لعل مفاصل هذا التغير كثيرة، ومتشعبة، ومتنامية في مواقعها الجغرافية، ومتباعدة في التوجهات السياسية التقليدية للاعبين فيها. ولعل زيارة رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، إلى دمشق (التي بدأت في: 22 ديسمبر الحالي)، تأتي لتضيف بعداً آخر للنظام السياسي الجديد في الشرق الاوسط. فبعد عقود من القطيعة بين دمشق وأنقرة، جاءت زيارة أردوغان الي دمشق لتؤكد الانطباع ببدء التغير في الموقفين السوري والتركي؛ بل، ولتؤشر إلى أن انعطافاً حاداً نحو التقارب والتفاهم، وربما التعاون، تشهده العلاقات "السورية ـ التركية"، راهناً.. لاحظ أن: أردوغان هو رابع رئيس وزراء تركي يزور دمشق، بعد تورغوت أوزال في العام 1987، وسليمان ديميريل في العام 1992، وعبد الله غول في العام الماضي.. هذا، إضافة إلى الزيارة التي قام بها الرئيس السوري، بشار الأسد، إلى أنقرة في أوائل العام الجاري، والتي جاء التصريح الذي أدلى به، الرئيس الأسد، عشية زيارته، ليشير إلى: "أن سوريا وتركيا تنتقلان من وضع اللاثقة إلى وضع الثقة التامة".
والواقع، أن وضع اللاثقة، هذا، كان يعود إلى حال التوتر الذي شاب العلاقات "السورية ـ التركية"، في السنوات الأخيرة؛ وهو التوتر الذي انبنى على أسباب ثلاثة رئيسة: الخلاف علي مياه نهر الفرات، والاتهامات التركية لسورية بدعم حزب العمال الكردستاني، والاتهام السوري لتركيا بالتعاون المباشر مع إسرائيل على حساب الإمن الإستراتيجي السوري.
ومن ثم، كانت زيارة الرئيس السوري إلى تركيا، كمثال، هي زيارة تاريخية، كما وصفها بعض المراقبين، بمعنيين: أولهما، لأنها أول زيارة لرئيس دولة سوري إلى تركيا، منذ استقلال سوريا (في: عام 1945)؛ وبالتالي، فإنها كسرت جليداً بين الدولتين، كان قائماً منذ أكثر من نصف قرن.. وثانيهما، لأنها طرحت واقعاً ايجابياً قائماً على الثقة بين البلدين؛ وبالتالي، على فرض معطى "جغراستي" (جغرا ستراتيجي)، إقليمي جديد في الشرق الأوسط، أو بالأحرى: في منطقة شرق المتوسط.
هذا، من جهة..
من جهة أخرى، تأتي زيارة أردوغان إلى دمشق، كمثال آخر، لتحمل بعدين رئيسين لها، رغم أنها يمكن اعتبارها اقتصادية أكثر من أن تكون سياسية، حيث تبرز أهميتها في كونها الرحلة الاولى لأردوغان إلى خارج حدود بلاده، بعد نجاح حكومته في الحصول على موافقة الاتحاد الأوروبي بدء مفاوضات الانضمام (التي يمكن أن تستمر لخمسة عشرة عاماً)، وتأتي قبل فترة ليست بالطويلة من الانتخابات العراقية المقررة الشهر المقبل.
بيد أن الملاحظة، التي نود أن نسوق، في هذا السياق، أن التفاهم "السوري ـ التركي"، وإن كانت له آثاره الايجابية، في ما لو تم توجيهه بمنظور إستراتيجي، مرتبط بالقضية الفلسطينية من جهة، والتعاون الإقليمي بين سورية وتركيا و"العراق" من جهة ثانية.. إلا أن الإشكالية الواضحة، هنا، أن الحضور الأمريكي في المنطقة، يحول دون الوصول الي حال من الاستقرار السياسي. وبالتالي، ففي الوقت الذي يعتبر فيه التفاهم "السوري ـ التركي" تطوراً ايجابياً، فهناك خشية من أن لا يتعدى التواصل بين دمشق وأنقرة كونه "حوار الضرورة"، الذي قد لا يتواصل كحالة سياسية متواصلة..
ويبدو البعد الإسرائيلي في هذه التطورات واضحاً من خلال العلاقات "التركية ـ الإسرائيلية"، التي بلغت حد إجراء المناورات العسكرية المشتركة بين الطرفين.. هذا، ناهيك عن ما تكشفه الضغوط التي تمارس علي سورية، من وجود "أجندة" أمريكية إسرائيلية، للاستفادة القصوى من الواقع السياسي الذي تبلور بعد احتلال العراق.
