حينما تحاول ان تضع يدك على الاسباب التي تقف خلف تردي اوضاعنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية فإن سوء التخطيط سيقدم نفسه لك بوصفه أحد ابرز الاسباب واكثرها حضورا ان لم يكن ابرزها على الاطلاق, ومع اقرار الجميع - رؤساء ومرؤوسين وحكاما ومحكومين - بأن غياب التخطيط يمثل عائقا خطيرا يحول دون تحقيق التطور والتنمية في بلادنا إلا ان ذلك لا يغير من الواقع الكئيب شيئا، ففي العديد من دول العالم الثالث وزارات وهىئات مختصة بشؤون التخطيط ووضع السياسات المستقبلية للبلاد، مما يعني ان هناك وعيا عاما بأهمية التخطيط ودوره في بناء المجتمعات، وهو ما يستدعي التأمل في الآليات التي يتم عبرها تطبيق التخطيط، وباختصار فإن تحقيق التخطيط بحاجة الى تخطيط دقيق!, يبدو لي ان منهجية التخطيط في بلادنا تعاني عجزا في مجال المواءمة بين الخطط النظرية التجريدية المكتوبة على الورق والمدرجة في اضابير اللجان ومحاضر اجتماعاتها من ناحية، والواقع العملي الجاثم على الارض من ناحية اخرى، فقد تبدو مسألة رسم الخطط ووضع التصورات والبرامج الزمنية المناسبة لها امراً ليس بالعسير حين يتم ذلك بوصفه عملا اداريا، لكن المشكلة تتمثل في كيفية تحويل تلك التنظيرات الى حقائق ملموسة محسة، ولعل في هذا ما يفسر التناقض الذي نراه بين اهتمام حكومي بمؤسسات التخطيط (الورقية) واخفاق مستشر يعكس غياب التخطيط الفعلي الناجح.
ان اولى أبجديات (تخطيط التخطيط) تتمثل في معرفة (الذات)، ومعرفة الذات تعني الرصد الدقيق للقدرات والامكانات المتاحة مع التعرف الى جوانب الضعف والقوة، اذ لا يهم كثيراً ان تكون الخطة المرسومة طموحة الى تحقيق حزمة كبيرة من الاهداف المتميزة بقدر ما يهم ان تكون واقعية شفيفة تتعامل مع الذات بما يحقق اهدافا تتناسب مع قدراتها وامكاناتها، فالتخطيط السليم يهدف الى تحقيق الممكن بعيدا عن شرك الاحلام الوردية وصخب الآلة الدعائية.
ومن الاهمية بمكان ان ندرك ان مشكلة (ضبابية التخطيط) هي مشكلة فردية بالدرجة الاولى، وحتى تتمكن المجتمعات من ايجاد مخططين ناجحين فإن عليها ان تسعى الى نشر ثقافة التخطيط بين ابنائها، فاكثر الناس في بلادنا يتعاملون مع احداث الحياة وفق سياسة (تصريف شؤون اليوم الواحد)، ويغيب عن اكثرهم التخطيط المستقبلي لسيرورة حياتهم، وهو امر لا يسلم منه الحاصلون على مستوى تعليمي مرضٍ، فكثير من طلاب الجامعة يجدون انفسهم في تخصصات دراسية قد اضطروا للانخراط فيها بحسب سياسة القبول والتسجيل بالجامعة، اذ يقيد الطالب في تخصص ما لا لشيء سوى ان درجات نجاحه في الثانوية قد فرضت عليه الانخراط في ذلك التخصص، وكثير من هؤلاء الطلاب لايعرف شيئا عن المستقبل الوظيفي لهذه التخصصات ومحاسنها ومساوئها، اذ ان هدفه الاساسي هو الحصول على موطئ قدم في الجامعة او المعهد، وبعد ذلك فلكل حادث حديث!.
وربما كانت الخطوة الاولى في التغلب على مشكل التخطيط المزمن نحو بوابة التعليم، فأبناؤنا بحاجة منذ نعومة اظفارهم الى التدرب على كيفية التخطيط السليم لأهدافهم، ولعل القائمين على الشؤون التربوية يتنبهون الى ضرورة ادراج (فن التخطيط) في صورة مقرر مدرسي يحرص بصورة تطبيقية على تجريب التخطيط، وصياغة الاهداف المرحلية بما يتناسب مع القدرات الممكنة، ومتى ما أصبح الامساك بورقة وقلم لرسم سياسة الانفاق الشهري للأسرة عادة منتشرة بين عامة الناس فوقتها يمكن ان تؤتي خطط التخطيط ثمراتها وتتخلص من إسار الحبر وزنازين الورق!