يكاد يختلف مراقبان على أن أشياء يجري إعدادها في الكواليس فيما يخص الصراع العربي الصهيوني، ليس فقط في ضوء وفاة عرفات المثيرة للجدل والتجاذبات الظاهرة للعيان داخل المنظمات الفلسطينية لإعادة هيكلة الأوضاع في حقبة ما بعد عرفات، بل لعل الأكثر خطورة ما يجري تسريبه – عمدا – منذ أشهر عن تفاهمات ووثائق ومشاريع تسوية ومواقف تتبدل على الجانبين العربي والإسرائيلي. ولعلها المرة الأولى في تاريخ الصراع العربي الصهيوني التي تجد فيها أطراف الصراع كافة أن استمرار حالة الصراع مستحيلة وأن التسوية أكثر استحالة. وتلك هي المعضلة الحقيقية.
"خرافة" الحل النهائي

ومن يتأمل ما يتسرب – بغض النظر عن تأكيد صحته أو نفيها – يجد أن الصراع العربي الصهيوني بدأ يتحول فعليا إلى عبء غير محتمل على مصالح القوى الكبرى في المنطقة وهو ما يفسر حرص كل الأطراف على تأكيد الرغبة في الوصول إلى تسوية، ورغم هذا فلا استعداد عرفات للاعتراف بدولة يهودية على الشروط الأمريكية كان مرضيا للأوروبيين ولا استعداد أبي مازن الذي يؤكده كثيرون للتنازل عن حق العودة يمكن أن يرضي الفلسطينيين وبعض الأطراف العربية، أما الانسحاب من الضفة وغزة فيرفضه الصهاينة متشددين ومعتدلين، وإخلاء المستوطنات يرفضه المتشددون. وتبقى القدس الغائب الأكثر حضورا يطل سؤالها بين السطور مؤكدا لكل الأطراف ما قاله المؤرخ الإسرائيلي بني موريس "لا حياة بين النهر والبحر إلا لشعب واحد".
ولعل التسريبات والتكذيبات المتوالية تؤكد هذه الحقيقة ولا تنفيها فما يسمى "الحل النهائي" عبارة سحرية يفهم منها كل طرف ما يريده، فهي تمنح الصهاينة أملا في الحصول على اعتراف "نهائي" بحق دولتهم في "الوجود الآمن"، بينما يتعلق بها الفلسطينيون كونها تعني دولة فلسطينية تبقيهم داخل التاريخ وتطمئنهم إلى أنهم ليسوا هدفا لعملية تسويف طويلة جدا هدفها منح الصهاينة فرصة تغيير الحقائق على الأرض، غير أن كلا من الطرفين لم يتخل عن سقف مطالبه، التي هي في نظره "حقوق".
وحتى يكون بالإمكان التوصل لتسوية ممكنة قابلة للتسويق يحتاج الأمر تغيرات في التوازنات والقناعات لم تحدث بعد، وحتى تأتي هذه اللحظة يسعى كل طرف – على قدر طاقته – لتحميل الطرف الآخر مسئولية استحالة الحل، ومع تصاعد الضغوط الدولية صارت هناك معركة ديبلوماسية الشراسة يستهدف منها كل طرف تحميل الطرف الآخر مسؤولية الوصول لحالة الانسداد التي تفرضها معطيات تاريخية أكثر مما تفرضها مواقف سياسية يمكن تغييرها بجرة قلم.


