هنا، لنا أن نلاحظ أن الولايات المتحدة هي اليوم تحتاج إلى تركيا أكثر من أي وقت مضى، وذلك لكي تلعب دوراً في سلسلة من الأدوار في الشرق الأوسط، وخاصة في العراق، إضافة إلى أفغانستان، ناهيك عن أوروبا. بل، إن النقطة المركزية في ملامسة أبعاد وملامح الدور التركي، بخصوص الشرق الأوسط، هي محورية تركيا في الإطار العام لكل من الرؤية الأمريكية، ونظيرتها الإسرائيلية، لهذه المنطقة من العالم.. إذ، رغم سقوط الاتحاد السوفياتى، فقد ظلت تركيا تحتل موقعاً متقدماً في الإستراتيجية الأمريكية؛ ناهيك عن محوريتها في الاهتمام الإسرائيلي.. فهي تحيط سورية شمالاً والعراق شرقاً، وتشكل ـ رغم ما حدث إبان الحرب الأمريكية على العراق ـ القاعدة المتقدمة للقوات الأمريكية (أنجرليك).
بل إن هذا الموقع المتقدم، الذي تتمتع به تركيا، في الإستراتيجية الأمريكية، قد ازدادت أهميته في إطار الأوضاع الجديدة في منطقة وسط آسيا، على الأقل: من منظور إمكاناتها في الحركة بالنسبة إلى الجمهوريات الإسلامية هناك، التي تربطها بها روابط ثقافية وعرقية وجغرافية، وتاريخية أيضاً.
من هنا، يبدو الاهتمام الأمريكي المميز بالوضع "الاقتصادي" التركي.. ومن هنا، أيضاً، يأتي التلاقي الإستراتيجي في ما بين إسرائيل وتركيا.. خاصة وأن الأخيرة تدرك تماماً فحوى الترتيبات الإستراتيجية، المعدة أمريكياً، بخصوص المنطقة العربية، والدور المحوري لإسرائيل في إطار هذه الترتيبات؛ كما تدرك تماماً ما في حوزتها (=تركيا) من أوراق، يمكن استخدامها في حجز مكان لها في تلك الترتيبات (ورقة المياه، مجرد مثال).. أما إسرائيل، فتدرك هي الأخرى مدى الاهتمام التركي بمنطقة جوارها الجغرافي العربية، منطقة "الهلال الخصيب"، ومدى حاجتها إلى الخبرة الإسرائيلية في جنوب لبنان (الشريط الحدودي الذي أقامته إسرائيل هناك)، وذلك في ما يخص منطقة حدودها مع العراق.. ناهيك ـ قطعاً ـ عن الإدراك الإسرائيلي لـ "لتنافس" الحاصل في ما بين تركيا وإيران، بخصوص النفاذ إلى المنطقة العربية.
هذا، وإن كان يشير إلى بعض من ملامح الصورة العامة للدور التركي بخصوص منطقة الشرق الأوسط بصفة عامة، ومنطقة الجوار الجغرافي (العربية) لتركيا، أي: منطقة "الهلال الخصيب"، على وجه الخصوص.. إلا أنه، في نفس الوقت، يؤكد على ضرورة اعتماد زوايا أخرى، أكثر اتساعاً، في اتجاه التعرف على سمات وملامح الرؤية التركية لنفسها ولدورها الإقليمي.
ضمن أهم هذه الزوايا، إن لم تكن أهمها بالفعل، هي تلك التي يمكن التعبير عنها بمقولة: "ثنائية التكوين وثلاثية الاهتمامات".. إنها المقولة التي تعبر عن المعادلة الحاكمة للدور التركي في الشرق الأوسط.
من حيث "ثنائية التكوين".. فإن تركيا تواجه عملياً وضعين في تكوينها الإقليمي: الأول، موقعها "الأوروبي"، حيث تشكل جزءاً من النظام الأمني العام عبر عضويتها في حلف الأطلسي (الناتو)؛ لكن هذا الموقع يأخذ شكلاً آخر اليوم، لأن تركيا تقع على حدود منطقة "البلقان"، ويجمعها مع هذه المنطقة عوامل مشتركة تاريخية وثقافية. ورغم أن الدور التركي ما يزال ـ حتى الآن ـ محدوداً، إلا أنه في حال ظهور ترتيبات إقليمية في "شرق المتوسط"، فإن هذا الدور سيصبح أكثر فاعلية..
