أهم ملامح الصورة الجديدة للهولوكوست قضية تورط بعض أعضاء الجماعات اليهودية من الصهاينة وغير الصهاينة في علاقة تعاون وثيقة مع النازي ومن نماذج هذه العلاقات دور المجالس اليهودية التي كان النازيون يقيمونها بين أعضاء الجماعات اليهودية التي تقع تحت سلطتهم وكان سلوك أعضاء هذه المجالس يتراوح بين التعاون مع النازيين في المجالات الاقتصادية والخضوع التام لكل مطالبهم وضمنها الإبادة مقابل حماية مصالح القيادات اليهودية . ويرى كثير من المؤرخين اليهود وغير اليهود أن هذه المجالس مسؤولة إلى حد كبير عن إذعان الجماهير اليهودية وإحجامهم عن مقاومة مخطط الهولوكوست . وبإمكان المرء تخيل أن ملايين الضحايا قد رفضوا في ظروف الحرب ركوب القطارات التي كانت تجمعهم لنقلهم لمعسكرات السخرة والإبادة ، فلعل هذه المقاومة كانت قادرة على إبطاء تنفيذ المخطط وربما إفشاله ، ويقدر المؤرخ اليهودي إزياه ترنك أن أعضاء الجماعات اليهودية لو رفضوا تنفيذ تعليمات المجالس اليهودية لنجا نصفهم على الأقل .
وبدلا من الاحتفاء غير المقبول أخلاقيا - فضلا عن مردوداته السياسية السلبية - بمنكري الإبادة يمكن إحراز نتائج أفضل على المستويين المعرفي والسياسي بالتركيز على الصهاينة الذين تورطوا في جريمة الإبادة النازية . ومن النماذج الصادمة لهذا النوع من القيادات الصهيونية ألفريد نوسيج أحد مؤسسي الحركة الصهيونية مع هرتزل وهو واضع أسس علم الإحصاء الخاص بين الجماعات اليهودية . كان نوسيج خلال الحرب العالمية الثانية مخبرا للسلطات الألمانية ونظرا لمعرفته الوثيقة بأعداد اليهود وتوزعهم الجغرافي بحكم تخصصه العلمي وضع نوسيج خطة متكاملة لإبادة اليهود الألمان المسنين والفقراء وتهجير الباقين أو إبادتهم !!!! ، وقد اكتشف أعضاء جماعة اليهودية في جيتو وارسو تعاونه مع النازي وأنه عضو في الجستابو فأعدم رميا بالرصاص بعد محاكمته واختفى اسمه تماما من الأدبيات الصهيونية رغم دوره التأسيسي في الحركة الصهيونية .
ورغم أن واحدا من أهم الرموز الصهيونية هو حاييم كابلان قد ترك شهادة خطيرة عن الهولوكوست إلا أنها ترجمت إلى لغات عدة ليس من بينها العربية ، وشهادته التي هي يومياته " مخطوطات العذاب " تحكي يوما بيوم ما رآه بنفسه في جيتو وارسو وقد أدان فيها القيادات اليهودية في الجيتو وفضح دورها في تسليم اليهود للنازي لتتم إبادتهم .
أما رودلف كاستنر فتعد سيرته دليل الإدانة الأخطر للحركة الصهيونية كلها وللكيان الصهيوني ، فقد كان كاستنر نائب رئيس المنظمة الصهيونية في المجر ثم أصبح مسئولا عن " إنقاذ " المهاجرين اليهود من بولندا وتشيكوسلوفاكيا إذ كان رئيس لجنة الإغاثة في بودابست التابعة للوكالة اليهودية .
اتصل كاستنر بالمخابرات المجرية والنازية حتى قبل الاحتلال النازي للمجر ، وعندما جاء النازيون للمجر تمكنوا من نقل 800 ألف يهودي لمعسكرات السخرة والإبادة باستخدام 150 موظفا وحسب وهو ما لم يكن ممكنا لو دور كاستنر إذ أقنع الضحايا بأنهم ينقلون إعادة تسكينهم وتأهيلهم مهنيا ، أما المقابل فكان السماح عام 1941 بترحيل 318 يهوديا ثم 1386 آخرين إلى فلسطين المحتلة !!