مشروعات أم بالونات اختبار

وخلال الأشهر الماضية تم تسريب معلومات عن مشروعات للتسوية ينبغي التوقف أمامها لكون بعضها ينطوي على متغيرات نوعية، فعقب استشهاد الزعيم الفلسطيني أحمد ياسين نشرت يديعوت أحرونوت الإسرائيلية (24/ 3/ 2004) أن إفرايم هاليفي رئيس جهاز الاستخبارات الإسرائيلي السابق كشف خلال برنامج تلفزيوني بثه التلفزيون الإسرائيلي النقاب عن أن رئيس ومؤسس حركة حماس، الشيخ أحمد ياسين، كان شريكا خلال العام 97 في مبادرة سعت إلى التوصل إلى وقف النار مع إسرائيل لمدة ثلاثين عاماً. وقال هاليفي إن الاقتراح المذكور نقل للحكومة الإسرائيلية، من الشيخ ياسين، الذي كان مسجونا آنذاك في إسرائيل، عبر الأردن قبل إطلاق سراحه. وجاء من ديوان وزير المالية، بينيامين نتنياهو، الذي شغل آنذاك منصب رئيس الحكومة، تعقيبا على تصريحات هليفي :"لقد كان ياسين ضالعا في الإرهاب، وقام بتشجيع الأعمال الإرهابية، والتخطيط لها، عند مكوثه في السجن الإسرائيلي، وبعد الإفراج عنه. وبالتالي حتى لو كانت معلومات كهذه قد وصلت إلى الجهات الرسمية المختصة، فستبقى موضع شكوك من حيث معناها".
وفي أغسطس نشر الكاتب السعودي المعروف جهاد الخازن (الحياة اللندنية 14/ 8/ 2004 معلومات عن خطة للتسوية تحمل عنوان "اتفاق ثلاثي دائم" يقال إنها مرت بمكتب شارون، غير أن الخازن علق عليها بعبارة موحية وإن بدت غامضة إذ قال: "لن تنجح في شكلها الحالي لأنها تقحم مصر كطرف في الحل"!.
الخطة تبدأ من الإقرار بأن الحل لم يعد يتوقف فقط على قدرة الطرفين على تقديم "تنازلات مؤلمة" بسبب التغيرات على الأرض، وتكاد الخطة تكون إعادة إنتاج لأول اتفاق تسوية عرض على عبد الناصر في الخمسينات متضمنا في صورته الجديدة تبادل أراضٍ بين الأطراف الثلاثة، فعوضا عن توطين فلسطينيين في العريش وهو المشروع الذي عرف باسم "مشروع العريش" تقدم مصر 1000 كيلومتر من أراضيها بمد حدود قطاع غزة غربا ما بين 30 و40 كيلو مقابل تجميع مستوطنات الضفة وغزة في مساحة تقارب ذلك بالإضافة إلى حصول مصر على معبر مع الأردن يضمن تواصل شرق العالم العربي مع مغربه وفي الوقت نفسه الإبقاء على اتصال إسرائيل بإيلات.
وفي سياق التسريبات عادت فكرة الهدنة لتطرح مرة أخرى لا كإجراء من إجراءات بناء الثقة تسبق الجلوس لطاولة التفاوض بل كحل "نهائي مؤقت"!!!! فقبل أيام نشرت وسائل إعلام كثيرة نبأ إعلان حركة حماس استعدادها لقبول هدنة طويلة مع الكيان الصهيوني مقابل دولة فلسطينية، وتنبع أهمية الفكرة من الحجم النسبي الكبير لحماس في الأراضي الفلسطينية ولكونها الأكثر تأثيرا بين تنظيمات المقاومة الفلسطينية المسلحة. ورغم نفي حماس صحة العرض فإنه أعاد للضوء "هدنة أحمد ياسين"، وحسب الشيخ حسن يوسف الذي نسبت إليه التصريحات فإن "وقف إطلاق النار طويل الأجل يعني من ناحية حماس أن يعيش الطرفان جنبًا إلى جنب بأمن وسلام".
وحسب جريدة الشرق الأوسط (4/ 12/ 2004) نقلا عن قيادي بالحركة فإن هذه التصريحات لا جديد فيها على الإطلاق ولا تشكل خروجا عن خط الحركة وأضاف المسئول الذي طلب عدم ذكر اسمه أن "المرحوم الشيخ أحمد ياسين كان قد أعلن هذا الموقف غير مرة ودعا إلى هدنة طويلة الأمد مقابل قيام دولة فلسطينية ووقف الاعتداءات الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني".
وبين كل بالونات الاختبار من المشروع الثلاثي إلى خريطة الطريق ووثيقة جنيف والمؤتمر تنفرد هدنة حماس بأهمية خاصة كونها تصدر عن فصيل إسلامي عرف بمواقفه المبدئية وانخراطه في العمل المقاوم بالنصيب الأكبر. إن مسرح الشرق الأوسط يتم إعداده لشئ ما لم يتبلور نهائيا حتى الآن لكن الشواهد في غزة والقاهرة ودمشق وتل أبيب تؤكد أنه قيد الإنضاج.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية