خصصت الجامعة العربية مشكورة مبلغا ضخما لتحقيق السلام في الصومال، بدءا بنزع سلاح المليشيات القبلية، فخلال الاجتماع الوزاري الأخير صدر قرار عن الجامعة بتقديم مليون دولار للحكومة الصومالية الجديدة لنزع نحو مليوني قطعة سلاح في أيدي المواطنين، وقال رئيس الحكومة الصومالية إن المبلغ لا يكفي لنزع السلاح في حي واحد من أحياء أي بلدة صومالية،.. والتفسير الوحيد لهذا السخاء العربي هو أن من اعتمدوا ذلك المبلغ المهول لا يعرفون شيئا عن الصومال.. عندما اشتعلت الحرب في البلقان ما من رئيس أوروبي، إلا وزار المنطقة "بدل المرة أربع"، والصومال من الناحية النظرية "عربي" وعضو في كل المنظمات العربية عديمة الجدوى، ولكن العرب الوحيدين الذين زاروا الصومال خلال الـ 15 سنة الأخيرة هم المتطوعون العاملون في جمعيات الإغاثة.. وحتى هؤلاء لم يعد بإمكانهم زيارة الصومال مجددا لأن "الإغاثة العربية" إرهابية بالضرورة! والشاهد هو أن معظمنا بمن فينا كبار المسؤولين لا نعرف عن الصومال سوى أن به حربا أهلية منذ سقوط نظام حكم الديكتاتور سياد بري.. من يحارب من؟ ولماذا؟ الله أعلم! والعرب قاطبة في منتهى السعادة لأن الحرب الأهلية في السودان "انتهت"، ولكن كل ما يعرفونه عن تلك الحرب هي أنها كانت بين أفارقة لا يحبون العرب، وعرب لا يأتيهم الباطل من أمامهم أو من خلفهم! وعندما جرى حفل ضخم لتوقيع اتفاق السلام الذي هلل له العرب، كان القادة العرب غائبين (باستثناء الرئيس الجزائري)! دعك من السودان والصومال، فهذان بلدان عروبتهما "نُص كُم"،.. تابع محاضرة يقدمها شخص يمدح أو يسب اتفاقات أوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين ثم اسأله: ما هي بنود وعد بلفور الذي يقال إنه مهد لقيام إسرائيل؟ سيقول لك كلاما عاما هلاميا ويختمه بمعلبات من شاكلة: ورغم أنف بلفور ستقوم الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس!! رجل الشارع العادي ليس مطالبا بدراسة تاريخ القضية الفلسطينية أو الإلمام بتفاصيل الصراع السياسي في السودان، ولكن الطامة هي أن الإعلاميين العرب أنفسهم - وأنا منهم - لا يعرفون عن القضايا التي يتناولونها يوما بعد آخر سوى قشورها، وأخطر ما في مهنة الصحافة هو أنها تعطيك الإحساس بمواكبة الأحداث.. ولكنه إحساس كاذب ومواكبة سطحية: نعم الصحفي يعرف أن 34 شخصا قتلوا أمس في العراق وأن خطوط النفط شمال كركوك تعرضت للنسف، وأن موزمبيق تبرعت بمئة ألف دولار لضحايا السونامي، وأن ليلى علوي لم تزل عانسا! سو وات؟ ثم ماذا بعد؟
وكي لا يصمني الزملاء بالتعالي أقول إنني لم أقرأ طوال حياتي سوى كتاب واحد يتناول "تاريخ" النزاع الفلسطيني الإسرائيلي" وهو "البندقية وغصن الزيتون" للصحفي البريطاني ديفيد هيرست.. طبعا قرأت كذا كتاب عن سيرة أبو عمار، ومذكرات أبو جلمبو وكيف نجا من الاغتيال، وكيف كاد أن يحرر فلسطين لولا أنه أصيب بنزلة برد بسبب فيروس دسته له مخابرات دولة شقيقة.. باختصار نحن تربينا على قشور المعرفة.. ونظامنا التعليمي برمجنا كي نكون سطحيين لأن التعمق في الأمور يجيب الكلام الـ"مو زين".. وقد قررت أن أخصص كذا زاوية متتالية لتعريفكم بأشياء قد لا تعرفونها عن السودان (ولا أزعم أنني أعرف سوى القليل عنه).. أعانكم الله وألهمكم الصبر الجميل.