لا شك في أن الحالة البائسة التي تعيشها اليوم الحركة الإسلامية في الجزائر،لم تكن وليدة الصدفة، أو تخلَّقت من العدم.بل كانت منتظرة عند فقهاء السياسة،وفقهاء الإستراتيجيات،منذ باكورة دخولها الحلبة السياسية بغير استعداد مسبق،وإخضاع خطابها العام التربوي الذي كان العمود الفقري،والركن الركين لكل تغيير مجتمعي،يبحث عن منفذ لعالم الروحانية،والكمال،ونيل الدارين،للمطلب الإستعجالي،وللنزعة النفسية وهواها،وخوض المعركة السياسية على اعتبار أن أبناء الحركة الإسلامية عموما ،أولى من غيرهم لتقدم الصفوف،واحتواء المجتمع برمته،وحكمه بما أنزل الله،من أجل سعادته في الدنيا والآخرة.وإذا ما اقتصرنا الحديث عن هذه الحركة التي كانت حقيقة تمتلك مؤهلات قل نظيرها ،مقارنة بأقرانها من داخل نفس المسرح السياسي ،أولها التنظيم الشعبي الذي هو مفتقد عند الكثير من المنظمات الأخرى،وسيطرتها على المرجعية الفكرية التي لن يجادل في مضمونها عاقل،أو يشكك في عقلا نيتها،واستنارتها،وصلاحيتها،في كل عصر ومصر،أي مكابر.فإن ذلك من باب الرغبة في وضع الإصبع على الجرح،وتحديد المسؤوليات،وتسمية الأشياء بمسمياتها،والوقوف على الحقيقة،التي جعلت هذه الحركة تنحدر في سلم العمل الإسلامي،المتعدد الكبير ،وتكون على هذا المستوى الهزيل،وترجع القهقرى في كل ما كانت تدعو له لتنال بدل القدوة،والإقتداء،التنكر والجفاء،وتصبح بين عشية وضحاها،عبرة لمن هب ودب،وتصور على أنها سبب كل البلاء،ومنبع الإرهاب،بشقيه المادي والفكري.لقد أصبحت الحركة الإسلامية،بعنوانها الكبير الإسلام السياسي،في مهب ريح،لا تقدر حتى على رد الاتهامات الموجهة سهاها نحو نحرها،أو على التنديد،أو وإيصال صوتها للآخرين،فكل مخزون جهدها استنفد على قارعة الطريق بين ذهاب وإياب،من أجل الحصول على مقعد سياسي،ونيل رضى السلطان،وإثبات حسن سيرة تجاه الديمقراطية،رغم أنها ابتداء كانت كفرا ورجسا من عمل الشيطان،وأن الدستور المقنن لهذه الديمقراطية وضعي وضيع يتوجب دوسه بالنعال.كل الانتكاسات التي مست هيكل الحركة الإسلامية في الجزائر كانت متأتية من القفزة الكاميكازية التي قام بها عناصر هذا التنظيم،وبشكل غير محسوب،وكان تطورهم في مجال العمل الإسلامي تطورا غير مدروس،واندفاعا كله مخاطرة وقد عبر عن ذلك المفكر و الفيلسوف" جان بياجيه"" إن التطور إذا شابته المغالاة والاندفاع إلى المخاطرة فإن علينا أن ننتظر سلوكا آخر يأتي لتصحيحه" وللأسف التصحيح لم يتأتَّ من الداخل بداية، ولكن جاء من خارج البيت، ومن أطراف يتربصون بهؤلاء القوم،و يقلقها العمل الإسلامي جملة وتفصيلا ،لا ليصحح المسار الحركي لأبناء الحركة الإسلامية،أو هكذا يسمون الأغلبية الغالبة أنفسهم،وإنما ليجهز عليهم،وبصفة نهائية، .وإذا كانت مرحلة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة التي هدّأت الأنفس،ولطفت الأجواء سياسيا،فهي قد أنهت بشكل ولو نسبي أسطورة فزَّاعة السيل الجارف،وجيش القعقاع الذي لا يهزم،ووضعت الحركة الإسلامية في عنق الزجاجة بعد أن جردتها من كل قيمة،وأفرغتها من كل قوة،وأخرجتها للناس على أنها مجرد حركة تبحث عن مآربها،وتتعطش للسلطة شأنها شأن أي حركة علمانية أو حركة يسارية ملحدة.وإن كان هذا لا ينطبق على كل أفراد الحركة الإسلامية الذين أغلبهم قتلوا،أو لزموا بيوتهم عندما كثر الهرج والمرج،ولكن ينطبق على تلك التي تتبعت شبرا بشبر وذراع بذراع خطى السلطة، وبالتالي اختارت أن تكون في صف المؤيدين لمشروع رئيس،معروفة نزعته الاقتصادية،ومعلومة توجهاته المفاهيمية. لقد كانت صراحة في حالة إنعاش تامة لا تتحمل صحتها أن تصارع مايك تايسون،واختلطت عليها السبل،فلم تجد إلا سبيل التسليم،والخنوع،والتقوقع داخل المحمية النظامية التي من المؤكد أنها سوف تبقي على حياتها،بعد أن فقدت تواصلها مع الذات ومع المجتمع الذي كانت تمنيه بالجنة،وتوظيف الحديث الشريف الذي يقول "أفضل جهاد كلمة حق عند سلطان جائر".إن الإسلاميين على مستوياتهم ينظرون اليوم إلى العمل الإسلامي،في الجانب الدعوي على أنه لم يعد في متناول اليد بعد أن بسطت السلطة الفعلية قبضتها على كل مرافق الحياة الدينية،واستولت على كل المنابر المسجدية،وأممت الخطاب الديني،بما يتماشى وسياستها العامة.