" الهولوكوست " كلمة يونانية تعني حرق القربان بالكامل ، والكلمة كانت في الأصل مصطلحاً دينياً يهودياً يشير إلى القربان الذي يضحى به للرب ، والمقصود من استخدامه في وصف ما فعله النازي بالجماعات اليهودية تشبيه " الشعب اليهودي " بالقربان المحروق ، أنه حرق لأنه أكثر الشعوب قداسة . وخلال السنوات القليلة الماضية أثيرت قضية " الهولوكوست " بصدور عدة مؤلفات في الغرب تناقشه قادت أصحابها إلى المحاكمة . ومن يتأمل مجمل المطروح – عربيا - في هذا السجال امتد من قضية جارودي إلى قضية إيرفنج يجد أنه اتسم – عموماً – بما يلي :
أولاً : التركيز المبالغ على إمكانية حدوث المحرقة بالشكل الذي ترويه به المصادر الصهيونية من عدمه .
ثانيا : نزع الواقعة من سياقها الحضاري الغربي بوصفها حلقة في سلسلة من عمليات الإبادة لم تنقطع منذ خمسة قرون .
ثالثا : الاحتفاء بمنكري الواقعة احتفاء يشير إلى عدم اكتراث بمعيار العدل الأخلاقي المطلق الذي يفرض علينا أن يكون لنا موقف مبدئي لا يتغير بتغير هوية الضحية أو الجاني .
ويثير هذا الموقف قضية يبلغ الآن نصف قرن أدت إليها تشابكات الوضع السياسي المعقد عشية العالمية الثانية ، إذا كان الوطن العربي يئن تحت وطأة استعمار كان – باستثناء ليبيا – بريطانيا أو فرنسيا ، وبظهور النازي ونشوب الحرب بينه وبين الحلفاء توجهت قطاعات من النخبة السياسية العربية إلى التعاطف معه بشكل آلي افتقر إلى تحليل دقيق لمرامي النازية وجذورها . وعندما بدأت عمليات إبادة اليهود على يد نظامه وقف البعض موقفا تراوح بين التجاهل والتحبيذ الصامت ، بل اتصلت بعض قيادات الحركة الوطنية الفلسطينية به أملا في أن يناصر الحق العربي .
وأول مشكلات الموقف العربي من الإبادة النازية تصور أن إنكارها السبيل الوحيد لنقض ما يدعيه الصهاينة من حقوق مزعومة في أرض فلسطين تترتب عليها وهو حسن نية يؤدي إلى ارتكاب خطيئة التواطؤ على دماء ضحاياها ، فلا الإقرار بها يعني الإقرار بما يرتبه الصهاينة عليها ولا قبول الصورة المزورة التي يرسمونها لها . فالصهاينة يدعون أن الهولوكوست كان جريمة النازي ضد اليهود وحدهم وهناك منهم من يوسع الدائرة ليدعي أنها جريمة " الأغيار " جميعا ضد اليهود . بينما هي في حقيقة الأمر في معناها العام جريمة العنصرية الغربية ضد الإنسانية وبدلالاتها المباشرة جريمة النازية ضد كل من ل يجري في عروقه " الدم الألماني النقي " وبين ضحاياها غجر وسلاف وبولنديين بل عرب أيضا كما اكتشف مؤخرا !!
