(ديرة بطيخ) وصف جرت عادة الكويتيين بإطلاقه عند تذمرهم من اخفاق الحكومة المتكرر في تسيير شؤون البلاد، ولعل ازمة (يوم الغرق الثاني) التي حصلت الاربعاء الماضي شاهد صدق على صحة هذا الوصف على الاقل في ذلك الظرف بالذات! ومن الطريف فعلا ان يستعير الشارع الشعبي اسماء الفواكه والخضراوات للتعبير عن مواقف سياسية ذات طبيعة امتعاضية، فالمصريون مثلا يطلقون على الفوضى في تصريف الامور وصف (الكوسا)، وعلى اختلال المعايير وتفشي الواسطة عبارة (خيار وفقوس)! وربما يتصدى بعض الباحثين لدرس ظاهرة توظيف الخضراوات والفواكه توظيفا سياسيا شعبيا، فيكشف عمّا بين الحقلين المتباعدين من وشائج القربى ووجوه التواصل. نعود الى (ديرة البطيخ) لنتعرف على معناها اللغوي، فكلمة (ديرة) هي في الاصل (دويرة) تصغير (دار) إلا ان لهجة ابناء الجزيرة قد عملت على تخفيفها فنطقتها (ديرة)، والدار هي البلد، واما البطيخ فمعروف ومشهور, لكن المعضلة تتمحور حول اضافة (الديرة) الى (البطيخ) تحديدا دون غيره من اصناف الخضر والفواكه، واسقاط دلالة الذم وشعور السخط على هذا النوع الفاكهي الصيفي المنعش, ولذا فإن الدارسين لفن صياغة المصطلح السياسي الشعبوي ـ على فرض ان هناك دارسين فعلا! ـ يختلفون في تعليل هذا الاختيار:
فيذهب قوم الى ان اختيار البطيخ عائد الى كثرة انخداع الناس بمظهره الخارجي المطمع والذي لا يعكس بالضرورة الحقيقة (المرة) التي ينطوي عليها باطنه، ولذا فهم يلقون عنتا في التمييز بين جيده ورديئه، فقشرته الخضراء اللامعة لا تصلح معيارا للجودة والحلاوة، ولذا تجدهم يعمدون الى طرقه ونقره مرارا لاستكناه حقيقته الخفية، وكثيرا ما يكتشف المشترون متأخرين ان اختباراتهم المختلفة لم تكن مجدية ولذا فإن نعت البلد بأنها ديرة بطيخ يعني ان السياسات والشعارات التي تعلن عبرها الوزارات والهيئات عن استعدادها المسبق للتصدي لأي طارئ يشوبها غش كثير وتهويل كبير حتى انه لتقفز الى ذهنك بطريقة لا شعورية صورة بائع البطيخ المحترف حين تشاهد احد المسؤولين وهو يرسل وعوده المعسولة وينفخ روح الثقة في سلامة قراراته الرشيدة وخططه المستقبلية!
وقال آخرون على دراية بأحوال البطيخ الزراعية: ليس الامر كذلك، فنعت البلد بأنها (ديرة بطيخ) يعني وصفها بالفوضى والتسيب، فالبطيخ حين ينبت على حروف السواقي لا يسير وفق نظام منضبط، فهو فوضوي النزعة حتى النخاع! فتجد بطيخة قد نبتت بالعرض واخرى بالطول وثالثة لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء! فتداخل الاختصاصات وتعدد الادارات منبت الفوضى، فوزارة الداخلية تلقي بالتبعة على الاشغال، والاشغال تقذف بها الى ملعب البلدية، والبلدية تتهم المواطنين بالاهمال، والمواطنون يتهمون الحكومة المسكينة بالتقصير، وفي النهاية تعصب الجناية برأس البحر ويحمل المد والجزر جرم فيضان مجارير المطر!!
وقال قوم آخرون: ان نعت (ديرة بطيخ) مستمد من أخص خصائص البطيخ، فهو مؤلف بنسبة كبيرة من السوائل، ولذا فإن الاسراف في اكله يصيب اكله بعلة الاسهال، وحين يلقب البلد بأنه (ديرة بطيخ) فمعنى ذلك انه يعاني من إسهال كبير في اصدار القرارات والقوانين، فليس ثمة استقرار وثبات، فكل شيء قابل للتعديل والتغيير، فما زلنا نسمع منذ سنين عن مشروع اسقاط فواتير الماء والكهرباء، وكلما هم مواطن بدفع ما عليه خرج علينا احد اعضاء مجلس الامة بوعد بإصدار ذلك القانون قريبا فتتراكم الفواتير كتراكم مشاريع القوانين في اللجنة التشريعية، حتى لوحات السيارة فإنها لا تكمل في بلدنا عقدا من الزمن حتى يتم تغييرها بلوحات جديدة دونما مسوغ مقنع، وفي ديرة البطيخ لا تحتاج القرارات الى كثير من التفكير والتعليل! وكل (غرقة) وانتم بخير.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية