منذ أيام قليلة مضت (في: 10 يناير الماضي)، وبأغلبية محدودة، أقر الكنيست الإسرائيلي تشكيل حكومة جديدة، يطلق عليها ـ هناك ـ "حكومة وحدة وطنية"؛ تشكيل يضم الحزبين الكبيرين في إسرائيل، العمل والليكود.
الملاحظة الجديرة بالاهتمام، طبقاً للتشكيل الوزاري الجديد، أن أعضاء حزب العمل، بزعامة شمعون بيريس، سوف يشغلون ثمان حقائب وزارية.. منها: منصب نائب رئيس الوزراء والقائم بأعماله بالوكالة، الذي سيشغله بيريس سخصياً؛ إضافة إلى منصب وزير الداخلية، ووزير البنية التحتية، ووزير الاتصالات. ليست هذه هي الملاحظةالوحيدة، ولكن هناك أخرى جديرة بالتأمل.. نعني: أن موافقة الكنيست هذه، على تشكيل الحكومة الجديدة، تعد بمثابة "صفعة" للنواب الـ 13، المتمردين من حزب الليكود، الذين كانوا قد صوتوا ضد هذا التشكيل؛ وذلك احتجاجاً على خطة شارون لـ "الانسحاب من قطاع غزة".
في هذا الإطار، وفي سياق التصعيد الإسرائيلي الحاصل في قطاع غزة، يبدو أن عديداً من التساؤلات يطرح نفسه..
من هذه التساؤلات: ما الذي يبتغيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، آريئيل شارون، من مثل هذا التصعيد.. وما هي الدوافع من ورائه.. بل، وما هي العلاقة بين التصعيد في غزة، وبين الخطة التي ما يزال يعتمدها: خطة "الانسحاب من جانب واحد" من القطاع، والتي استطاع أن يمررها داخل الكنيست الإسرائيلي، ويحصل منه على موافقتين: إحداهما، تخص الخطة؛ والأخرى، تتعلق بتشكيل حكومة جديدة(؟!).
لا يمكن صرف النظر عن تعددية الدوافع التي تستند إليها الخطة الشارونية.. خاصة تلك التي تتسم بأبعاد ذات طابع يتجاوز المرحليات إلى الرؤية الإستراتيجية.
أهم هذه الدوافع: خلق الفرصة لـ "إعادة صياغة أوسلو" وفق أسس جديدة؛ بمعنى: إنجاز ما يطلق عليه شارون "الحل المرحلي بعيد المدى"، والذي يتلخص في ترحيل قضايا الوضع النهائي إلى سنوات بعيدة، مع منح الفلسطينيين "حكماً ذاتياً"، بمسمى "دولة"، على قطاع غزة.
ولكن، هل هذا يكفي دافعاً لكي يقوم شارون، وإدارته، بتفكيك المستوطنات القائمة في قطاع غزة، وأن يتم الاستغناء، إسرائيلياً، عن فلسفة الاستيطان التي قامت على أساسها الدولة العبرية(؟!).
في الواقع، لا يمكن القفز فوق قاعدة رئيسة في إطار معادلة الصراع بين "الفلسطينيين.. وإسرائيل"؛ إنها تلك التي تشير إلى مركزية قطاع غزة في الإطار العام لإشكاليات المسألة الفلسطينية.
ولعل هذه المركزية التي يتمتع بها القطاع، تؤشر إلى ملامح الصورة التي يتبدى من خلالها مرتكزات الإصرار الشاروني على الانسحاب من القطاع، خاصة إذا لاحظنا المسائل المتعلقة بمثل هذا الانسحاب، أي: مسألة الجدار الفاصل وفك الارتباط، ثم مسألة المستوطنات البديلة لتلك التي سوف يتم تفكيكها في غزة.
في ما يتعلق بالمسألة الأولى، مسألة الجدار الفاصل وفك الارتباط مع الفلسطينيين.. لا نغالي إذا قلنا: أن عملية بناء "الجدار الفاصل" (التي بدأت في: أبريل 2002)، إنما ترتكز على استهداف مؤداه: أن يكون الجدار حائلاً دون وجود امتداد جغرافي لأراضي "الدولة الفلسطينية" المزعوم إقامتها..
ثمة أكثر من مؤشر، ذي دلالة، على مثل هذا القول..
من هذه المؤشرات: أن حجم الجدار وضخامته كاف لمعرفة أن الأمر لا يقتصر على مجرد إقامة حاجز فاصل لتحقيق الأمن؛ ناهيك عن ملاحظة أن الجانب الشرقي من الجدار، الذي سيمتد بمحاذاة الضفة الغربية لنهر الأردن، يكشف عن مخطط إسرائيلي لضم "الجانب الشرقي" من الضفة.
ومن هذه المؤشرات، أيضاً: أن الاستمرار في بناء الجدار سوف يوجد "واقعاً" على الأرض، يصعب تبديله في المستقبل؛ وهو، بالتالي، يعد بمثابة محاولة لترسيم الحدود من جانب واحد، على حساب الجانب الفلسطيني ودون موافقته، بحيث يضع هذا الأخير (الفلسطينيون) داخل "سجن" كبير؛ هذا في حال امتداد الجدار ليلف كل أراضي الضفة الغربية.
ومن هذه المؤشرات، كذلك: أن إقامة الجدار سيمكن إسرائيل من الاستيلاء على نسبة كبيرة من أراضي الضفة الغربية؛ وهو ـ بهذا الشكل ـ سيمكنها من تغيير الواقع الاقتصادي، بعد حرمان المزارعين الفلسطينيين من الوصول إلى أراضيهم، والحيلولة بينهم وبين استغلالها، ثم مصادرتها بـ "صورة قانونية"، اعتماداً على تطبيق إسرائيل لـ "القوانين العثمانية"، التي تعتبر أن الأراضي وقفاً ملكاً للوالي، وفي حالة عدم استغلالها لمدة ثلاث سنوات فإنها تصبح من حق هذا الأخير أو خليفته، أي حكومة إسرائيل (لاحظ أن ثلاثين ألف مزارع فلسطيني قد فقدوا أراضيهم، بعد ما أصبحت على الجانب الأخر من الجدار).
وفي ما يبدو، هكذا، فإن الدائرة المكونة من هذه المؤشرات الثلاثة، وغيرها، إنما تتمحور حول نقطة رئيسة، مفادها: أن عملية بناء الجدار الفاصل، تعبر عن نظام للإغلاق والتطويق والحصار، ويدخل ضمن مخطط سياسي واسع يهدف إلى تقسيم أواصل "الدولة الفلسطينية"..
ولكن، التقسيم في أي اتجاه(؟!).
منطقياً، في اتجاه مصادرة "حلم الفلسطينيون في إقامة دولتهم".. وهو ما كان، وما يزال، شارون يريده؛ منذ أن كان وزيراً للمستوطنات (في: عام 1977)، ومروراً بما قدمه في برنامجه الانتخابي، أثناء حملته للفوز بمنصب رئيس الوزراء (في: عام 1998)، ثم في حملته للانتخابات التشريعية (في: عام 2003).
أما في ما يتعلق بمسألة المستوطنات البديلة.. فيكفي أن نشير، هنا، إلى صحيفة "معاريف" الإسرائيلية، التي كشفت عن اتخاذ المسؤولين الإسرائيليين قراراً بإنشاء مستوطنتين جديدتين، بجوار "الحدود المصرية/الإسرائيلية"، على أن تتم عملية البناء على وجه السرعة، لاستيعاب من سيتم إجلاؤهم عن قطاع غزة..
هذا القرار تم اتخاذه منذ أسابيع قليلة (تحديداً في: 10 نوفمبر الماضي)، في الاجتماع الذي عقد بين يوناثان باشي (رئيس إدارة فك الارتباط)، وعوزي كيرن (مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي)، وأشكول نعماتي (رئيس المجلس البلدي)، الذي أشار ـ حسب ما تذكر الصحيفة ـ إلى أن المستوطنتين سيطلق عليهما "حالوتسيت" و"شلوميت"، وتقامان ـ وهذا هو الأمر الجدير بالتأمل والانتباه ـ على بعد "عشرة" كيلومترات جنوب قطاع غزة، في أرض تابعة للجيش الإسرائيلي، بعد موافقته على إخلائها لأجل هذا الغرض.
الأمر نفسه، أكدته صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية، حيث أشارت إلى أن لديها وثيقة، كانت قد قدمت أخيراً إلى إدارة "فك الارتباط"، بها قائمة طويلة ومفصلة بكل الأراضي "الخالية"، جنوب إسرائيل، التي تعتزم الإدارة الإسرائيلية نقل المستوطنين إليها.
المسألة، إذن، تبدو واضحة.. نقل المستوطنون "من داخل القطاع إلى حدوده"، وهي الحدود التي تلاصق ـ تقريباً ـ الحدود المصرية.
بل، لا نغالي إذا قلنا: أن الرؤية الإسرائيلية بصفة عامة، ورؤية شارون على وجه الخصوص، لم تتغير.. وإنما: هي هي.. حيث ما تزال تعتمد على التوسع والتمدد الإستراتيجي.
وكما قلنا في مقال سابق، فإننا لا نمتلك سوى التأكيد، مرة ثانية، على أن: "الانسحاب من غزة" لم، ولن، يتم إلى الداخل (الإسرائيلي).. بل، على العكس، سوف يتم إلى الخارج، إلى الحدود. وبالتالي، ليس، فقط، محاصرة القطاع وتحويله إلى جزيرة محاطة بالبحر من جانب، وبالإسرائيليين من بقية الجوانب؛ ولكن، أيضاً، التمركز العمراني والبشري على الحدود مع مصر.. أي: زرع البشر في أرض لا يمكن بعد ذلك، وأياً تكن الظروف، اقتلاعهم منها.
وماذا بعد(؟!)
وبعد، تتبدى الاستهدافات الإسرائيلية، بوضوح.. فقد أقام شارون الدنيا ولم يقعدها.. ليس من أجل السلام مع الفلسطينيين، ولكن من أجل التوسع العمراني، والتمدد الإستراتيجي البشري، بكل ما يعنيه ذلك من مؤثرات على المستقبل.
ولعل هذا مايبرر اختيار شارون هذا التوقيت لتشكيل حكومة إسرائيلية جديدة، مع منافسه العتيد، بيريس ومن ورائه حزب العمل.. إذ أن بيريس، في ما يبدو، قادر على تسويق هذه الخطة دولياً، والأهم إقليمياً. أضف إلى ذلك، قدرات حزب العمل، وبيريس نفسه، على التفاوض، خاصة في ظل الارتياح ـ غير المبرر ـ له، سواء عربياً أو فلسطينياً.
فهل يستطيع العمل إنجاز.. ما تعثر فيه الليكود؟