ما زالت " حماس" في ذكرى إنطلاقتها السابعة عشرة ممتلئة حماسة ً. ما زالت تشهر منطقها وسيفها معا وترفض إغمادهما.
سأل صحافي في برنامج حواري في قناة " الجزيرة " رئيس مكتبها السياسي خالد مشعل عمّا اذا كانت الحركة في صدد تعديل إستراتيجيتها بعد وفاة ياسر عرفات وشيوع مقولة ان فرصةً للسلام قد اتيحت مع ترتيبات حلول محمود عباس ( ابو مازن ) محله في إدارة الدفة ، فكان أن سأله مشعل مستغربا ماذا حدث ليستوجب تعديلا في نهج " حماس " ؟ هل كان عرفات هو العقبة الوحيدة ضد " السلام " بمعناه الأمريكي والإسرائيلي ؟ صحيح ان عرفات مارس ممانعة جدية لمنطق الاستسلام لشروط إيهود براك وارييل شارون ولا سيما لشروط جورج بوش ، لكن منظمات المقاومة وجماهير الانتفاضة ، وفي مقدمها " حماس " وجمهورها ، كانت تمارس بلا هوادة كل ألوان الممانعة والمقاومة طيلة السنوات الأربع الماضية. حتى عندما حاول الصحافي اياه تطويق مشعل بمنطق الإقتداء بتجارب سالفة في المقاومة حيث فاوض الثوار ، كما في فيتنام ، الحكومة الأمريكية التي كانت جيوشها تقاتلهم ، ردّ زعيـم " حماس " بان الثوار الفيتناميين فاوضوا الأمريكيين وهم يقاتلونهم . المفاوضة تلازمت مع المقاومة ولم تحلّ محلها .
هل المفاوضة مع استمرار المقاومة ممكنة الآن ؟
لا يمانع مشعل في إعتماد هذا الخيار اذا ما توفرت شروطه . لكن اين شارون من هذا الخيار وتوفير شروطه الموضوعية ؟ إنه ما زال يطالب الفلسطينيين والسلطة الفلسطينية بالقضاء علــى " الإرهاب " ، أي بالقضاء على المقاومة ، كشرط ومدخل لقبوله بالتفاوض معهم. ولأنه يعلم ان ما من مسؤول فلسطيني يقبل بإنهاء المقاومة – هذا اذا كان يستطيع ذلك أصلا – كشرط لبدء المفاوضة فإن شارون اعتمد خطة الفصل ، أي الإنسحاب من قطاع غزه ، بصورة منفردة وبمعزل عن موافقة الفلسطينيين على هذه الخطة او رفضهم لها.
ماذا، اذاً ، عن الانسحابات التي لوح بها شارون ووزير دفاعه شاوول موفاز لتسهيل إجراء إنتخابات الرئاسة الفلسطينية ؟
إنها مجرد عملية إعادة إنتشار للقوات الإسرائيلية تبتعد بموجبها عن المدن الفلسطينية في الضفة الغربية لمدة 72 ساعة فقط ، تعود بعدها الى مواقعها السابقة . إنها مجرد تعبير عن " حسن نيــة " إسرائيل مراعاةً من طرفها لرغبتي أمريكا وأوروبا اللتين تنتظران مجيء قيادة معتدلة للفلسطينيين عبر الإنتخابات المقبلة .
الحقيقة ان أمريكا وأوربا تراهنان على ان استلام محمود عباس مقاليد الرئاسة الفلسطينية يسهّل أمر تنفيذ " خريطة الطريق ". كيف ؟ لأن شارون ، بضغط من شريكه المقبل في الحكومة الائتلافية العتيدة شيمون بيريز ، سيوافق على الدخول في مفاوضات مع محمود عباس من اجل التفاهم على وضع الترتيبات اللازمة لإنسحاب اسرائيل من قطاع غزه وتسليم مباني مستعمراتها المفترض تفكيكها الى جهة فلسطينية مسالمة. يتأتى عن ذلك كله فتح باب المفاوضات على نحو يقود الى إنسحابات اخرى.
