كنت ذات يوم على موعد هام مع شخصية حملت على كاهلها قضية أمة وإنتقلت على إثر ذلك من بلاد إلى بلاد ومن مدينة إلى أخرى تجر خلفها بقايا حلم العودة إلى الوطن وبعض فتات الأمل في تحرير البلاد ، ذاقت هذه الشخصية ويلات الخوف والمطاردة وتلقت الكثير من نظرات المخبرين السريين ومراقبة أجهزة المخابرات العامة ، لكن ذلك لم يثنيها يوماً عن الدفاع بكل ما اؤتيت من قوة عن قضيتها العادلة فراحت ترسم صوراً من الواقع المرير وتجسد حلماً تكسر على صخرة الأيام لملايين من الفلسطينين الذين يعيشون في بلاده المحتلة أو في الشتات.
[IMG]http://nashiri.net/aimages/hanthalah.JPG[/IMG]
إن لقائي لم يكن مع شخصية عادية بل كان مع شخصية تحدت الظلم والهوان وكسرت أنوف الظالمين لكنها لم تكسرها بالحديد والنار بل كسرتها بالرسمة الصادقة الحرة والرؤية الموضوعية البعيدة عن القص واللصق ، إن حواري كان مع حنظلة الشخصية التي جسدت رؤية الفنان الكاريكاتيري ناجي العلي للقضايا المختلفة وجسدت الصدق والصمود في وجه التخاذل و الهزيمة التي يعيشها العالم العربي منذ إحتلال فلسطين في عام 1948 ومراوراً بنكسة 1967 ووصولاً بالإنتصار المخجل في عام 1973 ، زار ناجي العلي وتنقل بين العديد من العواصم والمدن العربية والأجنبية ليس من أجل السياحة والترفيه أو من باب التنزه والمتعة بل من أجل مجارات الظروف التي حتمت عليه ذلك ، إذ كان ما يرسمه هذا الرجل من رسومات تحكي قصص وروايات لواقعنا المر لا ترضي أصحاب الأنوف الطويلة ومرتدي البدلات الرسمية و ربطات العنق .
ولد ناجي العلي في قرية الشجرة عام 1939 م في فلسطين ، وبعد إبعاده هو وعائلته عاش في مخيم عين الحلوة جنوب لبنان وكانت هذه الحياة مصدر إلهامه في رسوماته فيما بعد ، ثم حصل بعد ذلك على دبلوم في الميكانيكا ، دخل بعدها في أكاديمية الفنون في لبنان ، ثم تركها حيث سافر إلى الكويت ليعمل رساماً ومخرجاً فنياً في صحيفة الطليعة ، تنقل بعدها بين عدة صحف منها السياسة الكويتية ، والسفير اللبنانية و صحيفة القبس الكويتية ، وبعدها إستقر في لندن ليواصل بريشته مشروعه النضالي المسالم ، كان سر نجاحه في عفويته الصادقة التي لم يعهدها الفن الساخر العربي ، أطل حنظلة هذا الطفل الذي يرمز لرؤية ناجي العلي للأمل الفلسطيني لأول مرة في عام 1969م وإستمر ظهوره في معظم رسومات الفنان ناجي العلي بعد ذلك ، عاش ناجي العلي معظم حياته في الكويت التي وجد فيها الملجأ الآمن والملاذ الحصين ليطلق خلالها العنان لريشته ويفتح الآفاق لرؤيته وأفكاره ، قدم ناجي العلي نفسه ضريبة لرسوماته الصريحة عندما قتل صباح أحد الأيام وهو في لندن على يد مجهولين ، لكنه خلف من بعده شخصية حنظلة لتكمل عنه مشوار الدفاع عن الحلم الفلسطيني الضائع.
جلست إلى حنظلة في بداية لقائي به لنتجاذب أطراف الحديث في مسيرته الطويلة في الكفاح والتحدي ، بدت عليه مظاهر الكآبة والحزن التي ألقى الدهر بكاهلها عليه ، وبانت عليه آثار الضعف والعجز وهو ما زال في مرحلة الطفولة فنوائب الدهر وآلام الزمان قد فعلت فعلها ، لكنه مع كل ذلك كان صامداً ثابتاً وحكيماً صادقاً مع نفسه ومع الآخرين وكان مثالاً رائعاً للحرية الصادقة والشموخ في زمن أصبح الإنكسار علامة بارزة في أجياله ، لقد كانت كلماته قصيرة ومقتضبة وموزونة في آن واحد ، وكانت في نفس الوقت كلماتٍ ذات مغزى ومعانٍ عظيمة ، تحدثت معه عن محادثات أوسلو وواي بلايتيشن ووادي عربة وغيرها من الإتفايقات والمعاهدات التي لم تغني الفلسطينين ولم تسمنهم من جوع ، فكان كلما سألته عن إحدى هذه المعاهدات والإتفاقيات يتأوه تأوهاً يحكي لك ما في قلبه من أشجان وهموم ويضرب كفيه على حلم لم يعد سوى شيء من الخيال ، وعندما حدثته عن ما يجري لأبطال المقاومة الفلسطينية من إعتقالات و إغتيالات سافرة كإغتيال الشيخ أحمد ياسين والدكتور عبدالعزيز الرنتيسي وغيرهم من أبطال المقاومة لم يجب على تساؤلاتي ولكنه أخذ يردد علي بعضاً من أبيات جميلة للشاعر الكبير أحمد مطر تقول :
هرم الناس .. وكانوا يرضعون
عندما قال المغني عائدون
يا فلسطين ومازال المغني يتغنى
وملايين اللحون
في فضاء الجرح تفنى
واليتامى من يتامى يولدون
يافلسطين وأرباب النضال المدمنون
ساءهم مايشهدون ... فمضوا يستنكرون
ويخوضون النضالات على هز القناني
وعلى هز البطون
عائدون ... ولقد عاد الأسى للمرة الألف
فلا عدنا .. ولا هم يحزنون ! .