ومواجهة خدعة احتكار الإبادة يمكن أن يستند إلى رصيد في الواقع الغربي ، وقد شهد العام 1996 معركة مثيرة لها دلالات مهمة في هذا السياق ، إذ طالب الصهاينة بإزالة دير كاثوليكي في معسكر " أوشفيتس " - الذي يعد أشهر معتقلات الإبادة النازية ، في مسعى يهدف لاحتكار دور الضحية في الهولوكوست النازي - هو دير الراهبات الكرمليات ومارس الصهاينة ضغوطا كبيرة واجهتها المؤسسة الكاثوليكية في بولندا بشجاعة ونشبت إثر ذلك معركة إعلامية حامية باتريك بوكانان ( الصحفي المرشح الجمهوري في انتخابات الرئاسة عام 1996 ) مقالا يكفي عنوانه للدلالة على محتواه ، وهو : " الكاثوليك ليسوا في حاجة إلى محاضرات في الأخلاق من سفاح عصابة شتيرن السابق " ، وقد جاء فيه :
" في متحف الإبادة النازية هناك ثلاثة ملايين يهودي بولندي سيظلون في الذاكرة ، ولكن ماذا عن ثلاثة ملايين مواطن تقريبا من الأوكرانيين والصرب والليتوانيين والمجريين واللاتفيين والإستونيين نحروا في ساحات القتل على أيدي الوثنيين العنصريين في برلين ؟ .. .. .. وما الذي يتطلبه الأمر حتى يكون المرء ضحية من الدرجة الأولى ؟ .. .. .. ولماذا لا يتم تخليد ذكرى المليون كاثوليكي الذين أبيدوا في أوشفتس بصليب ؟ وإذا كان التذكار حيويا فلماذا يستثنى المسيحيون ؟ "
وبطبيعة الحال يؤدي نقض احتكار الصهاينة لدور الضحية إلى نزع المصداقية عن كل الأكاذيب التي بنيت على الكذبة الأم وفي مقدمتها الحق المزعوم للصهاينة في فلسطين ، وإلا فإن خارطة العالم العربي من المحيط إلى الخليج لن تكفي لتعويض كل الشعوب والأقليات التي أباد النازي منها إذا منحنا كلا منها " وطنا قوميا " على سبيل التعويض !!
الدراسات الحديثة لقضية الإبادة التي قام بها النازي ضد اليهود تفرض علينا أن نرى الأمر من منظور مغاير ، فجريمة الإبادة حدثت بالفعل وإنكارها هو الوجه الأخر.
وإذا تعمقنا قليلا في بنية الفكرتين : الصهيونية والنازية وجدنا درجة من التماثل والتشابه بينهما تقطع بأنهما نبتتا من جذر واحد وأن الصهيونية ليست سوى نازية ذات ديباجات يهودية بينما النازية صهيونية ذات ديباجات علمانية ، وكلاهما ليستا بأية حال انحرافاً عن الحضارة الغربية الحديثة بل يمثلان تيارين أساسيين فيها . ولعل أكبر دليل على أن الصهيونية جزء أصيل من الحضارة الغربية أن الغرب يحاول تعويض اليهود عما لحق بهم على يد النازيين بإنشاء الدولة الصهيونية على جثث الفلسطينيين ، وكأن جريمة أوشفيتس يمكن أن تُمحَى بارتكاب جريمة دير ياسين أو مذبحة بيروت أو مذبحة قانا . وقد أنجزت الصهيونية ما أنجزت من اغتصاب للأرض وطرد وإبادة للفلسطينيين من خلال التشكيل الإمبريالي الغربي ، واستخدمت كل أدواته من غـزو وقمع وترحيل وتهجير .
والغرب ، الذي أفرز هتلر وغزواته ، هو نفسه الذي نظر بإعجاب إلى الغزو الصهيوني لجنوب لبنان وبيروت وأنحاء أخرى من العالم العربي وهو نفسه الذي ينظر بحياد وموضوعية داروينية للجريمة التي ارتكبت والتي تُرتكب يومياً ضد الشعب الفلسطيني . ولابد أن نقرر أن الصهيونية لم تقم بعملية إبادة شاملة ( بمعنى التصفية الجسدية ) للفلسطينيين ، إلا أن هذا يرجع إلى اعتبارات عملية عديدة لا علاقة لها بالبنية الإبادية للأيديولوجية الصهيونية ، من بينها تأخر التجربة الصهيونية إلى أواخر القرن التاسع عشر ، وعدم إعلان الدولة الصهيونية إلا في منتصف القرن العشرين ، وهو ما جعل الإبادة على النحو الذي حدث في الأمريكتين واستراليا مسألة عسيرة بسبب وجود المنظمات الدولية والإعلام . إلى جانب تماسك سكان فلسطين وانتمائهم إلى تشكيل حضاري مركب ومقدرتهم على التنظيم والمقاومة والانتفاضة أن أصبحت الإبادة حلاًّ مستحيلاً - ومع هذا لابد من الإشارة إلى عمليات الإبادة الجسدية والتي تمت في صفد ودير ياسـين وكفر قاسم ، وغيرها من مدن وقرى في فلسطين ، حيث لم تكن الممارسة الصهيونية تهدف إلى تهجير الفلسطينيين ، بقدر ما كانت تهدف إلى قتلهم وإبادتهم . وبالمثل كانت عملية صابرا وشاتيلا ذات طابع إبادي واضح ) . كما أن الإبادة بمعنى التهجير والتسخير والقمع والاستغلال هي حدث يومي داخل الإطار الصهيوني .