أما الوضع التركي الثاني، فيتعلق بالواقع الثقافي لها.. ورغم الحالة "العلمانية" التي تحكمها، إلا أنها تملك تراثاً إسلامياً واضحاً، وهو حاضر في الإستراتيجية السياسية تجاه آسيا الوسطى، والمنطقة العربية (والمسألة الفلسطينية في القلب منها).. وبالتالي، فهي تعتبر أنها تمتلك "واقعاً حيوياً" يتيح لها التأثير في أزمات العالم العربي والإسلامي.
ولعل هذا ما يفسر إشكالية الهوية في تركيا، تلك التي تأتي من جراء عدم القدرة على حسم التناقض بين التراث والثقافة الإسلاميين، وبين مقتضيات نقل الثقافة الغربية، أي: العجز عن التعاطي مع النموذج الغربي مع الاحتفاظ بالهوية الأصلية.
ولعل هذا ما يفسر، في الوقت نفسه، الوضعية الخاصة لتركيا، أو ما أطلقنا عليها مسمى: "ثنائية التكوين".. هذه "الثنائية"، التي لابد وأن تؤثر على النخبة هناك، من منظور رؤيتها لنفسها، ولـ"الدور التركي" في الشرق الأوسط.. وهذا هو ما يتبدى بوضوح إذا لاحظنا: "ثلاثية الاهتمامات" التركية تجاه هذه المنطقة، التي تمثل ـ واقعياً ـ مجال حركتها الإقليمية.
من حيث "ثلاثية الاهتمامات".. فإن تركيا تهتم عملياً في توجهاتها، وخاصة تلك المتعلقة بالمنطقة العربية، بثلاث مسائل رئيسة، هي: الأمن والاقتصاد والمياه، وهي المسائل التي تفتح مجالاً جديداً لقراءة أكثر عمقاً داخل الخارطة السياسية في منطقة "الشرق الأوسط" عموماً، وفي التوجه التركي تجاه هذه المنطقة على وجه الخصوص.
فالأمن، لا يعني فقط مقولة مكافحة "الإرهاب"، وإنما التحديد لـ"وسائل" ضمان إزالة المخاطر التي تهدد الإسلام، بحسب تعبير المسؤولين الأتراك..
والمياه، إحدى أهم الأوراق الرابحة في اليد التركية، خاصة بعد ما دخل تنفيذ مشروع جنوب شرقي الأناضول، الذي يطلق عليه الأتراك "مشروع الغاب"، مرحلة حاسمة (يتمثل المشروع في إنشاء 22 سداً على نهري دجلة والفرات)، ووضع اليد التركية ـ بالتالي ـ على الموارد المائية الحيوية الخاصة بكل من سوريا والعراق. وتتبدى أهمية المياه، كورقة رابحة في المنظور التركي، عبر المشروع (التركي) طويل الأجل، المتعلق بتصدير المياه إلى المنطقة، منطقة "شرق المتوسط"..
والاقتصاد، الذي يخضع بدوره إلى مفهوم يربطه بجملة التطورات الممكنة والمتمحورة حول الترتيبات الإقليمية في المنطقة، في إطار تسوية الصراع بين "العرب.. وإسرائيل". فالاقتصاد، في هذه الحال، تأكيد على مقدرة تركيا في دعم كافة المشروعات الاقتصادية المشتركة في المنطقة.
ولعل الاستخدام التركي لمثل هذه الأوراق يأتي، أو: لابد أن يأتي، معتمداً على "ثنائية التكوين"، التي يمكن أن تساهم في تحقيق أقصى استفادة ممكنة لـ "ثلاثية الاهتمامات" التركية، من جهة.. والتي يمكن أن تشكل، مع العامل "الإسرائيلي"، من جهة أخرى، أبعاداً جديدة لها تأثيراتها على كافة الاحتمالات الخاصة بتلك الترتيبات الإقليمية في شكلها النهائي.