وقد انتقل كاستنر بعد الحرب إلى فلسطين المحتلة وانضم لحزب الماباي ورشح للكنيست الأول ، وفي عام 1952 أرسل المواطن الإسرائيلي مايكل جرينوولد كتيبا لبعض القيادات الصهيونية اتهم فيه كاستنر بالتعاون مع النازيين وبأنه دافع عن أحد ضباط الحرس الخامس النازي إس إ س أثناء محاكمات نورمبرج ما أدى إلى تبرئته وإطلاق سراحه . وبذل الحزب الحاكم في الكيان الصهيوني جهودا مضنية لإنقاذ كاستنر ، أما هو فقال أثناء محاكمته إنه لم يتصرف على نحو فردي بل تصرف بتفويض من الوكالة اليهودية ( التي أصبحت فيما بعد الدولة الصهيونية ) !!!!
وقد طلبت شهادة مواطن إسرائيلي يدعى جويل براند كان على علم بالمقايضة الشيطانية التي تمت بين الصهاينة والنازي وآثر ألا يشهد ثم أصدر كتابه " الشيطان والروح " قال فيه : " إن لدي حقائق تبعث على الرعب وتدمغ رؤوس الدولة اليهودية " ، وأضاف : " لو نشرت مثل هذه الحقائق لسالت الدماء في تل أبيب " . وقد قضت المحكمة بأن معظم ما جاء في كتيب جرينوولد يتطابق مع الواقع ، وبعد إشكالات قضائية كثيرة انطلقت رصاصات مجهول لتسكت رودلف كاستنر للأبد ! .
ولا تقتصر الصورة المزيفة للهولوكوست على دور القيادات اليهودية الصهيونية وغير الصهيونية فيه بل يشمل كذلك حقيقة موقف جمهور الجماعات اليهودية منه ودوره في مقاومته وهو ما بدأ يخضع لإعادة التقييم داخل الكيان الصهيوني نفسه . وقد نشرت هآرتس الإسرائيلية معلومات شديدة الإثارة عن قضية إعادة تقييم ما يسمى " ثورة الجيتوات " ( يئير شيلغ ، هآرتس ، 29 / 4 / 2003 ) ، فقبل أربع سنوات ، دعيت الدكتورة سارة بندر المحاضر في قسم تاريخ إسرائيل في جامعة حيفا والمختصة بتاريخ اليهود في بولندا إبان المحرقة النازية ( الهولوكوست ) ، لإلقاء محاضرة في جامعة بار ايلان حول " تمرد الجيتوات " ، وقد سئلت عن هذه الخرافة فقالت : " لم يكن ثمة تمرد في الجيتوات باستثناء جيتو وارسو " . في أطروحة الدكتوراة التي كتبتها ، في بداية الثمانينات ، عن غيتو بياليستوك ، لاحظت للمرة الأولى ، انه خلافًا للخرافة ، لم يكن هناك تمرد . ومنذ ذلك اليوم قدمت سارة محاضرتها تلك مرات عديدة منها مرات أمام قطاعات حساسة كما هو الحال في اليوم الدراسي الذي عقد بمناسبة صدور كتاب عن سيرة حياة الشاعر آبا كوفنر الناجي من الهولوكوست .
وأطروحة بندر ليست جديدة وهي أول من يقر بهذا ، فمنذ الخمسينات كان هناك الشاعر نتان ألترمان الذي جزم بأن الأحاديث عن ظاهرة " ثوار الجيتوات " ليست سوى شعار ، فباستثناء جيتو وارسو لم تكن هنالك أية ثورة او تمرد في أي مكان آخر . لكن سنين عديدة مرت فترسخت الأسطورة وتعززت حتى بدا هذا الكلام وكأنه تجديد عاصف . وتحرص سارة بندر على التذكير بجملة من الحقائق ، فقد كانت هناك بضعة جيتوات صغيرة جدًا وقعت فيها حوادث رفع اليهود خلالها السلاح . لكن حين يجري الحديث عن " ثورة الجيتوات " فان المقصود بها الجيتوات الثلاثة الأكبر : فيلنا ، بياليستوك ووارسو " . في تلك الجيتوات الثلاثة كان هناك حركات سرية سعت إلى تنظيم تمردات ، لكن فقط تلك التي كانت في معسكر وارسو ، نجحت في تحقيق ذلك . ومؤخراً صدر أيضا كتاب المذكرات الذي وضعه نيسان رزنيك آخر من تبقى على قيد الحياة من قادة التمرد هناك .
