لا أحد داخل الجزائر وخارجها ينكر بأنّ الفتنة العمياء التي ألمّت بالجزائر قد كلفّتها خسائر مذهلة ليس على الصعيد المادي فحسب بل في كل المستويات .
و ربمّا يحتاج الباحثون إلى كثير من الوقت لإحصاء حجم ما لحق بالجزائر جرّاء الأزمة الأمنية والسياسية التي عصفت بها في العشرية الماضية .
وإذا كانت هذه مسلمّة لا أحد يستطيع أن يقفز عليها , فإنّ هناك مسلمّة أخرى تفيد أنّ جزائر اليوم غير الجزائر البارحة و أنّ هناك تغيّرا ملحوظا بل وجذريّا في التطورات السياسية في الجزائر بإتجاه الحلحلة السياسية الكاملة , و بإتجّاه عودة الميّاه إلى مجاريها في هذا البلد الذي يحوي على مقدرّات رهيبة قد يؤدّي إستغلالها الإستغلال الحسن إلى إحداث المعجزة في بلد المليون و النصف مليون شهيد . ولا بدّ من الإشارة إلاّ أنّ تبنّي إستراتيجية المصالحة الشاملة في الجزائر هو الذي أعطى الأمل الكبير للجزائريين بقرب خروج بلادهم من عنق الزجاجة , والأمة تتأثّر سلبا أو إيجابا بالخطاب السياسي الرسمي الذي تتبنّاه دوائر القرار والتي بيدها لا بيد غيرها رسم المنحنيات التي يكون عليه المجتمع .
و عندما تنسجم هذه الدوائر الصانعة للقرار مع تطلعات الأمة يتحققّ التكامل , وعندما تتناقض تصاب الأمة بنكبة كبيرة و تتسّع الفجوة بين الدولة و الأمة فتصبح الأولى في واد والثانية في واد آخر ولا يربط بين الإثنين أيّ رابط.
و الشعب الجزائري بأصالته الحضارية و ووعيه الفطري الذي أفرزته تجاربه السابقة مع الحركات الإستعمارية و مراحل الإستبداد والأحادية كان على الدوام مع المصالحة الوطنية الشاملة و لذلك لن يجد الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة أدنى معضلة في الحصول على أصوات أغلبية الشعب الجزائري في الإستفتاء المزمع إجراؤه قريبا في الجزائر حول صدور قرار العفو الشامل والمصالحة الشاملة .
فالذي صوتّ لقانون الوئام المدني لابدّ أن يصوّت للمصالحة الوطنية الشاملة و العفو الشامل . وثقافة المصالحة الشاملة و العفو وكظم الغيظ و الصفح عن الأخ عندما يخطئ هي من أهمّ المفردات المكونة لشخصانية الإنسان الجزائري الذي كان يتقاسم كسرته ولحافه و داره مع المجاهدين و عابري السبيل و المحتاجين والمشردين أثناء الثورة الجزائرية المباركة , وبعد ثورة التحرير تبرعّ الشعب الجزائري بكل ما يملك من ذهب وفضّة ومتاع للقيادة السياسيّة التي أدارت دفّة الحكم عقب طرد فرنسا الإستعمارية من الجزائر .
و أثناء الكوارث الطبيعية التي ألمّت بالجزائر كان الجزائري سباقا إلى نصرة أخيه وإيواء أخيه وإطعامه أثناء الزلازل والفيضانات إلى درجة أن شباب الجزائر كانوا يرمون بأنفسهم وسط المياه المنهمرة والمنجرفة لإنقاذ العجائز والأطفال والنساء الذين كانت تجرفهم المياه المتدفقة والكثير منهم مات شهيدا وهو يؤدّي واجب إغاثة الضعيف .
ومن أسباب تنكبّ مسيرة الجزائر في العشرية الماضية هو التضاّد المطبق بين خيّار الأمة الجزائرية وخيّار السلطة الجزائرية , ففي الوقت الذي كانت فيه الأمة منسجمة قلبا وقالبا مع خطّ المصالحة الشاملة , كانت السلطة تتبنّى خط الإستئصال وسياسة العصا الفولاذيّة و منطق النار .
ولعلّ الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة هو أولّ رئيس جزائري ينجح في الدنو من تطلعّات الأمة الجزائرية ويجهز على الهوة السحيقة بين الأمة والدولة و يتبنى وبكل صراحة خيّار الأمة الجزائرية و هو خيار المصالحة الشاملة و العفو الشامل ليتسنى فيما بعد الإنطلاق في عملية النهضة في الجزائر .