إن الحضارة الغربية الحديثة هي التي أفرزت الإمبريالية والنفعية الداروينية والنازية والصهيونية ، ولذا فليس من المستغرب أن نجد مجموعة من الأفكار المشتركة بين الرؤيتين النازية والصهيونية التي تُشكِّل الإطار الحاكم لكل منهما وأهمها : القومية العضوية والتأكيد على روابط الدم والتراب ، وهو ما يؤدي إلى استبعاد الآخر ، والنظريات العرْقية ، وتقديس الدولة والنزعة الداروينية النيتشوية . كما يظهر التماثل البنيوي بين النازية والصهيونية في خطابهما ، فكلاهما يستخدم مصطلحات القومية العضوية مثل " الشعب العضوي " ، و " الرابطة الأزلية بين الشعب وتراثه وأرضه " ، و" الشعب المختار " . وقد سُئل هتلر عن سبب معاداته لليهود ، فكانت إجابته قصيرة بقدر ما كانت قاسية : " لا يمكن أن يكون هناك شعبان مختاران ونحن وحدنا شعب الإله المختار . هل هذه إجابة شافية على السؤال ؟ " . ويتحدث الفيلسوف اليهودي مارتن بوبر عن أن الرابطة بين اليهود وأرضهم هي رابطة الدم والتربة ، ومن ثم يطالب بضرورة العودة إلى فلسطين حيث توجد التربة التي يمكن للدم اليهودي أن يتفاعل معها ويبدع من خلالها ، كما استخدم الصهاينة مفهوم " الدم اليهودي " لتعريف الهوية اليهودية .
وأثناء محاكمات نورمبرج الشهيرة ، كان الزعماء النازيون يؤكدون ، الواحد تلو الآخر ، أن الموقف النازي من اليهود تمت صياغته من خلال الأدبيات الصهيونية ، وقد أشار ألفريد روزنبرج أهم المنظرين النازيين إلى أن بوبر على وجه الخصوص هو الذي أعلن أن اليهود يجب أن يعودوا إلى أرض آسيا ، فهناك فقط يمكنهم العثور على جذور الدم اليهودي " . وهي إشارة إلى قول بوبر عن اليهود : " لأنهم إذا كانوا قد طُردوا من فلسطين ، ففلسطين لم تُطرد منهم " . ومن الموضوعات الأساسية المشتركة أيضا فكرة النقاء العرْقي وكان سترايخر ( المُنظر النازي ) يؤكد أثناء محاكمته ، أنه تعلم هذه الفكرة من النبي عزرا : " لقد أكدت دائماً حقيقة أن اليهود يجب أن يكونوا النموذج الذي يجب أن تحتذيه كل الأجناس ، فلقد خلقوا قانوناً عنصرياً لأنفسهم ، قانون موسى الذي يقول : " إذا دخلت بلداً أجنبياً فلن تتزوج من نساء أجنبيات " . وكانت الأدبيات الصهيونية الخاصة بنقاء اليهود العرْقي ثرية إلى أقصى حد في أوربا حتى نهاية الثلاثينيات .
ويستخدم النازيون والصهاينة على حد سواء الخطاب النيتشوي الدارويني نفسه المبني على تمجيد القوة وإسقاط القيمة الأخلاقية . إذ يستخدم الصهاينة ـ شأنهم في هذا شأن النازيين ـ مصطلحاً محايداً ، فهم لا يتحدثون عن طرد الفلسطينيين وإنما عن "تهجيرهم" أو " دمجهم في المجتمعات العربية " . وهم لا يتحدثون مطلقاً عن " تفتيت العالم العربي " وإنما عن " المنطقة " ولا يتحدثون عن " الاستيلاء " على القدس وإنما عن " توحيدها " ولا عن الاستيلاء على فلسطين أو " احتلالها " وإنما عن " استقلال " إسرائيل أو عن " عودة الشعب اليهودي " إلى أرض أجداده .