فالسلطة حاليا لم تترك لهؤلاء الإسلاميين منفذا ولو كسم الخياط منه يتنفسون.والمشكلة حقيقة لا تطرح بهذا الشكل،ما دمنا أمام سلطة لا تقبل بأن تتنازل قيد أنملة عن مكسبها السلطوي ومعارضة إسلامية تتوق إلى أن تكون البديل الأمثل لهذه السلطة ،لأن اللعبة الديمقراطية،في مجملها تقتضي المنافسة،وتقتضي أن يراوغ الجميع ليصلوا إلى شباك المرمى.وبحكم الوضعية الصحية التي عليها الحركة الإسلامية،وجهلها بفنيات المراوغة فإن السلطة دائما تكسب جولات المبارزة،بل جعلت الجميع يسجل في مرماه من حيث أنه يظن أنه يسجل أهدافا لحسابه.التدجين الذي يلازم الحركة الإسلامية،من طرف ذواتهم أولا،ومن قبل أعدائهم ثانيا هو نابع بالأساس من فقدان الثقة في ما بين أيديهم من منهج رباني منزه عن الخطأ،ولو أن الجميع حاليا لا يزالون على هذه المقولة بأن الإسلام يصلح لكل زمان ومكان لكن من غير التوسع في ماهية هذه الصلاحية،ومن غير توضيح لمستقبل الإسلام السياسي الذي قال عنه أحد أبناء الحركة الإسلامية يحب أن يسمى بالعرب الأفغان – هكذا يحب أن يقال عنه،وهكذا عرفه أحد الصحفيين المسيحيين الناطقين بلسان عربي على قناة تابعة قلبا وقالبا لأمريكا- بأنه في الواقع لم يعد موجودا.فهكذا ومن غير مقدمات أصبحت الفكرة التي سلت لأجلها السيوف من الأغماد،وببساطة شديدة غير موجودة وكأنها لم تكن من قبل،فمن الذي غيرها،ومن الذي أوجدها؟.لقد كان التقليد الببغائي هو الدافع القوي للكثيرين من الذين يتنطعون بالحديث عن الحركة الإسلامية،وواجب الدعوة،وأن مشروطية نجاح الأمة كامن في العودة إلى الكتاب والسنة ،وكما يقول الكاتب والمفكر الكبير رشدي فكار رحمه الله "لدينا إمكانات هائلة حتى إننا نتقيأها ولكن ليس لدينا القدرة التي تجعل هذه الإمكانات ذات فائدة " وهذا يصدق على الإسلاميين في الجزائر الذين يحسنون تقيؤ ما كانوا يقرأونه،في كتب ،أصبحت الآن تباع على الأرصفة،من طرف شباب لا يعرفون حتى قيمتها.لا يمكن أن يوضع الجميع في سلة واحدة أو يتساووا في نفس المقام ،ولكن الحديث عن أولائك الذين صموا آذاننا بالحقد على النظام حتى قال لي أحد الشباب بعد أن نضج ودرس أمهات الكتب وعن العلماء الأجلاء كالشيخ محمد الغزالي ،ومتولي الشعراوي،والقرضاوي.لقد كنت مهووسا بأن كل شئ لا يصلح إلا هم،ولو لا أن الله ساقني بسلاح العقل حسب "مارتن هايدي"" – إن أخطر سلاح في القرن الحالي هو سلاح العقل" لكنت اليوم من المجانين.لقد تبين لهذا الشاب أن الذين كانوا ينظر إليهم بوقار ،وكانوا على المنابر يصرخون بمعاداة الشيطان أصبحوا هم الشياطين،يطعنون ويأكلون لحم بعضهم البعض .وأعطاني صديق معلومة بأن أكبر حالات الطلاق هي في الوسط الذي كان يتصنع الورع والدعوة إلى الله.وقليلون هم من تبثوا على الخط المستقيم.بل وجدنا من أصبح يستعمل الدعوة في الله،ومساعدة الآخرين،كجمع الزكاة باسم المساكين والضعفاء،ديدنا له من أجل مكسب مادي رخيص.إن الدور الذي كان ينبغي أن تلعبه الحركة الإسلامية هو الدخول إلى الحلبة السياسية،بصحة صحيح،لا بعلة عليل.وصحيح أن الأفكار تتغير،لكن المبادئ تبقى نفسها.وتبقى الاستمرارية على طبيعتها،ولا يضر بعد ذلك إن كانت الهزيمة ،فالحرب دائما سجال ،كر وفر.أما أن ينساق الجميع نحو أفعال يأباها الشيطان بحجة أن السياسة تفتي بذلك،وأن الأعداء كثر،مبررين استعمال الكذب الذي هو ثلث النفاق.فذلك لعمري هو الافتراء عينه،والردة المبينة.فمن يستطيع تصديق خطابات الحركة الإسلامية بعد أن دفنت نفسها قبل أن تدفنها السلطة ويكبر على قبرها بأربع عبد العزيز بوتفليقة؟.وإن كان لهؤلاء الإسلاميين من كلام فليسألوا أنفسهم،لماذا لم يزوروا الشيخ أحمد سحنون أب الحركة الإسلامية في الجزائر في بيته ،حتى وافته المنية،ومات وهو "يردد الإخلاص أخلاص".أم أن السياسة شغلتهم،وذهب بعقولهم الجري وراء المغانم،والتسقط أمام السلطان،ونهش لحم بعضهم بعضا ولهذا السبب الحركة الإسلامية في الجزائر لم تعد تشكل خوفا على الإطلاق بالنسبة للنظام الجزائري؟؟