ولا شكّ أنّ حظوظ المصالحة الوطنية في السابق كانت ضئيلة بالنجاح لعدم وجود سلطة ذات نفوذ تكرّس خيّار المصالحة الشاملة و تنطلق من هذه الرؤية لتفعيل الحياة السياسية . أمّا راهنا فالرئيس الجزائري و إيمانا منه بهذا المبدأ فقد نجح بمهارة رفع سقف رصيد المصالحة الوطنية الشاملة وهذا الفعل السياسي المدعوم بجبهة جماهيرية عريضة من الجزائر العاصمة وإلى تمنراست في أقصى الصحراء الجزائرية جعل جبهة الإستئصال والتي كانت ولا زالت تغدّي منطق النار و الحرب والكراهية والثأر تتراجع إلى المستويات الدنيا , والخطاب السياسي الرسمي الذي كان موزعا في السابق بين منطق النار والحوار , نجح بوتفليقة في توحيده و جعل منطق الحوار والمصالحة هو السائد رسميا وهذا في حدّ ذاته إنجاز سياسي .
ولا شكّ أنّ رجحان الكفةّ في موازين القوة ومراكز القوة في الجزائر لصالح مشروع المصالحة الوطنية الشاملة و إستعداد كافة الأطراف السياسية لتفعيل مشروع الصالحة الوطنية , و تحمّس الشعب الجزائري للتصويت بنعم لمشروع المصالحة الوطنية الشاملة سيهيئ كل الشروط الموضوعية لنجاح هذا المشروع والذي يقوم بالدرجة الأولى على مبدأ العفو الشامل وهو المبدأ الذي سيقررّه الشعب الجزائري السيّد في الإستفتاء المقبل والقريب جدّا .
وبصدور قرار العفو الشامل و عودة القوة و التماسك إلى الجدار الوطني الجزائري يصبح العمل المسلّح ضدّ الدولة الجزائرية في مطلقه غير شرعي , بإعتبار أنّ كل من حمل السلاح وإلتحق بالجبال لإسقاط الحكم الجزائري سيصير في مأمن وما عليه إلى الرجوع إلى عائلته والإنخراط في عقد السياسة و المجتمع .
ولعلّ وقف إراقة الدماء و عودة الجزائريين إلى توادّهم وأخوتهم التي ميزتهم أيام ثورة التحرير المباركة ضدّ الإستعمار الفرنسي سيدخل الجزائر في ثورة ثانية ولكن هذه المرّة في إتجاه إعادة البناء بناء الإقتصاد و التقنية و النهضة والدور الإقليمي والدولي .
إنّ عودة الحيوية إلى الإقتصاد الجزائري و إرتفاع الفائض في مداخيل الجزائر من مبيعات النفط والغاز جرّاء إرتفاع أسعار البترول , لا يمكن أن تستثمر هذه المداخيل إلاّ في خضمّ الإستقرار الذي لن تهيئّ شروطه الموضوعية غير المصالحة الوطنية الشاملة والتي أصبحت مطلبا جماهيريا في الجزائر .
وفي حال نجاح مشروع المصالحة الوطنية الشاملة في الجزائر سيكون ذلك إيذانا بميلاد جزائر جديدة تسع الجزائريين كل الجزائريين بمختلف مشاربهم الفكرية والإيديولوجية و النظرية , كما سيكون هذا النجاح درسا مهمّا لكل الدول العربية التي ما زالت تنهج نهج الإستئصال مع معارضيها و ما زالت تكرّس سياسة النار و الحديد ضدّ مواطنين يصبون إلى التغيير وعندما أغلقت كل الأبواب في وجوههم لجأوا إلى البندقية .
وصحيح أنّ الفتنة الجزائريّة العمياء قد كلفّت الجزائر والجزائريين الكثير الكثير مما لا يحصّى عدّه على صعيد الخسائر البشرية والمادية و المعنوية , غير أنّ نجاح مشروع المصالحة الوطنية الشاملة في الجزائر سيخرج الجزائر نهائيا من أزمتها و سيعطيها وقودا من وحي تجاربها تنطلق به بقوة الصاروخ لإنجاز مستقبل أفضل .
و هذا النجاح سيؤسسّ لمعادلة مفادها أنّ الإنكسار ليس سرمدا في تاريخ الأمم بل هو مرحلي وظرفي , ومتى ما إلتقت إرادة الدولة بإرادة الأمة سيتبددّ الإنكسار و يبدأ الإنطلاق الحقيقي نحو إنجاز النهضة الموعودة .
و عندها يجب تعميم نموذج المصالحة الوطنية الشاملة على كل العواصم العربية للخروج من مرحلة الحروب الأهلية الداخليّة والتي أفضت بالإرادات الدوليّة إلى العبث بجغرافيتنا ومواردنا , و لن يردع هذه الإرادات غير التكامل بين الدولة و الأمة في مشروع للمصالحة الشاملة مع التاريخ و الراهن والمستقبل !!