في هذا الإطار، يبدو أن تساؤلاً يطرح نفسه: إذا كانت زيارة أردوغان إلى دمشق مع نهاية العام الجاري، ومن قبلها زيارة الأسد إلى تركيا في أوائل العام، تعبران في حقيقتيهما عن تقارب، بل تفاهم.. فإلى أي حد، إذن، يمكن أن يساهم التفاهم الحاصل في تغيير المعادلة في شرق المتوسط(؟!).
بداية.. إذا كان من الصحيح أن العنوان الأساس لزيارة أردوغان إلى دمشق، كان اقتصادياً؛ لكن هذا العنوان، الاقتصادي، ليس في حقيقته إلا عنواناً لتفاهم، أو قل: لـ "تقارب" أشمل، مرشح للتفعيل والتطور إلى مستويات أعلى، لاتخفي أنقرة رغبتها بتطوره إلى مستوى "التقارب الإستراتيجي"، البعيد المدى، الذي تكون فيه سوريا بوابة تركيا إلى العالم العربي والغرب والبلقان؛ في حين تضعه دمشق، في ما يبدو، في إطار إعادة بناء فرضياتها الإستراتيجية حول تركيا، وإدراك أهميتها بوصفها دولة أطلسية ومرشحة لدخول الاتحاد الأوروبي.
يعني هذا، في ما يعنيه، أن الطرفين كلاهما يعي، تماماً، أنه عقب احتلال العراق ـ بموقعه "الجغراستي (الجغرا ستراتيجي) شديد الحساسية" ـ تغيرت الكثير من قواعد اللعبة في العالم عامة، وفي الشرق الأوسط بصفة خاصة.. ضمن أهم هذه القواعد، يأتي تغير التوازن العسكري الإستراتيجي، حيث اختفى العراق كـ "قوة عسكرية عربية"، إضافة إلى ما نلاحظه من سعي لاحتواء سوريا وإيران بصورة أو بأخرى، وهو ما ينبئ بإعادة تشكيل البنية الأمنية لـ "الشرق الأوسط".
ويعني هذا، أيضاً، أن التفاهم "السوري ـ التركي" يندرج في سياق تلك الرهانات الإستراتيجية، المبنية على تبادل المصالح والمقايضة بينها، لتحسين الدور الإقليمي للطرفين في محيطهما "الجغراسي" المتغير، الذي ستنبثق عن حراكاته صورة التنظيم السياسي الجديد للمنطقة.
يبدو ذلك، بوضوح، إذا لامسنا محاولة إعادة بناء الفرضيات، أو خطط التصور الإستراتيجية السورية، في ما يخص إعادة تعريف تركيا: ليس في ضوء تحالفها الإستراتيجي مع إسرائيل، بل في ضوء "تحييدها"، أو في تفعيل موقف متوازن لها من الصراع بين "سوريا.. وإسرائيل"؛ هذا، ناهيك عن إمكانية الدعم التركي للحركة الديبلوماسية السورية في جعل تجريد منطقة "الشرق الأوسط" من أسلحة الدمار الشامل، عنواناً لتحركها الإقليمي والدولي، في مواجهة الضغوط الأميركية عليها، التي تقوم الآن على تطويقها وعزلها إقليمياً، أو "احتوائها"، بالتعبير "الجغراسي" الأميركي؛ وهو الأمر الذي تعززه الاتفاقيات الأمنية والعسكرية المتعددة في ما بين الطرفين.
على صعيد أخر، تبادل أنقرة ذلك بإمكانية أن تلعب، في المدى القريب، دوراً إيجابياً، كما يفهم من "جدول أعمال" (أجندة)، زيارة رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان، المقررة إلى واشنطن، في تخفيف التوتر في العلاقات "الأميركية ـ السورية"، وتفعيل الحوار الإيجابي بين واشنطن ودمشق.
ولاشك، أن ذلك يعتمد، على الوعي التركي للدور الإستراتيجي الحيوي لها، بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية في آسيا والبلقان، كمثال، في ظل المشاريع الخاصة بنقل النفط.. مثل: خط النقل النفطي من أذربيجان في قزوين عبر جورجيا إلى ميناء جيهان التركي بطول 1750 كم، بدعم أمريكي مباشر، وذلك لحرمان روسيا وإيران من المرور عبرهما (من المقرر أن يبدأ الضخ في العام 2005).
وهنا، لا نغالي إذا قلنا: أن الفرصة أصبحت مواتية لها أكثر من أي وقت مضى للبحث عن دور إقليمي في الشرق الأوسط؛ لجهة رغبتها في القيام بـ "دور" يحقق لها مصالحها الإقليمية، وفي نفس الوقت يوطد من الشراكة الإستراتيجية بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية.