ويتضح التطابق بين النازيين والصهاينة بكل جلاء في واحد من أهم التصورات النازية . فقد كان النازيون ـ شأنهم شأن أية عقيدة تدور في إطار القومية العضوية ـ يؤمنون بوجود دياسبورا ألمانية تربطها روابط عضوية بالأرض الألمانية . وأعضاء هذا الشتات الألماني مثل أعضاء الشتات اليهودي يدينون بالولاء للوطن الأم ويجب أن يعملوا من أجله . وربما لأن العودة للوطن الأم أمر عسير ، كما هو الحال مع الصهاينة ، اقترح النازيون ما يشبه نازية الشتات ( مثل صهيونية الشتات ) عن طريق تشجيع الألمان في الخارج على دراسة الحضارة واللغة الألمانيتين . وكان للنازيين ما يشبه المنظمة النازية العالمـية التي كانت لها صـلاحيات تشـبه صلاحيات المنظمة الصهيونية العالمية ، وكانت لها مكانة في ألمانيا تشبه من بعض الوجوه مكانة المنظمة الصهيونية في إسرائيل . وقد تعاون الألمان، في كل أنحاء العالم مع السفراء والقناصل الألمان ، تماماً كما يتعاون اليهود والصهاينة مع سفراء وقناصل إسرائيل في بلادهم .
ولنا أن نلاحظ الأصول الألمانية الراسخة للزعماء الصهاينة الذين صاغوا الأطروحات الصهيونية الأساسية . فتيودور هرتزل وماكس نوردو وألفريد نوسيج وأوتو ووربورج كانوا إما من ألمانيا أو النمسا يكتبون بالألمانية ويتحدثون بها ، كما كانوا ملمين بالتقاليد الحضارية الألمانية ويكنون لها الإعجاب ولا يكنون احتراماً كبيراً للحضارات السلافية - غيَّر هرتزل اسمه من " بنيامين " إلى " تيودور " حتى يؤلمن اسمه ، وسمَّى ماكس نوردو نفسه بهذا الاسم لإعجابه الشديد بالنورديين - ومن جهة أخرى ، كانت الألمانية لغة المؤتمرات الصهيونية الأولى وتوجـه الزعماء الصهاينة أول ما توجهوا لقيصر ألمانيا لكي يتبنى المشروع الصهيوني . وقد أكد جولدمان أن هرتزل قد وصل إلى فكرته القومية " العضوية " من خلال معرفته بالفكر الألماني .
وكان كثير من المستوطنين الصهاينة يكنون الإعجاب للنازية ، وأظهروا تفهماً عميقاً لها ولمُثُلها ولنجاحها في إنقاذ ألمانيا بل اعتبروها حركة تحرر وطني وسجل حاييم كابلان ، وهو صهيوني كان موجوداً في جيتو وارسو حينما كان تحت حكم النازي أنـه لا يوجد أي تناقض بين رؤية الصهاينة والنازيين للعالم فيما يخص المسألة اليهودية ، فكلتاهما تهدف إلى الهجرة ، وكلتاهما ترى أن اليهود لا مكان لهم في الحضارات الأجنبية . وقد ظهرت في ألمانيا ، في الثلاثينيات ، جماعة من المفكرين الدينيين اللوثريين الذين أدركوا العناصر الفكرية المشتركة بين النازية الصهيونية وأبعادها العدمية ومنهم هاينريش فريك الذي حذر اليهود من فكرة الشعب العضوي التي يدافع عنها النازيون والصهاينة ، كما عَرَّف كلاً من النازية والصهيونية بأنهما حركتان حولتا النزعة الأرضية ( الارتباط بالأرض ) والدنيوية ( الارتباط بالدنيا ) ، وهما من الأمور المادية ، إلى كيانات ميتافيزيقية ، أي إلى دين ، وأن النازية والصهيونية تتبنيان الرأي القائل بأن ألمانيا لا يمكنها أن تقبل اليهود أو تظهر التسامح تجاههم .
وهذا التماثل الفكري كان مقدمة لعلاقات صهيونية نازية بعضها أدى الكشف عنه لعواصف داخل الكيان الصهيوني ، حيث كشف النقاب عن أن بعض القيادات الصهيونية في الجيتوات اليهودية تعاونت بشكل مباشر مع النازي في عملية إبادة اليهود وقاموا بخداع الضحايا ليساقوا للمسلخ دون مقاومة ، وأن قيادات المنظمة الصهيونية العالمية فضلت الحصول على دعم للمشروع الصهيوني في فلسطين على إنقاذ اليهود من الهولوكوست بل عقدت اتفاقا مع النازي في هذا السياق ، وهو موضوع مقالنا القادم .