ميشال بارنييه ، وزير خارجية فرنسا ، لم يكتم طموح بلاده الى ما هو أكثر من خروج اسرائيل من قطاع غزه . فقد صرح الى صحيفة " لوباريزيان " ان فرنسا تقترح ان يعقب الإنسحاب من غزه " تسريع للجدول الزمني المنصوص عليه في خريطة الطريق وبدء التفاوض حول الوضع النهائي وتقليص المراحل الانتقالية التي تزعزع الثقة ".
لم تمرّ ساعات قليلة على تصريح بارنييه حتى انبرى بنيامين نتنياهو ، وزير مالية إسرائيل ، في كلمة خاطب بها مؤتمـر هرتسليا ( موضوعــه " عرب اسرائيل " ) قائلا إن خطة الفصل ليست خطوة تشكّل سابقة للمستقبل ، وان " علينا المبادرة الى إحداث تغيير سلطوي ونظامي بل وحتى ثقافي في السلطة الفلسطينية (...) ينبغي من الآن التوضيح لحزب العمل ( بيريز ) انه ليس هناك إنسحاب آخر أحادي الجانب من المناطـق ( المحتلة ) وفق تصّور كلينتون – باراك . كذلك لن نقبل بتقسيم القدس ".
شارون يشارك شريكه اللدود نتنياهو أفكاره السوداء تلك وإن كان يقولها بصيغة مختلفة . في هذه الحال ، ماذا يبقى من الوضع النهائي حتى يتطلب مفاوضة في شأنه بين شارون ومحمود عباس؟
ابو مازن يعرف حقيقة الموقف الإسرائيلي ، سواء شارك حزب العمل في حكومة شارون القادمة ام لم يشارك . لذلك فقد اقترح ، في خلال الاتصالات العربية والدولية التي أجـراها مؤخرا ، عقد مؤتمر دولي في القاهرة لحلّ القضية الفلسطينية وتطبيق خريطة الطريق ، مشيرا الى ان بريطانيا متحمسة لعقد هذا المؤتمر في حين ان الولايات المتحدة ما زالت مترددة في شأنه.
لو قرأ ابو مازن تصريح بارنييه لكـان قال ان فرنسا متحمسة أيضاً لعقد المؤتمر المقترح . لكن هل هذا كله يكفي لزحزحة شارون عن موقفه المتصلب؟ ليس ثمة ما يشير الى هذا الاحتمال . فالجنرال العجوز انما وضع خطة الفصل للإنفصال عن غزه وكـثافتها السكانية الهائلة التي لا طاقة لإسرائيل على تحمّل أعبائها وتبعاتها . فوق ذلك ، هو ليس في صدد التخلي عن المستعمـرات الصهيونية في الضفة الغربية باستثناء اربع منها صغيرة ومعزولة في شمالها. ثم ، هـل ننسى ان الإنتخابات الإسرائيلية قد تجري في خريف العام القادم او ربيع العام الذي يليه ، فلا يعقل ان يعرّض شارون حزبه الى إنشقاق عشية الانتخابات بسبب خلافه مع نتنياهو وغيره من المتصلبين من أعضاء ليكود الذين يعارضون أي انسحاب إضافي غير المنصوص عليه في خطة الفصل ؟
لو افترضنا ان أميركا وبريطانيا وفرنسا وسائر أطراف المجتمع الدولي ضغطت على إسرائيل لحملها على الدخول في مفاوضات مع الفلسطينيين ، فهل يرضخ شارون ؟ وما سقف التنازلات الذي يرضى به ؟