.. وهذا ما يبدو بوضوح على أكثر من جانب..
فعلى الجانب الخاص بـ "الأمن".. تربط تركيا مشكلاتها مع الأكراد، بـ"السلام" في المنطقة عموماً. إذ أن عدم الظهور السياسي للمسألة الكردية في محادثات "السلام"، لا يعني غيابها، فهي حاضرة في الشكل العام لـ "السلام"، خصوصاً في ما يتعلق بالمفاوضات المتعددة الأطراف (المتوقفة حالياً)، وزيارات المسؤولين الأتراك إلى "إسرائيل"، خلال العامين الأخيرين، فيهما ربط واضح لمسألة "الإرهاب" داخل تركيا بـ "سلام المنطقة" عموماً.
ومن هنا، يمكن ملاحظة أن "الهاجس الكردي" كان وراء حالة الارتباك في الموقف التركي من الحرب الأمريكية على العراق. ولكن، بعد أن تم احتلال العراق، تحاول تركيا ضبط الوضع الإستراتيجي لها مع المتغيرات الجديدة في المنطقة.
وعلى الجانب المتعلق بـ"الاقتصاد".. يرتبط المفهوم التركي في هذا الشأن، بالمحاولات التركية في اتجاه تحويل إسطنبول إلى المركز المالي والاقتصادي الأول في الشرق الأوسط (بدلاً من بيروت) من جهة.. وإمكانية إحياء دور بيروت، وحيفا، كمركزي الثقل الجديدين ـ اقتصادياً ومالياً ـ في المنطقة، من جهة أخرى، وذلك في إطار كافة الاحتمالات الخاصة بعودة مسيرة عملية التسوية، تسوية الصراع بين "العرب.. وإسرائيل"، وما تتضمنه من مشروعات اقتصادية وترتيبات إقليمية.
أما على الجانب المتمحور حول "المياه".. يبدو أن تركيا تحاول، من ناحية، أن تنهي المشكلة الكردية بمعزل عن مشكلة المياه، حتى تبقي على مسألة المياه كـ "ورقة ضغط" في علاقاتها مع العراق وسوريا.. ومن ناحية أخرى، فإن المشروعات المائية التي طرحت سابقاً، أو تطرح اليوم عبر العلاقات "التركية ـ الإسرائيلية"، هي بديل اللقاءات والاتفاقات "السورية ـ العراقية ـ التركية"، سابقاً، بخصوص اقتسام المياه..
وهنا ينبغي ملاحظة أن مشروعاً كمشروع "أنابيب السلام"، على سبيل المثال، إنما يجسد المفهوم التركي لمسألة الأمن والاقتصاد. إذ ليس مطلوباً من "إسرائيل" وبلدان الطوق العربية، أن تتعانق على "الطريقة العربية" في فض الخلافات؛ بل، لا بد من إنشاء شبكة علاقات اقتصادية وتطوير مفهوم الأمن بحيث يتم إيقاف العداء.. وهو، في ما يبدو، توجه يقترب، بل يلتقي، مع التوجه "الإسرائيلي".
هذه الجوانب الثلاثة تلتقي، ولا شك، عند نقطة أساسية مفادها: أن تركيا، وإن كانت قد بنت سياساتها الخارجية خلال العقود الماضية، وعين لها على أوروبا وعينها الأخرى على الشرق الأوسط عموماً، ومنطقة جوارها الجغرافي، منطقة "شرق المتوسط"، أو: "الهلال الخصيب" بالأحرى، بوجه خاص.. فإنها اليوم، وأياً ما كان الموقف الأوروبي من مسألة تحديد موعد بدء المفاوضات معها بشأن انضمامها إلى الاتحاد، لابد أن تركز على منطقة جوارها الجغرافي بصورة أكثر من ذي قبل.
ولعل هذا التوجه التركي إلى المنطقة العربية، عبر تركيزها المتنامي على منطقة شرق المتوسط، إنما يتواكب مع الإدراك التركي لما تؤهل له المنطقة في المستقبل القريب، وحرص أنقرة على تنمية دورها الإقليمي خلال المرحلة المقبلة.