ولعل قولنا الأخير، هذا، يبدو بوضوح إذا لاحظنا أن تركيا كانت قد أرادت، منذ بداية الأزمة العراقية، تحقيق عدة مكاسب.. أهمها: عودتها كـ "فاعل"، مهم ومحوري، في إعادة صياغة وتشكيل منطقتي الشرق الأوسط والخليج (العربي)، بعد أن ظلت مجرد واحدة من "دول الجوار" التي يمتد تأثيرها إليهما، دون أن تكون "لاعباً محورياً" في صياغة أوضاعهما.
وفي ما يبدو، هكذا، فإن هذه التجاذبات التي تتقاطع السياسة التركية، راهناً، تأتي متوائمة تماماً مع وضعية هذا البلد؛ أي: الوضعية "السياسية ـ العقائدية" التي ترتكز عليها تركيا.. إذ هو معروف: رغم الحالة "العلمانية" التي تحكم تركيا؛ فإن لها، في نفس الوقت، تراثاً إسلامياً واضحاً.
وفي ما يبدو، أيضاً، فإن هذه الوضعية إنما تمثل "نقطة الارتكاز" في رؤية النخبة التركية لنفسها، والدور الذي يمكن أن تضطلع به بلادها على المستوى الإقليمي، وخاصة في ما يتعلق بمنطقة "الشرق الأوسط" (هذا، قطعاً، بالإضافة إلى ما يخص منطقة وسط آسيا، وجمهورياتها الإسلامية، التي يبدو أن "الشرق الأوسط الكبير"، كمفهوم أمريكي الأصل، أصبح ـ راهناً ـ يشملها).
غير أن هذا التفاهم "السوري ـ التركي"، والمبني بدوره، كما يرى البعض، على تفاهم "سوري ـ إيراني"، شكلت زيارة وزير الخارجية الإيراني الأخيرة إلى دمشق أحد أبرز محاوره، يتعلق على مستوى العوامل القريبة والمباشرة، باحتدام الصراع في العراق حول التنظيم الدستوري السياسي للدولة العراقية الجديدة، والتي تبدو فيها معركة الدستور أخطر معركة بالنسبة لمستقبل "العلاقات: العراقية ـ العراقية". وهو ما يظهر،الآن، في الضغط الكردي للنص مسبقا ًفي مشروع الدستور على قيام حكم كردي فيدرالي في شمال العراق، يكون له حق إقليمي في الأرض، وليس على مستوى إدارة السكان فقط.
لقد باتت دمشق هذه المرة بكل وضوح ضد فدرلة العراق، على أساس إثني قومي، وبلورت نظرتها إليه بوصفه تقسيماً للعراق.. وهو ما يؤكد على أن "الورقة الكردية" التي استخدمتها دمشق أداتياً في مواجهة أنقرة، وكادت أن تتسبب بمجابهة عسكرية بينهما (في: عام 1998)، لولا الفيتو الأميركي، الذي فتح الباب برعاية واشنطن الفعلية أمام توقيع "اتفاق أضنة" الأمني بينهما، قد باتت مرشحة إلى أن تكون ضحية لهذا التفاهم، الذي يحاول أن يطوّق مسبقاً تداعيات "المسألة الكردية" المحتملة في شمال العراق، وآثارها المحتملة على دول الجوار العراقي.
إن الأساس المباشر لتفاهم "أنقرة ـ دمشق"، يكمن في التفاهم ما بين الرؤيتين التركية والسورية، حول رفض قيام حكم كردي فيدرالي في شمال العراق، والذي يمتلك الآن كل مؤسسات "الدولة" تحت عنوان "حكم ذاتي".
ومن هنا، فإن التفاهم ،المشار إليه، يقوم، في واحد من أسبابه على الأقل، على تعويق قيام مثل هذا الحكم الكردي، ويعكس بالتالي، التوافق في الفرضيات الإستراتيجية لكل من الدولتين حوله.
فبالنسبة إلى تركيا، يثير ذلك مخاوفها "القومية" من ما تسميه بالنزعات "الانفصالية"، بينما مخاوف دمشق أقل، لكنها قائمة في شروط تنامي تسييس الشعب الكردي السوري، وديناميكية حركته السياسية، واستغلال بعض نخبه التمييزات التي يشكل "قانون الإحصاء" (لعام 1962)، أكثر صفحاتها إيلاماً، لطرح فكرة "حكم ذاتي"، أو حتى التعبير عن ميول "انفصالية".
وهكذا، فإن تفاهم "دمشق ـ أنقرة" يبدو مرتبطاً بعملية إعادة تعريف كل دولة لوزنها ودورها، في منطقة مقبلة على مزيد من التحول.
ولكن، التساؤل الذي نود ملامسة نتائجه، هنا، هو ذلك المتعلق بـ: ما هو مستقبل الدور الإقليمي التركي في الشرق الأوسط؟!..