في فيلنا تأسس التمرد الأول في البداية ، من خلال منشور داعية التمرد كوبنر في 1 يناير 1942 ، وكان قد أدرك أن عمليات الاغتيال المنهجية في غيتو فيلنا لم تكن شأنا محلياً فحسب وأن تلك العمليات تشكل نموذجًا للقضاء على يهود أوروبا عامة ، ولذا كان أول من دعا إلى التمرد في منشور جاء فيه : "حذار من الذهاب كالقطيع إلى المسلخ .. .. .. أن نسقط كمحاربين أحرار أفضل من أن نعيش تحت رحمة القتلة " . وفي اللحظة التي قرر فيها الألمان تصفية المعسكر ( 1 سبتمبر 1943 ) اتخذت التنظيمات السرية قرارًا عكسيًا : لا فائدة من إعلان تمرد عديم الأمل في داخل المعسكر وقرروا الفرار إلى الغابة للانضمام للمحاربين الوطنيين والقتال معهم ، وكان ذلك قرارًا صعبًا بل فظيعا على المستوى الإنساني لأنه كان يعني التخلي عن أبناء العائلة المسنين غير القادرين على الهرب إلى الغابة .
في بياليستوك كان الوضع أكثر تعقيداً وعندما أقيم التنظيم السري الأول هناك كان الرأي السائد أنه يجب إعلان التمرد فقط عند نشوء خطر حقيقي بتصفية المعسكر نهائيا وهو ما يعني أن قرار إعلان التمرد أصبح بأيدي الألمان ، ليجعلوه مسبقًا - حسب تعبير سارة بندر - عملية " موت كريم " فقط وليس عملية إنقاذ وخلاص . وهناك من وصف ذلك بأنه "نضال من أجل ثلاثة أسطر في كتب التاريخ " . أما كوبنر نفسه فقال ، بعد الحرب : " أردنا أن نموت لكن بطريقة تبقينا أحياء في ذاكرتكم " . وحين جاءت لحظة التصفية النهائية لمعسكر بياليستوك وتم طرد سكانه للإبادة ، في آب 1943 ، لم يحدث أي تمرد . أما التمرد الوحيد الذي شمل جموعا من اليهود فوقع في جيتو وارسو . ولكن المجتمع الصهيوني في الخمسينات كان بحاجة إلى قدر من روح البطولة من أجل " موازنة " إهانة الإبادة ، هو ما أوجد خرافة " ثورة الجيتوات " .
في النهاية يبقى الهولوكوست جريمة الحضارة الغربية بحق " الآخر " فالضحايا كانوا من اليهود وغير اليهود وإنكار الهولوكوست لا يحقق نفعا سياسيا كما يتخيل البعض فضلا عن تبعاته الإنسانية والأخلاقية . أما احتكار الهولوكوست والتلاعب بوقائعه وتحريفها لخدمة الأهداف الصهيونية فلا يصلح الإنكار للرد عليه ، كما أن الإقرار بالهولوكوست لا يعني بالضرورة الإقرار بالنتائج التي يحاول الصهاينة ادعاء أنها تترتب عليه بالضرورة فجريمة النازيين - أو الغرب - بحق اليهود لا يقبل أن يدفع ثمنها الفلسطينيون . والتعاون الصهيوني النازي ليس إلا جزءا من الصورة الحقيقية المغيبة عمدا ، فالعواصم الغربية الأكثر انحيازا للكيان الصهيوني الآن هي نفسها العواصم التي تجاهلت مأساة أعضاء الجماعات اليهودية تحت حكم النازي وأغلقت أبوابها في وجه الهجرات اليهودية التي تدفقت هربا من الهولوكوست ، ولا يسوغ أبدا أن ترتكب جرائم متتالية بزعم التكفير عن جريمة سابقة .