ليس هناك شيء اضر على العاقل من اتخاذ قرار متعجل في لحظة غضب وانفعال، فمثل هذه القرارات التي تكون وليدة ظروف نفسية قاهرة لا تسلم غالبا من الجور والشطط، فحين تتبوأ العاطفة المتقدة موقع الحكم يتوارى العقل منسحبا على استحياء، اذ انهما كالسيفين اللذين لا يجتمعان في غمد، وكالربانين اللذين يتنازعان مقود السفينة فلا يمضي رأي احدهما إلا بتنحية الآخر, وفي ظل الحوادث الدموية المؤسفة التي شهدتها البلاد هذه الأيام فإننا في مسيس الحاجة الى الأناة والتروي والاصغاء الى صوت الحكمة المتزن لينجح المجتمع في تجاوز هذه المحنة الطارئة التي ازعجت البلاد والعباد. ثمة ثوابت مهمة ينبغي التنبه لها عند علاج ظواهر العنف والصدام، وهي بلا ريب اولى بالاعتناء والاحتفاء من بيانات الشجب والاستنكار التي لا تعدو تسجيل موقف رافض ـ شخصي او حزبي ـ ليس له من مردود فاعل على ارض الواقع, اول هذه الثوابت يتمثل في التأكيد على المبدأ الإلهي العادل (ولا تزر وازرة وزر اخرى) فمعاقبة الجناة بارتكاب حادثة قتل رجلي الامن ينبغي ألا تتعداها الى اخذ البريء بجريرة الجاني، ففي مثل هذه الظروف التي يبلغ فيها الشحن النفسي مداه قد تغيّب هذه القاعدة العادلة، وان كان لا احد ينازع الاجهزة الامنية حقها في القيام بواجباتها في صيانة امن الوطن والمواطن الا ان هذا لا يتيح تحت اي مسوغ اعتقال الابرياء بلا ادلة مرجحة وحجج مقنعة، نقول هذا من باب التذكير وان كان المسؤولون يؤكدون في اكثر من مقام على التزامهم التام بهذا المبدأ، لكن في ظل هذه الظروف الحرجة يغدو التذكير بالثوابت المعلومة مستحسنا مطلوبا.
وثانيها: التسلح بالحكمة والفطنة للوصول الى قرار سليم بعيد عن اي تأثير خارجي يستهدف تحقيق مصالح شخصية خاصة باسم مصلحة الوطن، فمن يطلع على كتابات خصوم التيار الاسلامي يهوله حجم ما تنضح به من خطاب تحريضي استئصالي يلتحف بعباءة الوطن ويتستر بحماية المصلحة العامة للبلد، فقد وجد هؤلاء الاستئصاليون في هذه الحوادث الدموية فرصة مواتية لتحريض الدولة ضد التيار الإسلامي بمختلف فصائله وتوجهاته، فلم يسلم من ذلك نواب الأمة الذين رأى فيهم اصحاب هذا الخطاب الشططي رعاة للإرهاب، ومن ثم ينبغي حل مجلس الأمة (!) لتنفذ الحكومة حلها الامني دون معارضة، ومنهم من دعا الى الغاء تدريس مادة التربية الاسلامية في المدارس لكونها تحرض على العنف، وحث وزارة الإعلام على منع بث البرامج الدينية في التلفاز لكونها تلوث فكر الناشئة وتبذر الارهاب في نفوسهم، وانجر الحديث كالعادة الى إغلاق الجمعيات الخيرية باعتبارها محاضن للإرهاب! والحق انهم كانوا كالنائحة التي وجدت لها مأتما كبيرا تستعرض فيه مهارات اللطم والنياحة وفن شق الجيوب!
وثالث هذه الثوابت يتمثل في التشخيص السليم لهذه الحوادث والدوافع التي دفعت الجناة الى ارتكابها، وهو ما يمثل الخطوة الاولى في طريق العلاج، ومن الأهمية بمكان ألا نقصر نظرنا المتفحص على رقعة وطننا الصغيرة، وألا نجرد الحدث من السياق الموضوعي لمتوالية الاحداث التي تعصف بالمنطقة برمتها، فلا ننظر الى القضية باعتبارها شأنا داخليا محضا، فثمة عوامل خارجية مؤثرة لا ناقة لنا فيها ولا جمل، وهو ما يعني ان اقتراح العلاج قد لا يكون بتلك السهولة التي يتوهمها كثيرون ممن لا يرون لها علاجا سوى (الكي) الامني، ولذا فلا غنى عن تضافر عقول اهل الحكمة وارباب الخبرة لتأخذ القضية حقها من الفحص والتقليب والمشاورة، والحذر الحذر من الرأي الفطير الذي لم يختمر!