ربما لا نغالي إذا قلنا: أن ثمة محاولات حثيثة من جانب دمشق على الدفع في اتجاه تغيير المعادلة الحاكمة في شرق المتوسط على وجه الخصوص.. وفي هذا الاتجاه، لابد أن يأتي تخفيف الضغوط الأمريكية على سوريا، كواحد من أهم عوامل تغيير هذه المعادلة.
وإذا كانت السياسة الخارجية الأمريكية ما تزال على حالها منذ أحداث 11 سبتمبر الشهيرة، بخصوص قيامها على أساس "الإملاء" وليس "التفاوض".. وإذا كانت الأمثلة على ذلك كثيرة، فإن ما يهمنا في هذا المجال، هو إقرار مجلس النواب في الكونغرس الأمريكي لقانون "محاسبة سوريا واستعادة سيادة لبنان" (تم إقرار القانون في: 15 أكتوبر 2003؛ وجاءت موافقة مجلس النواب بأغلبية 398 عضواً، في مقابل اعتراض أربعة أعضاء فقط).
فإقرار مثل هذا القانون لم يكن، في أحد جوانبه، سوى قرار سياسي أمريكي يتوخى "قبض الثمن" على محوري القضية العراقية والقضية الفلسطينية، من خلال الضغط على سوريا، وغيرها، لإضعاف موقفها، ومواقف الأطراف المعنية، من هاتين القضيتين.
الدليل على ذلك، أن "الحوار غير المباشر" بين سوريا والولايات المتحدة الأمريكية ما يزال قائماً، ولم ينقطع.. إذ، يكفي أن نلاحظ أن التصويت السوري على القرار "1511"، هو ـ في حقيقته ـ كان محاولة "تسليف" هذا الموقف إلى الرئيس الأمريكي جورج بوش (باعتبار أنه سيختار اثنتين من قائمة العقوبات الواردة في مشروع قانون "محاسبة سوريا" بعد إقراره من مجلس النواب في الكونغرس).. وفي الوقت نفسه، لنا أن نلاحظ أن الرئيس الأمريكي قام بإشارة مقابلة عبر ترشيحه مارغريت سكوبي سفيرة لبلاده في دمشق.
بيد أن مثل هذا "الحوار غير المباشر"، لا يعني، ولا يمكن أن يعني، أن ليست هناك محاولة أمريكية في الضغط على سوريا، من خلال القانون ذاته: قانون "محاسبة سوريا واستعادة سيادة لبنان"..
إذ، أن هذا القانون يقضي بحظر التجارة الأمريكية مع سوريا، في مواد يمكن أن تستخدم في برامج الأسلحة. كما يعطي الرئيس الأمريكي سلطة فرض عقوبات تجارية ودبلوماسية أخرى، منها منع الشركات الأمريكية من الاستثمار في سورية، وتقييد سفر دبلوماسيين سوريين إلى الولايات المتحدة، وتقليل الاتصالات الدبلوماسية بين الجانبين.. هذا، مع ملاحظة أن تلك العقوبات تدوم إلى أن يقول البيت الأبيض أن سوريا كفت عن "رعاية الإرهاب وأوقفت برامجها لأسلحة الدمار الشامل".
وهكذا، يأتي قانون "محاسبة سوريا واستعادة سيادة لبنان"، ومن قبله الغارة الإسرائيلية على "عين الصاحب" قرب دمشق، ليشكلا معاً واحد من الملامح المهمة في السياسة الخارجية الأمريكية الراهنة.. نعني: إمكانية استخدام إسرائيل كـ "ذراع عسكرية" أمريكية للترهيب، أو لتنفيذ بعض الإشارات ذات المغزى السياسي والإستراتيجي.
وبالتالي، يأتي التفاهم "السوري ـ التركي"، كواحد من العوامل الدافعة للمحاولات السورية، ليس في تخفيف الضغوط الأمريكية عليها.. ولكن، وهذا هو الأهم، في تغيير المعادلة الحاكمة في شرق المتوسط.