ليس ما يشير ، حتى في حال مشاركة حزب العمل في حكومته القادمة ، الى ان شارون قادر على إلزام حزب ليكود وسائر أطراف اليمين العلماني والديني بقبول تنازلات تتجاوز تلك التي تنص عليها خطة الفصل . الأرجح ، والحال هذه ، أن يلجأ الى مكامن قدرات الصهيونية في أمريكا لثني بوش عن الاستمرار في الضغط على إسرائيل لتقديم تنازلات تتجاوز تلك التي تنطوي عليها خطة الفصل . فنفوذ إسرائيل في أمريكا واسع وعميق ومتشعب ومؤثر ويمكّنها من المراهنة عليه بدليل نجاحها في حمل حكومة مصر على توقيـع " إتفاق المناطق الصناعية المؤهلة ". بموجب هذا الاتفاق يخطو البلدان خطوة واسعة نحو التطبيع الاقتصادي بفتح الأسواق الأمريكية امام المنتجات المصرية التي تستخدم " مكونات ومواد خاما إسرائيلية" ، لا تقل نسبتها عن 11,7 في المئة ، ويؤدي لاحقاً الى فتح الأسواق العربية أمام المنتجات الإسرائيلية . هذا الإتفاق ما كان ليوقع لولا ضغوط إسرائيل على أمريكا لتقوم هذه الأخيرة بإقناع مصر بتوقيعه في هذه الآونة ومن دون أي مقابل سياسي من طرف إسرائيل للفلسطينيين او للعرب. ألا يدل هذا الحدث البالغ الأهمية على ان لإسرائيل مكوّنات فاعلة أيضاً في صميم " المنتجات " السياسية الأمريكية وليس العكس ؟!
لنفترض جدلا ومحالا ان شارون وحكومته وافقا على الدخول في مفاوضات مبكرة مع الفلسطينيين في مؤتمر دولي ، كما يطمح ابو مازن ، لحل القضية الفلسطينية ، فهل توافــــق " حماس " وسائر المنظمات المقاتلة على وقف المقاومة في أثناء المفاوضة ؟
يمكن التكهن من خلال تحليل تصريحات مسؤولي " حماس " لمناسبة الإحتفال بانطلاقتها أنها قد توافق في إطار الشروط الآتية :
* أن تعلن حكومة إسرائيل وتلتزم وقفاً شاملاً للحرب ضد الشعب الفلسطيني ومنظمات المقاومة ، بما في ذلك وقف عمليات تصفية قادتها وكوادرها بكل الوسائل المعتمدة او المتاحة ، وإطلاق سراح الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين من سجون إسرائيل .
* وقف أعمال الاستيطان وإنسحاب القوات الإسرائيلية المحتلة الى المواقع التي كانت فيها عشية إنطلاق الانتفاضة الثانية في 28 ايلول / سبتمبر 2000.
* وقف أعمال بناء جدار الفصل في جميع المناطق .
* إلتزام الرئيس والحكومة الفلسطينيين بالثوابت الوطنية المعلنة والمتفق عليها ، لا سيما إنسحاب إسرائيل من جميع الأراضي المحتلة العام 1967 لتقوم عليها الدولة الفلسطينية المستقلة ، وحق اللاجئين في العودة الى بيوتهم وأملاكهم وفق قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة.
* موافقة جميع منظمات المقاومة الفلسطينية على وقف النار والعمليات الجهادية في أثناء فترة المفاوضات .
إسرائيل قد توافق على بعض هذه الشروط وليس على كلها . السلطة الفلسطينية ، في المقابل ، سترفض مواجهة منظمات المقاومة لإكراهها بالقوة على وقف كفاحها المسلح ضد إسرائيل كثمن لا بد من دفعه لمباشرة المفاوضات . هل من مخرج ؟
الأمر يتوقف على ثلاثة أمور:
1- حجم الضغوط الأمريكية والدولية على إسرائيل لقبول التفاوض ولتقديم تنازلات مجزية .
2- حجم المعارضة الإسرائيلية للمفاوضات وللتنازلات المطلوبة .
3- حجم المعارضة الفلسطينية للتسوية المطروحة في مفاصلها الرئيسة.
إذا أمكن التوفيق بين الاعتبارات الثلاثة ، فربما يكون المخرج بقبول الأطراف جميعا ، بما فيها " حماس " ، معادلة إجراء المفاوضة مع إستمرار المقاومة .