربة لهذا الحلف قد تؤدي إلى تغيرات درامية في دول أخرى تنتمي إليه ، فضلا عن أنه سيضع قضية " حدود سيادة الدولة " على محك اختبارات قاسية .
ورغم كل هذه المخاطر المتعينة والجراح المزمنة مازالت استجابة النظام الرسمي العربي دون المستوى ، ومازال يلاحق التغيرات ولا يشارك في صنعها ، ومن يتأمل ما أحدثه غياب أربعة من الحكام العرب ( الحسن – عيسى - الحسين – الأسد ) وتولي أربعة من الحكام الشباب من تغيرات يتخيل ما يمكن أن تشهده الخارطة العربية من تحولات إذا غاب المزيد من جيل الآباء . ففي كل مكان توجد فيه أزمة حريات مزمنة يشكل غياب الآباء بداية انفراج ، وتقتضي الدقة أن نقرر أن الأمر ليس مرتبطا بنمط نظام الحكم – ملكيا كان أو جمهوريا – فبعض الأنظمة الجمهورية تعاني أزمة حريات لا تعانيها أنظمة ملكية وراثية لها رصيد حقيقي من المشروعية والقبول الجماهيري .
وفي عالم السياسة بفخاخه القاتلة من الخطر إغلاق ملف الحريات في العالم العربي - بغض النظر عن أي جدل نظري حول الليبرالية الغربية مدحا أو ذما - فالحرية شرط موضوعي للنهوض ومواجهة التحديات ، ولا حياة لنظام إقليمي عربي تفرضه الأنظمة الحاكمة بقرار فوقي . أما فرصة النجاة فتتقلص أمام أعيننا جميعا بوتيرة مخيفة لتحرمنا " ترف الانتظار " .. .. وإذا سامحتنا الشعوب فلن يرحمنا التاريخ !!